شاعر مصر
علي محمود طه
دعوت خيالي فاستجابت خواطري | و حدّثني قلبي بأنّك زائري |
عشيّة أغرى بي الدّجى كلّ صائح | و كلّ صدى في هدأة اللّيل عابر |
أقول من السّاري ؟ و أنت مقاربي | و أهتف بالنّجوى و أنت مجاوري |
أحسّك ملء الكون روحا و خاطرا | كأنّك مبعوث اللّيالي الغوابر |
و مثّل لي سمعي فخلتها | صدى نبإ من عالم الغيب صادر |
سوى خطرات من بنان رفيقة | طرقت بها بابي فهبّت سرائري |
عرفتك ، لم أسمع لصوتك نبأة | و شمتك ، لم يلمح محيّاك ناظري |
أرى طيف معشوق ، و أرى روح عاشق | ارى حلم أجيال ، أرى وجه شاعر |
***
| |
إليك ضفاف النّيل يا روح حافظ | فجدّد بها عهد الأنيس المسامر |
و ساقط جناها من قوافيك سلسلا | رخيما كأرهام النّدى المتناثر |
سرت فيه أرواح الندامى ،و صفّقت | كؤوس على ذكر الغريب المسافر |
نجيّ اللّيالي القاهريّات : طف بها | خيالة ذكرى ، أو علالة ذاكر |
و جز عالم الأشباح ، فاللّيل شاخص | إليك ، و أضواء النّجوم الزّواهر |
و طالع سماء في معارج أفقها | مرحت بوجدان من الشّعر طاهر |
و سلسلت من أندائها و شعاعها | جنى كرمة لم تحوها كفّ عاصر |
تدفق بالخمر الإلهيّ كأسها | فغرّد بالإلهام كلّ معاقر |
على النّيل روحانية من صفائها | ولألاء فجر عن سنا الخلد سافر |
فصافح بعينيك الدّيار فطالما | مددت على آفاقها عين طائر |
و خذ في ضفاف النّهر مسراك ، و اتّبع | خطى الوحي في تلك الحقول النّواضر |
حدائق فرعون بدفّاق نهرها | و جنّته ذات الجنى و الأزهار |
و في شعب الوادي ، و فوق رماله | عصيّ نبيّأو تهاويل ساحر |
صوامع رهبان ، محاريب سجّد | هياكل أرباب ، عروش قياصر |
سرى الشّعر في باحاتها روح ناسك | و ترديد أنفاس ، و نجوى ضمائر |
و همس شفاه تمثّل الرّوح عنده | و تسبح في تيه من السّحر غامر |
هو الشّعر ، إيقاع الحياة و شدوها | و حلم صباها في الرّبيع المباكر |
و صوت بأسرار الطّبيعة ناطق | و لكنّه روح ، و إبداع خاطر |
و وثبة ذهن ، ينقص البرق طائرا | و يغزو بروج النّجم غير محاذر |
فيا درّة لم يحوها تاج قيصر | و لا انتظمت إلا مفارق شاعر |
تألّه فيه القلب و استكبر الحجى | على دعة من تحتها روح ثائر |
إذا اعترض الجبّار ضوءك شامخا | تلقّيته كبرا ببسمة ساخر |
لمست حديد القيد فانحلّ نظمه | و أطلقت أسرى من براثن آسر |
و ما زدت في الأحداث إلاّ صلابة | إذا النّار نالت من كرام الجواهر |
يزيّن بك الرّاعي سقيفة كوخه | فتخشع حيرى نيّرات المقاصر |
أضاعوك في أرض الكنوز ، و ما دروا | بأنّك كنز ضمّ أغلى الذّخائر |
و هنت على مهد الفنون ، و طالما | سموت بسلطان من الفنّ قاهر |
إذا افتقد التّاريخ آثار أمّة | أشرت بما خلّدته من مآثر |
سلاما ، سلاما ، شاعر النّيل : لم يزل | خيالك يغشى كل ناد و سامر |
و شعرك في الأفواه إنشاد أمّة | تغنّت بماض و استعزّت بحاضر |
هتفت بها حيّا ، فلا تأل خالدا | هتافك ، و انقض عنك صمت المقابر |
صداك ، و إن لم ترسا الصّوت ، مالىء | سماع البوادي و القرى و الحواضر |
و ذكراك نجوى البائسين ، إذ هتفت | قلوب ، و حارت أدمع في المحاجر |
يدلّ عليك القلب أنّات بائس | و نظرة محزون ، و إطراق سادر |
و ما أنت إلاّ رائد من جماعة | توالوا تباعا بالنّفوس الحرائر |
صحت باديات الشّرق تحت غبارهم | على شدو أقلام و لمع بواتر |
و في القمم الشّماء ، من صرخاتهم | صدى الرّعد في عصر الرّياح الثّوائر |
يضيئون أفق الحياة كأنّهم | على شطّها النائي منارة حائر |
فيا شاعرا غنّى فرقّ لشجوه | جفاء اللّيالي ، و اعتساف المقادر |
لك الدّهر ، لا ، بل عالم الحسّ و النّهى | خميلة شاد آخذ بالمشاعر |
فنم في ظلال الشّرق ، و اهنأ بمضجع | نديّ بأنفاس النّبييّن عاطر |
و وسّد ثراه الطّهر جنبك و انتظم | لداتك فيه ، فهو مهد العباقر |