شوقي
هجر الأرض حين ملّ مقامه | و طوى العمر حيرة و سآمه |
هيكل من حقيقة و خيال | ملك الحبّ و الجمال زمامه |
ألهم الشعر أصغريه فرفّا | في فم الدّهر كوثرا و مدامه |
سلسبيل من حكمة و بيان | فجّر الله منهما إلهامه |
تأخذ القلب هزّة من تسا | قيه و ينسى بسحره آلامه |
غمر الأرض رحمة و سلاما | و جلا الكون فتنة و وسامه |
مالئا مسمع الوجود نشيدا | علّم الطّير لحنه و انسجامه |
ماله و الزّمان مصغ إليه | ردّ أوتاره و حطمّ جامه؟ |
روّع الطّير يوم غاب عن الأيـ | ـك و سالت جراحها الملتامه |
ما الذي شاقه إلى عالم الرّو | ح؟ أجل تلك روحه المستهامة! |
راعها النّور و هي في ظلمة الكو | ن فخفّت إليه تطوي ظلامه |
هي بنت السّماء و هو من الأرض | سليل نما التّراب عظامه |
فاهتفوا باسمه فما مات لكنّ | آثر اليوم في السّماء مقامهّ |
***
| |
حدثتني الرّياض عنه صباحل | ما لصدّاحها جفا أنغامه؟ |
و شكا لي النّسيم أول يوم | لم يحمّله للحبيب سلامه |
و تسمّعت للغدير ينادي | ما الذي عاق طيره و حيامه ؟ |
أتراه ترشفّ الفجر نورا | أم شفى من ندى الصّباح أوامه |
و رأيت الجمال في شعب الوادي | ينادي بطاحه و إكامه |
صارخا يستجير شاعره الشّا | دي و يدعو لفنّه رسّامه |
فتلفّت باكيا و بعيني | شبح تخطر المنون أمامه |
هتف القلب بالمنادين حولي | لقي الصّداح الطّروب حمامه |
فاذكروا شدوه بكلّ صباح | و ارقبوا من خياله إلمامه |
و املأو الأرض و السّماء هتافا | عله لم ير الصّباح فنامه |
لم يرعني من جانب النّيل إلاّ | كرمة فةقها ترفّ غمامه |
تحت ساجي ظلالها زهرة تبـ | ـكي و في فرعها تنوح حمامه |
عرفتها عيني و ما أنكرتها | من ظلام و وحشة و جهامه |
قلت يا كرمة ابن هاني سلاما | ليس للمرء في الحياة سلامه |
نحن لو تعلمين أشباح ليل | عابر ينسخ الضّياء ظلامه |
و الذي تلمحين من لهب الشّمـ | ـس غدا يطفئ الزّمان ضرامه |
و الذي تبصرينه من نجوم | فلك يرصد القضاء نظامه |
و المراد المدلّ الورد زهوا | كالذي أذبل الردّى أكمامه |
عبثا تنشد الحياة خلودا | و نرجّي الصّبا و نبغي دوامه |
إنّما الأرض قبرنا الواسع الرّحـ | ـب و في جوفه تطيب الإقامه |
أودع القلب في آلامه الكبـ | ـرى و ألقى ببابه أحلامه |
نسي النّاعمون فيه صباهم | و سلا المغرم المشوق غرامه |
فامسحي الدّمع و ابسمي للمنايا | إنّ دنياك دمعة و ابتسامه !! |
***
| |
أيّها المسرح الحزين عزاء | قد فقدت الغداة أقوى دعامه |
ذهب الشّعر الذي كنت تستو | حي و تستلهم الخلود كلامه |
واهب الفنّ قلبه و قواه | و المصاب فيه ودّه و هيامه |
ربّ ليل بجانبيك شهدنا | قصّة الدّهر روعة و فخامه |
أسفر الشّعر عن روائعه فيها | و ألقى عن الخفاء لثامه |
فأعد عهده و أحي لياليـ | ـه و جدّد على المدى أيّامه |
و لك اليوم همّة في شباب | ملأوا العصر قوّة و همامه |
نزلوا ساحة يشيدون للمجـ | ـد و شقّوا الحياة زحامه |
فاذكروا نهضة البيان بأرض | أطلعت في سمائه أعلامه |
إنّها أمة تغار على الفنّ | و ترعى عهوده و ذمامه |
لم تزل مصر كعبة الشّعر في الشّر | ق، و في كفّها لواء الزّعامه |
إنّ يوما يفوتها السّبق فيه | لهو يوم المعاد يوم القيامه !! |