سقاها وحيّا تربها وابلُ القطرِ
سقاها وحيّا تربها وابلُ القطرِ | وإن أصبحت قفراءَ في مهمةٍ قفرِ |
طواها البلى طيَّ الشحيحِ رداءَه | وليس لما يطوى الجديدانِ من نشرِ |
مَرابضُ آسادٍ ومأوى أراقِمٍ | تجاوَرُ في قيعانِها الغيلُ بالجُحر |
يكادُ يَضلُّ النجمُ في عَرَصاتِها | ويزوَرّ عن ظلمائِها البَدرُ من ذُعرِ |
لقد فَعَلت أيدي السوافي بنؤيها | وأحجارها ما يفعل الدهر بالحر |
وَقَفتُ بها في وَحشةِ الليل وَقفةً | أثارَ شجاها كامِنُ الوجد في صَدرى |
ذكرتُ بها العَهدَ القدِيمَ الذي مضى | ولم يَبقَ منهُ غيرُ بالٍ من الذكر |
وعيشاً حَسِبناهُ من الحُسنِ رَوضَةً | كساها الحيا منهُ أفانينَ من زَهر |
فأنشَأتُ أبكي والأَسى يتبع الأَسَى | إلى اَن رأَيتُ الصخرَ يَبكي إلى الصخر |
وما حيلةُ المَحزُونِ إلا لواعجٌ | تفيضُ بها الأحشاءُ أو عبرَةٌ تَجري |
وما أنسَ مِ الأَشياءِ لا أنسَ ليلةً | جَلاها الدُجى قَمراءَ في ساحةِ القَصرِ |
كأنَّ النجومَ في أديمِ سمائِها | سَفائِنُ فَوضَى سابحاتٌ على النهر |
كأنَّ الثريا في الدُجنةِ طرةٌ | مرصعةُ الأطرافِ باللؤلؤِ النَثرِ |
كأن السُّهَا حقٌّ تعرضَ باطلٌ | إليه فألقى دونَه مُسبَلَ السِّترِ |
كأن الدجى فحمٌ سَرى في سَوادِه | من الفَجر نارٌ فاستحالَ إلى جَمرِ |
كأنَّ نَسيمَ الفَجرِ في الجوِّ خاطرٌ | من الشعر يَجري في فضاءِ من الفكرِ |
وفي القَصرِ بين الظلِّ والماءِ غادَةٌ | تَميسُ بلا سُكرٍ وتَنأى بِلا كِبرِ |
تُريكَ عيوناً ناطقاتٍ صَوامِتاً | فما شئتَ من خَمرٍ وما شِئتَ من سِحر |
لهوتُ بها حتَّى قَضَى الليلُ نَحبَهُ | وأدرجَهُ المِقدارُ في كَفَنِ الفَجرِ |
لعمركَ ما راحت بِلُبّى صَبَابةٌ | ولا نازعتني مُهجَتِي سورةُ الخَمرِ |
ولا هاجَني وجدٌ ولا رسمُ مَنزلٍ | عَفاءٍ ولكن هكذا سنَّةُ الشِّعرِ |
ومَن كان ذَا نفسٍ كنفسي قريحةٍ | من الهمّ لا يُعنى بوصلٍ ولا هجَرِ |
كأني ولم أسلخ ثلاثين حِجّةً | ولم يَجرِ يوماً خاطرُ الشيّبِ في شَعري |
أخو مائةٍ تَمشي الهُوَينا كأنَّه | إذا ما مشى في السّهلِ في جَبَلٍ وَعر |
إذا شابَ قلبُ المرءِ شابَ رجاؤُه | وشابَ هواهُ وهوَ في ضَحوةِ العُمرِ |
حَييتُ بآمالي فلمّا كَذَبنَنِي | قنعتُ فلم أحفِل بِقُلٍّ ولا كُثرِ |
وأصبحت لا أرجو سِوَى الجَرعةِ التي | أذوقُ إذا ما ذقتها راحةَ القبر |
وليسَت حياةُ المرءِ إلا أمانياً | إذا هي ضاعت فالحياة على الإِثر |
جزى اللَه عني اليأسَ خيراً فإنه | كفاني ما ألقى من الأملِ المر |
وراضَ جماحي للزمان وحُكمِه | بما شاءَ من عدلٍ وما شاءَ من جُور |
فما أنا إن ساءَ الزمانُ بساخطٍ | ولا أنا إن سر الزمانُ بِمُغتَر |
إذا ما سفيهٌ نالني منه قادِحٌ | من الذمّ لم يُحرِج بموقِفه صَدري |
أعودُ إلى نفسي فإن كان صادِقاً | عَتَبتُ على نفسي واصلحت من أمري |
وإلا فما ذنبي إلى الناس إن طغى | هواها فما ترضى بخيرٍ ولا شر |
أمولاي عذراً إن للهم صرعةً | تطير بسر المرءِ من حيث لا يدري |
وإني لأتحيي لقاءَكَ شاكياً | وأنت الذي ألهمتني خلق الصبرِ |
وأوردتني من بحرِ علمِكَ مَورِداً | أمنتُ به الكفرانَ في موضعِ الشُّكر |
لك القلمُ العضبُ الذي فل غربه | من الشرك ما أعيى على البيض والسمر |
إذا جن ليل الشك طلى ظلامه | بفجرٍ من الآيات والحججِ الغُرِّ |
لك العزةُ القعساءُ والسؤدد الذي | تخرّ لديهِ هامةُ الأنجمِ الزُّهرِ |
وما صاحبُ العرشِ المُدِلِّ بتاجِه | بأعرقَ مَجداً مِنكَ في مَوقِف الفَخر |
وكَم بَينَ عَرشٍ من لجينٍ وعَسجدٍ | يُصاغُ وعرشٍ من سناءٍ ومِن ذِكر |
وكم بَينَ مَجدِ الدين والعلم والتقى | ومجدِ القصُورِ الشم والعَسكَر المَجرِ |
لكَ النائِلُ المعروفُ غيرَ مكدِّرٍ | تُشَيِّعُهُ بَين الطَلاقَةِ والبِشرِ |
إذا ابتدرَ الناسُ المكارَمَ نِلتَها | بسابقِ عَزمٍ لا يَملُّ مِنَ الحصرِ |
فلا زلتَ مَهدِياً ولا زلتَ هادِياً | تروحُ إلى خَيرٍ وتغدُو إلى بِرّ |
ولا زَالَتِ الأَعيادُ تَترَى وفودُها | بما شِئتَ مِن عزٍ وما شئتَ مِن عُمرِ |