العشاق الثلاثة
سرى القمر الوضّاح بين الكواكب | يفكّر فيما تحته من غياهب |
فناداه من وادي الخليّين هاتف | بصوت محبّ في الحياة مقارب |
يقول له : يا روعة الحسن و الصّبا | و أجمل أحلام اللّيالي الكواعب |
أنا العاشق الوافي إذا جننّي الدّجى | و راعيك بين النّيرات الثّواقب |
ألا ليتني حرّ كضوئك أرتقي | عوالمك الملأى بشتّى العجائب |
و يا ليت لي كنز ابتسامتك التي | تبعثرها في الكون من غير حاسب |
***
| |
فاصغي إليه الضّوء في صفو جذلان | و أضفى على الوادي شعاع حنان |
و جاس خلال السّحب و الماء و الثّرى | فلم ير في أنحائها وجه إنسان |
فصاح به : يا صاحبي ضلّ ناظري | فأين ترى ألقاك أم كيف تلقاني |
فأوما له إنّي هنا تحت شرفتي | وراء زجاجيها أخذت مكاني |
أبى البرد أن أستقبل اللّيل قائما | و أن أنزل الوادي بحيث تراني |
و حسب الهوى من عاشق لك وامق | تزوّد عيني من سنا ضوئك الحاني ! |
***
| |
فألقى عليه الضّوء نظرة حائر | و أعرض عنه بابتسامة ساخر |
و قال له : يا صاحبي قد جهلتني | و يا ربّ شعر ساقه غير شاعر |
أنا الموثق المكدود طالت طريقه | طريق أسير في رعاية آسر |
تجاذبني طاحونة الشّمس كلّما | وقفت و تمضي بي سياط المقادر |
و ما بسمتي إلا دموع من اللّظى | قد التمعت في وجه سهمان حاسر |
فدع عنك يا أعجوبة الحبّ عالمي | فقبلك لم يلق الأعاجيب ناطري ! |
***
| |
و أمعن في تفكيره القمر الزّاهي | فمر بارض ذات عشب و أمواه |
يناجيه منها عاشق ذو ضراعة | مناجاة صوفيّ لطيف إله |
بقول له : يا مشهدي كلّ ليلة | على أنّه في النّاس من غير أشباه |
و ترسم لي الأشباح طيف خياله | فأدنو لضمّ أو للثم شفاه |
تمنّيت لو وسّدت خدّك راحتي | و صدرك خفّاق ، و جفنك ساهي |
***
| |
فرفذ على الوادي الشّعاع طروبا | و ناداه من بين الظّلال مجيبا : |
أزح هذه الأغصان عنك لعلّني | أصافح و جها ، من هواك حبيبا |
فجاوبه : يا قرّة العين إنّني | قد اخترت من شطّ الغدير كثيبا |
إذا أتعبت عيني السّماء تطلّعا | و خالست احظا للنّجوم مريبا |
ففي صفحات الماء نهزة عاشق | يراك على بعد المزار قريبا |
خلوت به ، أرعاك أو في قسامة | و أوفر من سحر الجمال نصيبا ! |
***
| |
فغاض ابتسام الضّوءمن فرط حيرة | و صاح : نجييّ أنت حقّرت سيرتي |
هو الكون مرآتي ، و مجلى مفاتني | و ما لغدير أن يمثّل صورتي |
و ما نظر العشّاق إلاّ لعالم | يعظّم في المعشوق كلّ صغيرة |
أعيذ الذي شبّهتني بجماله | أديم محيّا مثل صمّاء صخرتي |
أنا الفحمة البيضاء إن جنّني الدّجى | أنا الحمّة السوداء ، رأد الظهيرة |
فدع عالم الأفلاك و اقنع بلجّة | و غازل من الأسماك كلّ عزيرة ! |
***
| |
و بينا يهيم الضّوء في سبحاته | و قد وعظ هذا الكونفي سخرياته |
رأى شبحا في قرب نار كأنّما | يودّع طيفا غاب عن نظراته |
يمدّ ذراعيه ، و يرسل صوته | بلوعة قلب في نبراته |
إلى القمر السّاري محيّاه شاخص | كصاحب نسك غارق في صلاته |
فحام عليه الضوء و استمهل الخطى | و أجرى سناه الطّلق في قسماته |
و صاح به : يا شيخ ما أنت قائل | تكلّم ! فإنّ اللّيل في أخرياته |
***
| |
فقال له : يا باعث الحبّ و المنى | سلمت و حيّتك العوالم و الدّنى |
شفيت جوى شبخ أحبّك يافعا | و عاش بهذا الحبذ جذلان مؤمنا |
و أفنيت عمري أرتقي عالي الذّرى | إلى أن بلغت اليوم مثواي ههنا |
و أوقد ناري كي تراني و أنثني | لأطلق ألحاني ، و أدعوك موهنا |
و قيل ضنين لا يجود بوصله | فهأنذا ألقاك يا ضوء محسنا |
تساوت كلاب تنبح البدر ساريا | و نوّام ليل أنكروا آية السنا ! |
***
| |
فحدّق فيه الضّوء و ارتد مغضبا | و قال له : أفنيت في سخفك الصّبا |
و لمّا ترح جفنا من السّهد متعبا | و سخرية بالنّار ، أن تتفرّبا |
كأنّ شعاعي في جفونك قد خبأ | و من عبث مثواك في هذه الرّبى |
على حين لم تبلغ من النّور مرقبا | و ما كنت إلا ّ الواهم المترقّبا |
وثالث عشّاق بهم ضقت مذهبا | و كانوا لأمثال الخليذين مضربا |
فوا أسفا ، ما كنت في الدّهر مذنبا | فأجزي بنجوى من تعشّق أو صبا |
و ساق على حبذي الدليل المكذّبا | سل العاصي الهاوي من الخلد هل نبا |
به اللّيل لمّا آثر الأرض و اجتبى؟ | أ أبصر قلبي الدّجنّة كوكبا |
أضاء له الدّرب السّحيق المشعّبا | و هل في سنا غيري تملّي و شبّبا |
بحواء و اهتاج اليراع المثقّبا | حويتهما روحا طريدا معذّبا |
فذاب حيائي منهما ، و تصبّبا | و أورثني هذا الشّحوب ، و أعقبا |
رأيت فمّا يدنو ، و وجها تخضّبا | و صدرا خفوقا فوق صدر توثّبا |
غرائز فيها الغيّ و النقص ركّبا | تلمّس في ضوئي الأثام المحبّبا |
فيا شيخ دع هذا الوشاح المذهّبا | تر الحمأ المسنون في الكأس ذوّبا |
طفا الرّاح فيه ، و التراب ترسّبا | و إنّ كلاب الأرض أشرف مأربا |
ينير لها ضوئي الظّلام لتجنبا | خطى اللصّ يستار الطّريق المحجّبا |
فإن نبحت ضوئي ، تسمّعت معجبا | بأرخم لحن ، رنّ في اللّيل مطربا |
تحيّة مثن بي أهلّ مرحّبا | بني آدم ، إن لم يكن آدم الأبا |
رجوت لكم من عالم الرّجس مهربا | و آثرتكم بالكلب جدّا مهذّبا |
و أجمل بالإنسان أن يتكلّبا
| |
و مال عن الأرض الشّعاع و غرّبا | و وسوس فس صدر الدّجى فتألّبا |
***
|