الرئيسية » » أسمال لا تتذكر دم الفريسة | محمد الحرز | العدد الخامس والستون | سلسلة كتاب الشعر

أسمال لا تتذكر دم الفريسة | محمد الحرز | العدد الخامس والستون | سلسلة كتاب الشعر

Written By هشام الصباحي on الاثنين، 29 سبتمبر 2014 | سبتمبر 29, 2014

                            


                                الأصدقاء


عندما نستسلم للحكايات , ويكون السرد دليلنا إلى المصب تصبح أجسادنا أكثر خفة 

من الهواء 

, ويكون علينا عندئذ أن نعير قاماتنا للريح التي ألفناها في الحانات البعيدة . أليس من المدهش أن 

نكون أكثر خفة من كائن ميلان كونديرا ؟! حيث نمضي إلى بيوتنا مثل فراشات, لكأن البيت 

ذاته 
حقل أضاع الطريق إلى الغابة . خذ تلك الحكايات إلى أصدقائك الخارجين للتو من نعاس الكلام 

, ولا تتركهم عالقين بين ضلعين في الصدر , ألا يكفي  أن تكون الأوهام هي ضفتنا التي 

نرتادها كل يوم .



الأصدقاء الذين يذهبون إلى الحياة في عريها الطفولي دون خجل أو خوف , الأصدقاء الذين 

يوزعون رغباتهم على المارة من البائسين , وأحلامهم على نساء المدينة , هم وحدهم الذين 

يقاومون الموت بالكلام , وحدهم من يتلقى نظراتنا قبل أن تصطدم بقعر الهاوية , ولا أظنك 

سوى واحد من هؤلاء الفريدين أيها الهواء!!.


                                               




                        خطأ كبير.... تلك هي الحياة !!
                                  (1)


خطأ كبير تلك هي الحياة , خطأ يشبه الفراغ الذي تقع عليه أبصارنا عندما ننتهي من 

قراءة آخر 

صفحة من كتاب أحببناه , لأنه يعيدنا إلى البيت الذي قطعت فيه القابلة حبلنا الموصول بكينونة 

الرحم , ولن تكون الخطوة الأولى عسيرة على التذكر , فالأشياء من حولنا لا تجرح , ولا تغار من 

صرخاتنا المتعثرة بنفسها من شدة الإرباك , عندما تستحوذ على حيز من فراغ ذلك المنزل . لكنها 

تترك أجسادنا الطرية عارية كي تختبر أول أحساس يقاوم جاذبية الحياة .


فالأشياء والفراغ يدركان تماما ما يعنيه الإحساس الأولي للجسد . لذلك يذهب الاختبار إلى 

أقصى زاوية تتسم بالكشف والهتك , ليكون أول العارفين بعد أن يتحول هو نفسه إلى مغامرة 

عبثية . من هنا كانت ولادة العتمة التي سترافقنا إلى القبر كي تزيح عن الطريق العوائق للوصول 

إلى عالم الموتى . وليست ظلال أجسادنا في الحياة سوى العلامة الكبرى على تلك الولادة . لقد 


وقعنا في الفخ الذي توهمناه مجرد انعكاس للروح ؛ لأننا بكل سذاجة البشر , لم نطعم تلك 

العلامة , ونغذيها , لا من الأشجار , والزهر , والورود والشمس والثلوج , ولكن أطعمناها من 

موائدنا الدفينة في عمق الشعور الباطني , ولم يشذ عن القاعدة حتى الذين علمتنا سيرهم أنهم 

حولوا جاذبية الأرض إلى مجرد غيمة لا تمطر .


أيها الوشم لا تخفف من غلوائك , ربما يعبر سماءنا عصفور , فتحن الظلال إلى الظلال , ربما 

نعبر أرضا قاحلة ؛ فيموت ظلنا من الجوع والتعب. لا شيء واضح على الإطلاق في الدرب 

الذي نسلكه نحن والهواء , وكشريكين متخاصمين هو يتمدد في الريح , وعلى غصون الأشجار 

ونحن على الذكريات التي لجأت إلينا كي نكتبها قصيدة لا تشير إلى أحد سوى إلى نفسها .

لا شيء خاوٍ من اليقين , الخفة وحدها لا تميل إلى أي طرف , فالهواء والظل والفراغ ليسوا 

سوى حكاية الإنسان التي تقف على الحافة, عندما يتذكر بيته الأول .. عفوا.. فخه الأول . 

أليس من المعقول أن نسمي تلك المسيرة خطأ كبيرا ترتكبه الحياة ضدنا ؟!!.

 يمكننا أن نسمي المسافة ما بين الشجرة وجذورها مسيرة حياة بكل ما تحمل الكلمة من معنى , 

يمكننا كذلك أن نسمي المسافة ما بين الباب والعتبة مسيرة حياة أيضا , ولكن ما الذي يدعو المرء 

منا أن يقول : هذه حياة وليست فخ .


اللسان لا يعجز عن التفريق بين حروف الكلمتين , ناهيك عن البصر والسمع والأحاسيس 

الجسدية . لم يخامرني شعور بالشك أننا في متاهة اللعبة التي وضعنا

شروطها منذ الولادة , ولا زلنا نراهن العابرين عليها دون أن نعيد النظر في شروطها ناهيك عن 

اللعبة برمتها .


قال مرة إميل سيوران " قبل أن تكون خطأ في المضمون , كانت الحياة خطأ في الذوق , لم يفلح 
الشعر ولا حتى الموت في تصحيحه " . إن إحكام الباب , وإغلاق النوافذ هي وظيفتنا المحببة كلما 

داهمنا إعصار الكآبة والتفاهة البشرية مثل أفعى . ولكن لسبب غامض تظل النظرات مشدودة إلى 

نفسها ؛ كي تخترق هذا السد المنيع رغبةٌ تنقذ آخر رمق من سعادتنا . أليس هذا ما نسميه 

المستقبل .. المستقبل الذي لولاه لسقطنا في الرذيلة والكراهية, لسقطنا في الشراسة ؟!


 لذلك تقولون لي عليك بفتنة الإصغاء , لقد خبرت لذتها .لكن أن ندخل في عمق الإصغاء 

معناه أننا عانقنا أنفسنا مثل سؤال كما يقول رامبو , فشكرا على هذا العناق !!!.
                             



                                 (2)  



هذه الحياة التي أدعيها ليست هي ذاتها التي نطوّف بها على خشبات مهترئة في عرض البحر 

وأمام الأمواج المتدفقة , وكأنها ذلك الغريق الذي يحلم بالغرق لحظة الإنعتاق , لحظة الحقيقة التي 

نادرا ما نبصرها في لذة الكلام , وإشارة الأفكار وارتطامها على الرؤوس كصخرة .


ليست هي الحياة التي تخرج إلى الشارع كلما سقطت بلاغتنا على الأرض , وكلما تدفقت العزلة 

من ينبوع اللغة , وأصبح الشعراء عراة يلتقطون الحصى وكأنهم يلتقطون القصائد ؛كي لا يعبر ها 

البرابرة ولا الطغاة الذين جاؤوا من تحت جذور الأشجار قبل أن يجيئوا من قبور التاريخ .

أليست الحياة بهذا المعنى مجرد خدر يسري في الجسد بفعل الحمّى والهذيان , مجرد كرنفالات 

يقيمها الغجر الجوالون والمتسكعون على الحدود بين المدن ؟! أتساءل : ماذا تريد هذه اللغة التي 

نحاول الدخول بها في رهانات خاسرة على كلمة " الحياة ؟!

 صدقوني أشعر بحرارة أنفاسي في رئتي كلما حركت أحاسيسي جهة ماضيها المشدود إلى صخرة في 

عتمة البداهة والتأرجح بين ما نرغبه و بين ما تتناهبه الحقائق من أدلة تكشف مرارة الفاجعة , 

التي تحملها الأيام على دفعات . لا شيء يبقى في اليدين , لا شيء يبقى في مؤخرة الركب سوى 

الارتداد إلى ما كنا نسميه سياج الزهرة الذاتية . أنا لست أعلم كيف يدفعني هذا الإحساس


إلى تخطي أنوات الغير إلى أناي فقط ؟ ! . هل يمكن أن يكون قاموسنا اللغوي الشعري يحتمل 

مجموعة الكلمات التي تتواطأ ضد واقعنا المنزاح عن نفسه , وعن مخيلته , هل يمكن ذلك ؟!.

 أدرك في هذه اللحظة أنني أحاول القفز بدلا من الدوران , ولكن ما هو الفرق طالما عرفت أن 

أمامي القصيدة , وخلفي ذكرياتها , وما بينهما ربما أجمع هذه الحياة ذات يوم , وأقدمها قربانا 

لنفسي فقط , أو للواهمين مثلي من البشر .أتعلمون أن من تتعبه القصيدة لن يكون واهما , ليس 

في ذلك أدعاء , الادعاء هو الذي يعرّف نفسه للآخرين من خلال القصيدة فقط .

 ليس وهما من يرتكب الخطأ ويمضي به إلى صورته المعلقة في جدار بيته  دون ضجيج اللغة , أو 

همسات القصيدة في السمع . لطالما تنبأت أن قدرتي على التحمل يفوق تصوراتي عن اللذة 

والألم , ولكن ما أدركه الآن لا يتعدى كونه الشعور الأكثر طمأنينة لي في هذه المتاهة , 

وللقصيدة باعتبارها الوثيقة الرسمية التي ندعي أننا ننتمي إليها .

                                           


                   
                     
                   

                      كعادتهم  يدخلون الحانة..
                           
                             إلى الأصدقاء: أحمد الملا, عبدا لوهاب العريض,      
                                               

فتية الكهف يدخلون الحانة , ينامون كي يصحوا في اللامكان .وكعادتهم هؤلاء الأصدقاء عندما يدخلون ,لا أحد تحت الضوء يقول لهم : لا تتحلقوا حول الطاولة هكذا . أنتم أجمل عندما تنكسر الجرةُ ويسيل الزيت مثل خيط رفيع من الكلام على ثيابكم . لا تزيحوا المقاعد عن أماكنها , ثمة ملاك بينكم عما قليل سيرفع الليلَ إلى منتصف أكتافكم ولن يحتاج إلى جسر أو وتد . فقط لا تزيحوا المقاعد عن أماكنها . ربما نصف إضاءة تكفي ؛ كي تنظروا إلى الزهرة التي نبتت على الطاولة .


أجل أيها الصبية لن تتحول الزهرة إلى شجرة باللمس ما دامت أيديكم فارغة من الكأس , وكذلك نصف الرغبة تنسل من أحداقكم , والنصف الآخر ثمرة تتعفن في اليدين . لن تعودوا كما أنتم , فالزمن لا زال في غفوته , والطريق إلى الصحو يبدأ عند الجرعة الأولى .لكنها طويلة تلك الأعشاب التي نبتت على جانبيه, لا تكترثوا لموضع الأقدام على الأرض, سيمر الراعي وخلفه القطيع , حتى أحلام الموتى ستخلو منها القبور, وسيصبح الهواء خفيفا ونقيا




كالثلج الذي يعكس ضوء المصباح المعلق فوق رؤوسكم. ستمر وجوه كثيرة عليكم , الأفضل أن تكونوا كنوزا حتى تتسع الأحداق , وتمتد الأيدي,
وتتكاثر الأنفاس , ويجري الرمل في مسامات القدم مجرى الدم في العروق . وكالأغصان التي تتخلص من أوراقها اليابسة , لن يبقى منكم سوى الماضي الذي سيضمن له ملجأ تحت ضحكاتكم السافرة للعلن .



أنتم النائمون .. لا تصحوا... الديك جرّب أيضا أن ينام ويحلم بأغنية قديمة" لأم كلثوم" سمعها منكم وأنتم على مشارف الدخول. ولئلا تسقط الأحجار الثقيلة في بئر أحلامكم فتستيقظوا مرة ثانية , سيطلب النادل أن تلوحوا بأيديكم للعابر هناك , بالتأكيد سيكون المنحدر مضيئا , والأشجار ستطيعكم وتأتي من الغابة. كأن العيون في هذا المساء تترقب إغفاءة قصيرة في الممشى, حيث سيكون من الحكمة أن ترجعوا الثمار إلى الحقل ,البرق إلى السماء, الأسطورة إلى الألواح الأثرية ,المفاصل للجسد.الآلهة أرجعت أيضا الأسماء إلى أصحابها , فتعرفت الأشياء على الأشياء : النبيذ على لمعان الأسنان , نسمة الهواء التي تعبر الجبين على حواف الكأس , لهاث النكتة على ندم الإصغاء إلى قصائد " مريد البرغوثي" , الأحلام التي تركض بالزبد الطافي إلى البحر على الأسى الذي يطفر خلفها مثل ذئب .



 الفتية فتحوا الذكريات, ملؤها بالهواء المعقم, ثم انسلوا خفافا مثل العابرين تحت ظل كسير, تاركين خلفهم النوم أعزل ويتيما , يبكي عند المنعطف , وحينما عبروا الردهة كانت الحياة تومئ لهم بالرجوع, هنا توقفوا .. استداروا اكتشفوا أن الزهرة غاصت بألوانها في أحشاء القصائد . كان عليكم أن تحقنوا الرائحة بالمورفين , لسعة القصائد أقوى . أنظروا إلى فضاء الحانة , ستجدون قاسم حداد يقول لكم " أيقظتني الساحرة ", ولا مهرب من الشظايا التي تناثرت على أيديكم ووجوهكم , لكنكم تنسلون خفافا أيها الفتية.

                                                             


 












أسميتهم واحدا واحدا



لم تكن أبوابهم محكمة الإغلاق , ولا نوافذهم عالية أو واطئة , تركوا الفجر يتسلل من شقوق الحيطان , ثم استقبلوه بأيديهم التي جرّح جلدها الحفر عميقا في جدار الكلمات . استقبلوه ولن تجففه عتمةٌ تكبر في أساورهم المحيطة بالمعصم. أحلامهم لا تخرج إلى الشارع إذا ناموا , ولا أحذيتهم أيضا. ولأنهم تدرّبوا كثيرا على الركض في النوم , نبتت أجنحة قرب السرير, وجٌن الخشبُ عندما رأى طائرهم يحلق بعيدا في الأعالي . لم يذرفوا دمعة على جنازة أو غياب , كل ما هنالك أن الدموع جففتها المسامير التي ثُبتت على الباب , فكان الألم ُ متكلسا في العظام . وتلك البقعة التي تركها الضوء خلفه على البلاط ليست سوى ذكرياتهم. والغريب أنها لن ترجع إلى أدراج خزائنهم ثانية, لأنهم كشفوا الستائر عن النوافذ فبان بياض العالم .










لا شمس هناك لتنقذهم , ولا غصن تركه الأسلافُ على شجر الأيام يخضرُّ . ظنوا الريح ستأتي من ورائهم , لكنها فاجأتهم , وقالوا مُضاء هذا السيف في أيدينا !. مضوا آخذين الطريق كاملة ولم ينحرفوا عنها, استلقوا على الصخرة مرارا وتضللوا تحتها , حركوا الغيمة بأصابعهم فكان المطر ينهمر , ولم تكن القناديل مكسورة عند الارتطام بالأرض . قيل أنهم عالقون في الصوت الذي لا يعبر الحنجرة , وكذلك الرئة أيضا . لكنهم الآن نائمون قرب الضفاف ,وقد أسميتهم واحدا واحدا ولن أحتاج إلى حمائم كثيرة , ولا إلى قمح أيضا , تكفي رقصة واحدة , فيأتي الشجر مسرعا.

                                                                









    
جاؤوا إلى الحياة بلا سبب أو دليل
                              



جاؤوا إلى الحياة , على أكتافهم شجر الذكريات التي ورثوها من أسلافهم .لم يكونوا مصغين تماما إلى الضجة التي دارت حولهم . القابلة وحدها تدير الصلوات, وكأنها تدير الطحين في الرحى . صوتها كان خافتا , والأمهات من حولها يفسحن المجال للوارث الجديد .

 انزلقوا في الضجيج عندما لاحت لهم العلامة , ولم يكن في وسعهم التثبت من لونها , أو نعومة ملمسها . كانت العيون مجرد رسائل موجهة إلى الذين أحاطوا بالقلاع , أولئك هم حراس الحياة القادمون من رحم الأمهات بلا سبب أو دليل . لم يكبروا على حافة الهاوية التي جاؤوا بها من أعالي الجبال , كانت تلك خديعتهم التي سيطعمون بها وحوشهم الهائمة في البراري , وسيحتفظون بالعظام كلما احتاجوا إلى خديعة أخرى  يجذبون النهر إليها , ويسنون رماحهم بها كي تطول؛ حتى تقول قامة الشجرة : ستكون الظلال غائمة وحزينة أيها العابر .


 قيل أنهم فتحوا الكهوف كما فتحوا بلدان عديدة , وفي كل مرة يدخلون كانوا يرمون ملابسهم وحبالهم وأحذيتهم على الشاطئ , ولم يدرك الصيادون إلا لا حقا أن الشباك التي صنعوها بأيديهم لم تكن سوى أحلامهم التي تذهب مع كل موجة ولا تعود. ولأنهم لم يخلفوا وراءهم صورة معلقة على جدرانهم الكثيرة , يستدل بها الذين يأتون من الولادة بعدهم , قالوا عنهم أنهم أشباح الليل يخطفون الفوانيس من الطرقات , ومن عتبات المنازل الواطئة , ولا يتركون أثرا من قدم عرجاء , أو مشققة الجلد . فقط كانت أصواتهم تشق الهواء نصفين , وإلى الآن لم يشف الهواء , ولن يجد في صمغ الشجرة سوى تأجيل فكرة الموت .


 لم يتذكرهم أحد , ولا دار في خلد الصخرة التي يفيئون إلى ظلها أنهم سينقشون عليها أسماءهم واحدا واحدا , وسيكون عليها لا حقا أن تستغيث بكل الأمواج التي عبرتها في الحياة , ولن تجدي الملوحة إذا كان ثمة يد تنظف الجرح .

 زرعوا أفكارهم في جذور الأرض وقالوا للسماء أمطري !!. وعندما كانت أغصانهم تنمو , رأوا فيما يرى النائم أنها كانت تميل إلى السواد تارة , وإلى البياض تارة أخرى , بدل الاخضرار الذي دلقنا على وجهه لعاب الكلب حينما جاءنا بالنذير.




أقاموا طقوسهم في ظهيرة لم يجف عرق النسوة اللآتي حملن لهيبها في جرار الماء, ثم طفن به حول التعاويذ , ولم تجرؤ أقدامنا من الاقتراب حين سقطت حكايات السحرة من الجرار ذاتها . وخشية اصطدام أرواحهم بالعتمة دهنوا أبوابهم العالية بالضوء والفجيعة , وعلقوا نهاية الصرخة على المشاجب . لكنهم لم يستطيعوا فك القلائد من رقابهم .فقط يدارون لمعانها بأيديهم , ويخضبون جدائلهم المسدلة عليها بالغبار. ربما لن يخطئ النصلُ في المرة القادمة.



 تركوا على الطين المنهوب في الطرقات آثارَ مقابض أيديهم , ثم جففوها بالقساوة , وكلما عبر حطابٌ بفأسه , قبضوا على الشجرة , وأخرجوها من الغابة. أشادوا مساكنهم على الضفاف , ولم تكن أسوارهم عالية , رغم ذلك ,لم يجرؤ الضباب على التسلل , ولم يأخذ البحرُ سفنهم إلى القاع. مفرودة أشرعتهم كانت مثل جناحي طائر , وسينتظرون طويلا قبل أن يستسلم البحر للدوار, وسيكون على الغثيان أن يترك المرساةَ للغرباء, ولا بد للخشب الذي تلامسه الأيدي الآن أن يكون غريبا أيضا .







انجوا بالنبع قلنا , واتركوا لنا القطرات القليلة من الماء في الدلاء, لن تموت الزهرةُ في الإناء , ولن ينقرض الظلُ بسبب الجفاف, وليس كل غصن رأيتموه ذابلا هو عطشنا , وليس كل نعاس يتأجج في العيون هو صهيل نومنا . قميصنا لم يعبر التخوم , ولم تطفو على سطح البئر رائحته , لقد خُبئت في ثياب الأوصياء , وعصا الدليل انكسرت , واختفت اليابسة خلف التلال , ولم نكن هنا حينما لوّح الموتى بالمناديل . كنا نجوب الوديان , ولا نثق بأحد يشير بأصبعه إلى موضع الألم في ظهورنا , المرايا لا نثق بها أيضا ؛لأن أحدهم لمع زجاج العالم بفحيح الأفعى .


 السابلة ألقت علينا الحرير فاتشحنا به كما تتشح المحزونة بالسواد , فلم يعرف أولنُا آخرنَا , فقلنا: مدوا أيديكم , ولا تخبئوا العويل في الأكمام , حينها انكشف الخاتم العقيق , فعرفناه " الملك الضّليل " .






ولكن ما الفائدةُ ؟!!
الرسول لم يصل..
المعابر والجسور خفيفةٌ
والطائر انفلتَ من السرب ..

لا تطرقوا بابه هذا الواقف كعراف على باب المدينة
عيناه شاخصتان ناحية الأفق
تحت قدميه
العنب ينضج
وما من نبيذ ولا كؤوس!

لا تضعوا الطوابع والأختام في يديه
وتاجه لا تلمسوه
لأن نحاسه يصدأ في التراب

أين الرسالة؟!!
سكبنا الحبر السري على الدرب
بان حديدُ الأرض , ولم تظهر!.
                                                                       






                           طوفان الغريب

انحدروا من السفوح,جباههم الشمس والعرق ينز, ملحه على نواصي خيولهم يسيل كموجة أصابها المدّ فتاهت في الصحراء. ليس النبأ من شدّ سروجهم العالية, لكنّ أيد دفعتهم إلى المنحدر مثل شلال , ولم يكن عليهم التنصل من إشارة الغريب؛ لأن الوشم المحفور على ظهورهم لم يسدلوا فوقه الثياب.الطير ظنه شجرة الربيع تركض إلى النبع.

العائدون فزّعوا الألم النائم على العشب حينما مروا,لم تفاجئهم الطرائد بالفرار . ربما لم تكن النصال هي التي تلمع في أيديهم, كانت بروق وصاياهم تُضيء بينما أسمالهم لا تتذكر دم الفريسة ولا لحمها. المناجل لا ليحملوها إنما ليدفنوها مع القسوة ؛ كي يتذأب الرمل , ويفترس عتمته في باطن الأرض.



الخطايا لا ليجمعوها في خرق بالية , إنما لينثروها على قبور موتاهم كبذور الحنطة والشعير.يطوفون حول الأضرحة ولا ترياق في أصابعهم , إنما اللعنات. تناسلوا قرب الفجيعة ولهم من الأنساب أربعة عشر قمراً .



 يحرسون أحزانهم على أنْ لا تقع. ورغباتهم أنْ لا تُسرق, وخياناتهم أنْ لا تعود. عمدتّهم المرأة الأولى بالفتنة, فامَضَوا إلى المصائب التي أنجبتهم , فأنقذوا الماء وأهلكوا اليابسة. ثم أقاموا ممالكهم على الغرق.



 لم يؤمنوا بالطقس والتعاويذ قالت المرأة, ولا بالوحوش حين تُروض قالت الأخرى.لكنهم ألفوا الحياة على مسافة ذراعين من الأعداء . جاءهم الغريب قلنا لهن حينما نضبت أباريقهم من الندم , وأسرارهم من الهواء , وأصلابهم من النسل, وجواريهم من الطيب .


 ولئلا يغمرهم الطوفان مرة ثانية , فيتيهوا أربعين سنة حول المائدة ؛ أشار إليهم أنْ اتبعوني أنا يقظة الخيال وغيبوبته , غموض الرقصة ووضوحها , بوصلة التيه وتيه البوصلة, ما قبل الصرخة وما بعدها, الصياد والطريدة , اللمسة قبل القبلة وبعدها, النشوة قبل عرق الجنس وبعده , الخطيئة والمغفرة.








ولما التحمت الأضلاع كقفص من خشب وكآبة أوقفوه , وقالوا له : هناك في أسفل الوادي الألسن لا تقول , لا تتذوق , لا تتلوى, على وجه الكلمات لا تبلل ريقها . فلا ترمي المقصلة من يديك , وباغتْ العفةَ التي في الرأس قبل الصدر. لكنهم ثملوا من أول كأس يا ربي , وتلطخت حيطانهم بالتبغ والنجوم , فلا وقت لدي , ولا صبر ؛ كي أكسر عصاتك على صخرتين .


                                                 












                         

                        لا بد من هاوية


 لا بد من هاوية تعبرنا. ولن يغادرنا الماضي على الأرجح , ولكن اتركوه يقف على قدميه أمام العاصفة , واحنوا على شجره الذي يتساقط في الخريف.   

لن تتركوا أثرا يمر , وأنتم واجمون في المنعطف , لا تكونوا الرماح التي تُكسر بعد المعركة,أو الجنازة التي تبرأ منها العابرون . سيكون عليكم أن تفردوا أجنحة  لا للطيران , أو التخلص من رغبات الأرض , إنما لكي تمدوها للضفة الأخرى , هناك حيث يلتئم البحر والشاطئ في قلوب الذين جاؤوا قبلكم . عندها ستدركون أن الجسر تؤرقه المياه الآسنة , ولن يكون بمقدوره أن يحمل صرخاتكم تحت القميص.

 الراية لن تنعقد بدونكم, فكل أرض تعبرونها سيرث أبناؤها المعاول ولن يصدأ حديدها  , لذا لا تحتفظوا بالريح في تجاويف صخرة ,أو المغاور , أو الجحور التي تغمرها خديعة الذئاب . في كل خطوة تتقاطع بها أقدامكم , ستجدون الرمل يتبرأ من ذكرياته كما لو أنه عصفور انتفض حين لاحت له حريته من بعيد.


قولوا أنكم ذاهبون إلى فجيعة أخرى , سميتموها فيما بينكم الأرض المسورة بالنسيان والثكنات. حدث ذلك في غفلة اليد التي تدربت كثيرا على أخذ الأصوات من الأفواه حتى قبل أن تصل إلى الحنجرة .

أليس هي  حفيف الحمام الذي يغطي ريشه الأفق عندما كان الليل يفصد مع كل قنديل ينزف . ولولا الزيت لرأينا النهار بعصاه يجول في الدروب كأنه من أبناء الغجر الضاربين في الأرض بلا دليل . الدروب جميعها لا تشيخ , فلا تسابقوا الريح إلى الحقل , اتركوا الفسيل يكبر, هناك من ينتظر على الأبواب , فلا تمروا خفافا أيها النساكون .

 كان أناس قبلكم شمروا عن سواعدهم يوم كانت الصحراء جرداء لا يعبرها غيم أو قطيع .هم أخلاط قبائل نزاريون وعدنانيون , تحالفوا ولم تكن ثمة قلاع, أو حصون .

 عرفوا الماء في الجرار وليس في النهر , مالوا بخيامهم كما تميل وردة على نبع , لم يستفيقوا على صرخة , ولم يناموا على مكيدة . أيديهم مبسوطة , وقاماتهم تشبه السحاب. ظاعنون عند الضحى , لا يلجمون خطام ركائبهم إذا رغبوا , ولا تتناهبهم الجهات إذا ذهبوا . البعض لا تسيل ملامحهم على الوجوه إذا اشتدت الشمس عند الظهيرة , والبعض الآخر تسيل على الأكتاف لأنهم رشّوا الظهيرة بماء أرواحهم.


 لا يفترشون العشب وهم نائمون , بل وهم حالمون أيضا .صلاتهم تهليل وتكبير, لا يسجدون إلا والأرض قد أصغت إلى أسرارهم , والسماء قد حفظتها من الضياع, وعندما تلامس راحتهم وجباههم التراب لا يعلق الغبار, وإنما شيء آخر قلنا عنه تميمة , وقال عنه آخرون الاسم الأعظم, لكنه لا يبين.


صهيل خيولهم التي تجلجل في آذاننا , ليس مصدرها بطون الكتب فقط , إنما الصحراء. تلك  التي ورثناها من السلالة لم تبق الرنين عاريا . لقد ألبسته الحكايات , وقالت للأمهات: هناك على التلة أرضعن أطفالكن , ولا تلتفتن إلى الوراء, كالمهدور دمه . لذلك لمّعنا سيوفنا  وسردنا القصة كاملة على العالم, ولم نغمدها إلا بعدما شققنا الريح نصفين , الأول ألقينا به إلى سفننا وقلنا للبحر أذهب حيثما ذهبت , والآخر ربيناه في أحضاننا ليحفظ عزتنا عندما نشيخ ونكبر على الحياة .


 هي الغواية لا أقل ولا أكثر. يوم كنا أطفالا لم نحفظها , ولكن أُلقي بها في هاوية ظمائرنا , فكانت جرحا ووسادة ومطرا قديما. لم تجرفها المياه , ولا كان مصب عند المفترق , ولا دليل يهيأ سهلا أو منحدرا . كنا كالغرقى الذين يتنفسون , وكالسفن التي ألفت القعر , وكالخيط الذي ألِف الإبرة . وعندما



كبرنا تركونا للحيرة تأكل أطراف أصابعنا , فضاع الدليل , وتاهت الإشارة , وهرب المصب , وعادت الرئتان , وانكسرت الإبرة , ولم يبق سوى أن نستعير سياجهم أولئك الذين يقطنون في بقاع بعيدة .

 سياجهم الذي سنشد إليه خصورنا ثم نقول لبعضنا داروا على أنفسكم من السقوط . لا تنظروا أيها المغامرون, هكذا تقول دواخلنا كلما رفعوا رؤوسهم وأزاحوا الغشاوة عن بصر الطير وليس أبصارنا . ثم كان هناك حبل سري توهمنا أنه الحقيقة تضاء في أيدي القابلات , وذهبنا بعدها لا نلوي على شيء , ولا نصمت أو نقول .

 اليقين وحده يلمع كالأواني التي لم تستخدم في المطبخ , كالزجاج الذي لم يغبّشه الضباب , ولا تنفسُ العابرين . وحده يشدّ الندم فينا كي يستقيم. كبر ندمنا في الروح ولم يكبر في الجسد , أخذ شيئا لا يرد,  ملعقة من عسل في غفلة النحل , ثم أَولمَ بها المتسولين على بابنا, ولم يكونوا أبناء بل شيوخ قبائل , ونساء عجّزا حكيمات , وأميرات مدللات على رؤوسهن الزبرجد والآس .









هكذا نذهب كل يوم لنقف أمام   الكاميرات بجلال الصمت. وقبل تثبيت اللحظة , بأيدينا نغطي العدسة ؛ لأن خلف الباب من يتلصص على الصورة ولم يكن ثمة سياح أوغرباء , وسيكون علينا لا حقا أن نكسرها لا أنْ نزيحها  , أو نغلق عليها الخزائن والأدراج!.

                                                            

                 

                   












                             

 مجرد قوسين...


لا يساورني شك , فالأمر سيان بالنسبة إليّ . هناك من يقول : لا تذهب !! , وآخرون يرمون الحجارة على العتبات؛ كي يثيروا الذعر في الغبار , لا ألوي على شيء . فقط أقف هكذا متجردا من الذكريات السيئة للحائط الذي أمامي . لا ألوي على شيء . النداء الذي يخترق الجلد ليس له صوت ولا رائحة , أحاول لمسه بأطراف أصابعي أفاجأ بالجرح الذي يسد الطريق .

أستعين بالنظرات أتجاوز حدود دمي إلى آخر ثمرة يانعة في الروح , ولكن لا شيء ... لا شيء . النداء هو النداء , ربما توهمت أنها مجرد كلمة : لا تذهب , لا تسأليني الآن كيف كان ذلك ؟ تقولين : افتح قوسين واترك الكلمة داخلهما حتى تفقس مثل بيضة. أتقبل الأمر ولكن على مضض . أدعكِ تختارين الأقواس من بين الكلمات التي انتهت صلاحيتها مثل علب الساردين . لكنك لا تعلمين أن حياتي مجرد قوسين لا يوجد داخلهما سوى علامة استفهام فقط !!.    
                                                  







                      هـــذيان مجردٌ من اليـد


أبعد اليدين القذرتين عني . تحت الطاولة رنينٌ , والموتى من آذانهم يمارسون الجنس , والناس حول الضريح يقبّلون مؤخرة الكلام . صباحات عديدة غادرت الملابس والفوانيس , لم يبق سوى أنف ( جان غرنوي)* منسيا بين الخطوط الحمراء والبيضاء , والدليل غزالة تتجول على ظهر سفينة . كذلك السمكة رأيتها قفزت من النافذة .

 لا تأتي من الباب إلاّ المحجبات اللاتي تلفعن بالضجر, وبمحارة كبيرة تلتقي بالجوع في شعورهن المسدل على المشجب والسقف .

أبعدهما الآن , فالطريق إلى السكين صعبة ,وتحتاج إلى مدن كثيرة . أفكر بذهن فيلسوف : ساعة الحائط لم تنجب ,الرجل الذي يقتل حبيبته في آخر الرواية لم يخطف الوقت من بين عقربيها المتهالكين . لذلك لم تخرج المدن من الحظيرة , من عين المصيبة , من السترة الملقاة على ميت . ماذا لو وقفت الأصابع على السطح مثل مهرج؟ لو تدحرجت الريح إلى الأسفل ؟! . القاذورات تستيقظ على نباح الكلاب , والحلم يبحث عن ملجئ في الطعام .


وحدها اليدان عبرت قلبي متجهة إلى عين الذئب . أظن – كلمة أحبها لأنها لم تدخل مقبرة ولا كنيسة قط – الطرقات نائمة في الحافلات الذاهبة إلى كتاب مجهول , أو ربما جميع الأفكار نامت سواء في الرؤوس أو في إحدى صالات عرض الأفلام الوثائقية عن قارة أفريقيا .

العالم رأيته من نافذتي يجمع الأيدي لحريق هائل , المتشابهة منها خوّضت في اللعب ثم باعت المحراث في المزاد , والمختلفة ادّخرت الأوجاع والنباتات والحليب للضحك على كل رجل تعرى أمام حشرة لم تقل يوما " صباح الخير أيها الحجر " . رائحة الأسنان عالقة على الدرابزين , ولا زال الضحك يقاوم الفجيعة !! . الوقتُ مبكر على النوم , عظام العائدين من القلق حاكت نسيج مقاعدها من مغزل الرغبات .

 أيهما أقرب إلى الجبين العاري ... ! , المسافة والأقمشة عينان في الظهيرة , وفي المساء تصبحان نعاسا يذوب شيئا فشيئا في تجاويف صخرية عند مدخل السؤال , وبسبب غارة جوية تحرك الكرسيُ من مكانه بضع خطوات, لم يعتذر للراوي , فلا خوف إذن !. لكنّ الحسناء العارية فزعت من المنظر : ملاكٌ يتغوط على الحائط الذي يفصل بين السعادة والدماغ , وبسببه أيضا اليدان تتناسل إلاّ من الفراغ , الفراغ عينه هو من احتشد في الإبرة , في الفم الواسع الذي لم يُطْبق على شفتيه خوفا من الحكاية التي ابتلعته في السوق , وأمام آلاف من الناس . الموت كان بينهم – تيقنتُ من ذلك عندما انفرطت


المسبحة من يدي- يجمع لعابهم في قارورة مصنوعة من نهدين مكتظين بالأشجار .

 لم تركض هذه اليدُ يوما ما؛ لتعرف أتحول الماء نهرا في القارورة أم لا ؟! . لا تصعب الأمر , فالضوء ممددٌ على السرير , والمريض لا يعلم ذلك , ثم الزائرون هم  أنفسهم من تحولوا سائلا منويا يتململ داخل الخشب , والصرير الذي أسمعه الآن أهي الفكرة وقد نضجت ؟!! .

 أحببتُ تلك الأيدي التي تلوح في نشرات الأخبار مثل مناديل مطرزة بالكراهية والياقوت والسمسم . لم أجد حبا أطول منه في رمل الصحراء . ربما أضعتُ المسطرة التي أقيس بها مدى قربي من الشر أو بعدي عن الخير . قد يكون الانفجار وقع في أنبوب الزمن , رغم احتفاظي برغوته السائلة في ثلاجة المنزل , إلاّ أني اعتمدتُ كثيرا على الأدوية المنبهة التي كانت بعدد أصابع اليدين . هكذا أنتم ترون كيف يقع الخطأ من قمة عالية فتنكسر اليدان . أنا عاطلٌ في اليوم السابع لذلك يا شحاذيَّ المجنون : أبعد اليدين الـ ...

*/ بطل رواية العطر , باتريك زوسكيند .

  
                                               

                    


                              الحياة لا تذهب


 بين المرء والحياة ثمة ما يشبه العاصفة حينما تستوطن الطريق , ثمة ما يُنبئ عن شجر يخرج من الغابة مثقلا بالذكريات , وحين نسميّ الحياة ونقذف أحاسيسها عارية في البحر نكون قد فقدنا جزء من طفولتنا الصاخبة . أوليست العاصفة والذكريات مجرد مجاز!, لكنه المجاز الأقرب للحقيقة كلما أقنعتنا الحياة ذاتها أننا لسنا سوى كلمات مبهمة المعنى لا تخرج من حنجرة ألاّ إلى أخرى, كأنه قدر يفضي بها إلى الهاوية !.

 ماذا يمكن للمرء أن يقول غير ذلك , اللغة شرطنا الإنساني وبدونها لا يمكن لأحدنا أن يبرهن للآخرين أن حياته مستلقيةٌ على يديه مثل غانية , أن يستلَ إحساسا واحدا ليقول : الحياة لا تذهب بعيدا عن مخيلتنا .

 لستُ متأكدا تماما أن ما نتقول به عن حياتنا سوف لن يذهب إلى أعماق البحر, ويختبئ في إحدى صدفاته ولا خروج . عندها ينبغي أن نقتنع بالوهم لأنه وحده صلتنا الوثيقة بالحياة , ليس بالاعتبار الذي يقودنا إلى الضياع , لكنه الوهم الذي يحقن شرايينا بالحياة كلما انسلتْ الحياة ذاتها من الجسد .







أنه نسب نقدسه للحفاظ على ما تبقى من هويتنا المهدورة في الصحراء . أليست الاستعارة أسطورتنا الأولى نتكئ عليها كلما أردنا أن نعود بالذاكرة إلى البدايات !! أأقولُ البدايات... يا لوقع  صدى الكلمة على الجسد . كنتُ دائما أردد للأصدقاء : البدايات تتناهبها خطوتان: الأولى الوجع والثانية الموت . الوجع يفضي إلى النهايات , والموت يفضي إلى حقيقة الحياة , وما بينهما يظل المرءُ سادرا في الخيال , لا يقول أكثر مما تقوله اللغة على لسانه , ولا يتحرك أكثر مما يمليه عليه الجسد من إيقاع , وهو ما بين هذا وذاك قد تكون لحياته معنى مقدس , ولوجوده فضيلة تضاف إلى فضائل القدسين .











                               بين حياتين
                                                      إلى أحمد الملا

لا يكفي أن نكتب الشعر حتى نكون شعراء , ولا يكفي كذلك أن نصعد أعلى التلة حتى نكون مغامرين , ولا أن يقال أنه الجنون كلما وقفنا على حافة الكلمات تاركين أبصارنا تهوي إلى قاعها مثل آنية لا يخدشها الكسرُ إطلاقا . نعم أنه الجنون لكنه ليس ذاك الذي يفضي إلى جنونه في العراء , وليس إلى من كانت أيامه تركض خوفا من عناقه المخبول , إنما هو الجنون ذاته , هو ذاته بلا أسماء ولا ألقاب ولا جسد .

ربما كانت مصادفة أن يمضي الواحدُ منا في احتشاد الطريق إلى جنونه في الحياة بدلا من حياته في الجنون !! .. وأزعم أن أحمد الملا قد أحتوى الطريقين دون مواربة أو تلكأ : جنون الشعر وجنون الحياة وما بينهما هو مجرد إنسان لم يغادر أسئلته حينما سكب فضتها في الشارع , وكذلك أحلامه حينما علقها على النخلة ذاتها التي خطفت حياة أبيه ذات مكان .

 أليس الجسد عندما يصبح على حافة طريقين متعاكسين هو وهم آخر يضاف إلى وهم الحياة ذاتها ؟! أليس الجنون في عمقه هو صوت الحياة كلما انتقل من قصيدة إلى أخرى , ومن جسد إلى آخر ؟! أليس كذلك ياصديقي الأكثر جمالا من الكلمات !!.



قد أبدو موبوءا بالحياة بما يكفي , وليس مؤكدا أننا إزاء الشعر نملك القدرة على المقاومة : مقاومة الحياة والحب والجمال والحرية ..ألخ , ألا يكفي بعد ذلك أن يقال عنا أننا موبوء ون بالكتابة ومطعونون بما يأتي به العالم من مغامرة وضياع .

 أكان يفترض على أحمد الملا أن يذهب .. أن يقيم طقوسه على خرائط تهب فراغها للماضي وللمستقبل !! أكان عليه أن يكتب حتى نسميه شاعرا ! الأمر يبدو لي خلاف ذلك , من يعرف أحمد يدرك تماما أن شاعريته لا تكمن في علاقته بالكلمات فقط , وإنما حياته هي ذاتها شاعريته , وشاعريته هي ذاتها حياته دون تمايز أو تماثل يذكر .

ولأنه من الصعب أن نفرق , أن نبيع السهام دون قوسها , أن نعبر الشارع دون ضجيج المارة. لذلك نحن هنا نقرأ أحمد الإنسان .. أحمد الشاعر .. أحمد الصديق , ولنا أن نختار بعد ذلك أيّ جدار نصادفه أكان ذلك في اليقظة أم في المنام كي نعلمه كيف يقرأ شعر الملا على المارة , وكذلك العابرين إلى حياتهم في غابة الذكريات , كي نعلمه كيف يمارس حقه في  الصمت والتأمل قبالة الشعر , فهل نحن قادرون حقا على ذلك , قادرون على مجابهة الشعر وبالأخص ما يجيء وهو ممتلئ بالحياة وبالقلق والارتباك والأحاسيس الغامضة .






أحسبني أ جد في أحمد ما يفيض على الكأس , وكذلك على البوح والانزلاق في المتاهة , وهذا ما يجعلني أن أقول بكل بساطة الأشياء أنه يعيش الشعر وليس معه , إنه ذلك الذي يحفر بئرا في اللغة ليست المعاول وسيلته , وإنما يحفرها بإبرة الكلمات , الكلمات وحدها ولا غير !.

                                                     














                               أنا الوصيُّ


لستُ الغصن اليابس الذي انكسر على أيديهم , وأسمائي لا تفاجئني عند الأضرحة القديمة. أصابعي في الجمر, والرماد لا يُفصح. حطب كثير أودعته الكهوف, وقلت للفأس هذا هو العنكبوت. أسرارهم تركض في رأسي , وكذلك رغباتي. انظروا يقولون إلى النائم في مخيلة الشجرة, ولأن أبصارهم الشاخصة لا تكذب, أرخيت موتي على الجذع ؛ فاطمأن أخي على قميصي, ثم أسدل عليه النهر والكلمات .


 الرواة الذين جاؤوا بعدي طعنوا البحر في خاصرته ؛ فنفقت أمواجه ولم ترحل . أعلى من العاصفة كانوا, وأدنى من ذاكرة الماء. نكئوا جرح الخشب بأظافرهم المسننة , فسال دم أبيض على البلاط , وليس في القرية أفواه عطشى. وكعادتي عندما يتصلب قوسي , ويشيخ سهمي , وتنعاني النساء في خدورهن؛ أرجع لا اليدان قادرتان على تقشير الكلس عن الجدار الذي عُلقت عليه صورتي, ولا العينان تبصران ما خلف الستائر من كمين .








 صرختي لا تسير نحو الباب , وكلما رميت عليها الحجارة لا تفزع , وأي يد طرية تمتدُّ تتيبس الذكريات , وتنحشر الأنفاس في البلعوم , وبلا مغفرة أعود بالموتى إلى قبورهم, فأرى الأيدي تصطفق ؛ لأن ورق الصفصاف مال فوق جباههم.أعود لأسأل قصاصي الأثر عن نبتة لا تنمو, تركتها امرأةٌ عند نبع تستحم فيه المثكولات بأولادهن, وكلما حط طير على الماء , يدْنين جلابيبهن فوق الوجوه من وجلٍ لا يتحجر في كلمة أبدا . وحين قيل لي لا أثر ؛ ارتفع الطين , وغار في الأصابع ,فكان حديثٌ بين روحين لا تلتقيان. عرفت حينها أني الوصيّ على هؤلاء .

                                     












                              من خطأ ولدنا

وُلدنا من تعبٍ تعهدته صخرةٌ على تلة لا تبين ,من خطأ يكبر في القلب ولا يذوب في الدم , من امرأة حبلى بأرض ليست أرضنا , ولأجل ألاّ تنكشف خلطت ترابها بالزعفران والحقيقة, وكان جبل يفكر بالسر , وحفارون بالسرقة.

 ولدنا والمغيب في أوله ,والليل ممددٌ على يد القابلة كوردة ميتة . الصرخة الأولى سقطت ولم يَدَر في خَلَد الأيدي أنها رعشة الباب الذي لم يغلق , الطائر الذي لم يذبح . النجوم أبصرتنا حين لاح بريق من أعيننا قبل أن يرتطم بالقماش الأبيض . والماء لم يُسكب فوق رؤوسنا دفعة واحدة ؛ لأن الحياة استدارت إلى الرحم وكأنها لا تريد .

 أُخذنا من أعناقنا إلى بيت بلا ظلال ولا وجع. وكانت عاصفة غريبة تتسلل إلى السقف , ولم يكن علينا أن نفكر في خيانة الأبواب , ولا في الهاوية التي لاتتصل بحافة , الهاوية التي لا تتذكر ضحاياها , الهاوية التي تهمس لأختها : هؤلاء هم صغاري الذين دربتهم على القفز دون مظلات , ودون ريح في جيوبهم.



 فكرنا فقط في الأغصان المتروكة على جانبي الطريق بعدما يئس الفأس من تحويلها إلى طاولة , في الحكاية التي تمشي في نفق من جهة واحدة ولم تيأس.


كبرنا والتراب ينبض تحت أقدامنا , والحصى يركض إلى النبع؛ لأن ندما لصق أحذيتنا جففته ظهيرة لاهبة. من سيجرؤ على النظر إلى ظهورنا نحن الذين فتنّا الأشجار , ولم تجرؤ ثمرة على السقوط إلا بعدما لا مستها أكفنا , والماء لم يصعد إلا بعد أن همسنا للجذور بالسر , وقالت الأرض هذا العابر زلزال صغير لن يبوح , وجنوده لا يجيدون المكيدة كأنهم لغم لا يصيب هدفه .


كبرنا خلف تلة لم يسكنها بشر , ولم تعو بين صخورها الذئاب . والأمطار الموسمية لم تتعهد أعضاءنا , وكلما مات عضو كتبنا على شاهدة القبر: هذه يد جرحتها حبال ملقاة على حافة بئر يابسة , وهذه عين اصطدمت بخفافيش كانوا يحملون الظلام على أجنحتهم الحادة . وعندما فكت السماء أسراها , وعاد العالم إلى فكرته الأولى , والملائكة إلى صوتهم الذي يليق بهمهمة الصوفيين , رجعنا إلى أرضنا وكان ماء كثير يهذي في الجرار , وخشب يئن من صرير الذكريات , وكانت أسوار البيوت ليست واطئة ولا عالية , وكان التمر على الشفاه بداية الضوء ونهاية المنجل .






 رجعنا والنخل في أول المساء لا يضيء , وعندما سألنا قالوا : انكسرت الأوجاع عند المصب , ولم يتسرب منها ما يشعل عود ثقاب. لذا سيكون علينا لا حقا التريث في العبور لأن الوحدة لا تمسك بالهمس فقط , لكنها  بالغبار الذي يرتفع مع كل يد تضرب الهواء  .

                                          













                          السحابة ليست عالية


لا دم في العروق , ولا ماء يندلق على الذكرى , وخلف السياج وردة جف عطرها . وأنا الشوكة التي انغرزت في الجلد ولم تنكسر, لا جرح لي ولا شريان, وحدها الضحكة التي ارتجفت لا تحتجّ. فلماذا إذن لا تشبه شالك الأزرق المرميّ على الكنبة, ولا أناملك التي لا تومئ وإنما تحدس ؟ أنت لا تقبّلين الحجر كي يخضّر, ولا الصدع كي يلتئم , ولا الفراشة كي تطير . لكنك قبّلت هؤلاء على شفتي , وكان مطر محبوس في غيمة لم ييأس .

 وكان لي برعم ينبض تحت الحصى ولا يتذكر المياه, وحين اتشح ثوبُك البنفسجَ وناداه العشبُ, اقتربت الآبار البعيدة , وفاضت أغنية من الرغبات لم أسمّها حتى لا تجرؤ. السحابة ليست عالية , اقطفيها الآن , يد واحدة لا تكفي , فأيامي على سريرك تضجّ من ولهٍ , وأطرافي لا تنمو بلا شجرٍ .  والتماعة وجهك في المرآة هذا الصباح لا تخلو من شظية , ولا من عصافير أجنحتها تجرّح العين ولا ترقّ , لذا أقفلتُ النوافذ , وكان عليّ أن أمسك الدهشة حتى لا يرتجّ البابُ ويسقط المشجب , وكان على شعرك أن يخدع العاصفة التي في رأسي أيضا .








لا تلوحي هكذا للأطياف التي لا تُخدع , لا صوتك سينزع عنه نغمته , ولا أنا نصف لمسة ويخرج الأرق مهزوما , ولا يعود . يا إلهي دع نصف اللمسة الأخرى تحت لساني حتى الرمق الأخير .
                                            

                                          











                       المدن خاتمة الأشياء                              
  

ليست المدن مجرد ذاكرة , وليست الإنسان وهو يؤسس حنينه وكيانه على أرضها . على الأرجح هي حياة أخرى لا تفتح أبوابها أو نوافذها للذين مروا على عجل دون التفاتة قصيرة إلى ضجيجها في الرأس . هي ليست حياة بالضبط وليست عكسها . ربما شيء متعلق بالطفولة , أكثر أو أقل , لا أعلم.  


لا شيء تؤكده الكلمات التي ذاكرتها سقوف المنازل , وحدود نظرها أفق لا تعبره غيمة واحدة . المدن خاتمة الأشياء عندما تقرر أن تموت , لكنها لا تمحي تماما أو تغور , سيبقى جزء منها يلوح كمنديل فوق رؤوسنا كلما مسنا مطر خفيف لا يبين . ومدينة كالأحساء هي لا تلوح فقط , وإنما تترك أثرا يشبه الوشم في اليدين . مدينة لم تخرج , لكنها تركت عاصفة غريبة تتسلل إلى بيتها , وكان على أبنائها أن يفكروا في خيانة الأبواب .

 صغارا كنا لا ندرك المعنى الجغرافي الكامن خلف كلمة مدينة , جميع الأمكنة متشابهة , وكان الزمن هو حليفنا الوحيد الذي يهيأ ليله ونهاره كي نكبر في أحضانهما بلا ظلال وارفة .



 لم نكن نعلم أن الخطوات التي تنزفها الأقدام بين الشوارع والحارات ستكون لا حقا, هي القنديل الذي يضيء حقل أيامنا القادمة , ولن تتراكم عتمة طالما لم تعبره ريح أو مكيدة . وليس هناك سوى الضوء الذي لا يستسلم سوى للأيدي التي تجرح الهواء كلما وقف مبهورين هؤلاء الصغار على عتبات بيوتهم منتظرين حماما كثيرا يحط على أكتافهم بينما الضحى في أوله .

 لم تكن الأبواب مواربة عندما ينظر الصغار إلى أنفسهم من ثقوبها الواسعة , كانت مجرد خدعة لا تنطلي على الآباء والأجداد , وإذا كان ثمة من يشير إلى مخابئهم مجرد إشارة لا يقصد منها الفضيحة , فإن القصة لا تبدأ إلا من خطأ يكبر في القلب , ولا يذوب في الدم , لأنه جرح غائر في الروح .

 القصة ليست هي الحكاية , الفصل بينهما ضرورة لا تخلو من مخاطرة . ليس نهر ما يفصلهما , أنها الهاوية التي لا تتصل بحافة , الهاوية التي لا تتذكر ضحاياها , الهاوية التي تهمس لأختها : هؤلاء هم صغاري الذين دربتهم على القفز دون مظلات , ودون ريح في جيوبهم . القصة في النهاية تشبه الماء الذي يتسرب من اليدين , أما الحكاية فهي الأغصان المتروكة على جانبي الطريق بعدما يئس الفأس من تحويلها إلى طاولة .

 هي حكايتنا التي تمشي في نفق من جهة واحدة ولم تيأس . قد تطول المسافة أو تقصر , لا يهم ما دام التراب ينبض تحت أقدامنا , والحصى يركض إلى


النبع لأن ندما لصق أحذيتنا جففته ظهيرة لاهبة. من سيجرؤ على النظر إلى ظهورنا نحن الذين فتنّا الأشجار , ولم تجرؤ ثمرة على السقوط إلا بعدما لا مستها أكفنا , والماء لم يصعد إلا بعد أن همسنا للجذور بالسر , وقالت الأرض هذا العابر زلزال صغير لن يبوح , وجنوده لا يجيدون المكيدة كأنهم لغم لا يصيب هدفه . كبرنا خلف تلة لم يسكنها بشر , ولم تعو بين صخورها الذئاب . والأمطار الموسمية لم تتعهد أعضاءنا , وكلما مات عضو كتبنا على شاهدة القبر: هذه يد جرحتها حبال ملقاة على حافة بئر يابسة , وهذه عين اصطدمت بخفافيش كانوا يحملون الظلام على أجنحتهم الحادة .

 وعندما فكت السماء أسراها , وعاد العالم إلى فكرته الأولى , والملائكة إلى صوتهم الذي يليق بهمهمة الصوفيين   , رجعنا إلى أرضنا وكان ماء كثير يهذي في الجرار , وخشب يئن من صرير الذكريات , وكانت أسوار البيوت ليست واطئة ولا عالية , وكان التمر على الشفاه بداية الضوء ونهاية المنجل . رجعنا والنخل في أول المساء لا يضيء , وعندما سألنا قالوا : انكسرت الأوجاع عند المصب , ولم يتسرب منها ما يشعل عود ثقاب. لذا سيكون علينا لا حقا التريث في العبور لأن الوحدة لا تمسك بالهمس فقط , لكنها  بالغبار الذي يرتفع مع كل يد تضرب الهواء .





هكذا كنا في الممشى , ولم تكن الاحساء في أول الطريق ولا في آخره . كانت على حافة المراكب التي انطلقت تجوب البحار دون أن تقف على أي ضفاف . وكانت الأشرعة هي أبناؤها , وكلما اشتدت العاصفة كانت الدفة تميل جهتهم هؤلاء المفتونين بالسراب . وسيتذكر البحر العشبة التي علقت في مؤخرة مجاديفهم المتهالكة . لكنهم سيمضون , لا الحنين إلى الشاطئ يضجرهم , ولا إلى زوجاتهم يعصف بهم الألم . فكرتهم عن الحياة ليست فكرة من يخرج من منزله ولا يعود , أو الأعمى الذي لا يبصر سوى ذكرياته . إنها الفكرة التي تتحول على أيديهم إلى ماسة ثمينة لا تضيء سوى دواخلهم , ولا يضعونها في أيديهم خشية الضياع أو السرقة , إنما لعرضها في سوق النحاسين ليميزوا بين حياة مزيفة وأخرى أصلية . هم لم يفرطوا فيها , ولم يكن في مقدورهم ذلك . لكنهم تركوا الآخرين يجولون في الساحة وحدهم . لم يدركوا إلا تاليا أن الساحة مغلقة ودائرية لا يوجد فيها سوى باب كبير لا يدخل منه الغرباء ولا المتسكعون.

 وكان عليهم أن لا يندموا لأنهم فتحوا ثقبا في أجسادهم , أو في بيوتهم . الطريق المؤدية إلى التلة مرة أخرى لا تتطلب سوى الإنصات إلى دمائهم وهي تسيل كنهر بين عراء الصخور المتوحشة . وهو إنصات لا يبوح , أو يشير ويدل بلا علامة.






                               لا دليل

لا دليل على الثياب ولا على أزرتها , والرائحة التي علقتْ لا تشير . لم تبق لديك لمسة في الخزانة , ولا حتى على الجدار , وهذا الذي تسميه نقشا إلهيا على خاتمك ما كان عليه أن يخطئ العلامة أو الأثر, وقبضتك التي لا ينزلق من أطرافها العرقُ ولا يجمد, حائرة ؛لأن مقبض الباب الذي خلعتَ هرّب اللمسات ولا أحد يشهد . لا تنفض الشراشف ولا الوسائد , ولا ترفع الغطاء عن هذا الصندوق الذي ادّخرت فيه بصمة من جرح قديم , ظنناها حياتك التي طالت أظافرها ولم تجرح .

أصبعك على الفنجان حين تتحسس موضع الفقد لا يشبه أصبع مريم ولا قُبلتها . وحده الهواء البارد للثلاجة يؤنس عزلتك حين يلوح العطش ولا تشرب . وهذه اليد التي لا تسرع ولا تبطئ إلى الكأس , هي حيلة أخرى كي لا تنزع الأقفال عن طعم اللسعات المحبوسة كمريض الطاعون في رأسك .

وليس لديك حجر منزوع القسوة كي تربي تحته عظامك التي لا ترتجف , ولا تصمد أمام عينين مفتوحتين على الزبد الذي يطفو فوق بحر أحلامك.




 الرنين المتقطع للهاتف تحسبه سعالا يأتيك من الماضي , أو اصطفاق جناحين لا يتسببان في سقوط نبضة واحدة من قلبك. الصوت أيضا يحسبك حطبا بللته الأمطار ولم يشتعل. لكنك لا تعلم ماذا ينتظرك خلف هذا الرنين؟ ولأجل ألاّ تتوهم , أو تخلط بين صوت وآخر؛ تذهب إلى الحمّام , تلمع أسنانك بالفرشاة , وكذلك حذاءك, وستقصد النوم كخدعة لم تنضج تاركا على حبل الغسيل كنزة الصوف الوحيدة التي لم تتهتّك خيوطها من اللمس . وستحقد عليك الشمسُ لأن لمعة الذكرى أقوى من الضوء وشعاعه الحارق , ولن يكون بمقدورك الوثب فوق رموشك , أو مدّ عنقك خارج النهار كنبوءة.


 أيها الجالس على الأريكة الآن خالٍ ثوبك من تعرجات يديها , من فيض ثمارها , لذا ستفكر في طريقة , تتخلص فيها من الأشجار الزائدة عن الغابة , عندها سيشف الجسدُ , وسيُقترح عليك الضحك عوض الظل الذي تحشوه بالنسيان كلما ارتطم بظل آخر.


                                          





                                     منى

تنامين على كتفي مثل موجة لا يذوب ملحها على حجر الشاطئ ولا يتكلس , أقطف أحلامك من شجرة لا تذرّي أوراقها الريح , ولا يهزّ أغصانها النعاس . أسند أنفاسك على كتفي الأخرى حتى لا يذهب به الهواء إلى السقف ؛ فيزهر الطلاء بدل الشرشف .

أنا هنا حبيبتي كي أحصي عدد الموتى الذين دخلوا نومك ولم يرجعوا إلى قبورهم , لأن غيمتك الوحيدة لم تمطر , لكنها تحولت إلى حياة لا تحدق في الجثث وإنما إلى ذلك البريق الذي التمع فجأة وأنت تنزلين درجات الليل خطوة خطوة , وحين هبطت على مقلتيك في شكل دمعة ,كان على خدك الأيمن ومضة لا تخفت , لم أفكر في هواء الستارة , لكنني ظننتها رغبة أخرى تحتاج إلى تفسير .

 ربما كان عليّ أن أحارب كوابيسي عند حافة الينبوع الذي في نومي , كي أصدق أنك مددت يدك إلى الأغصان ولم تتقصف , إلى المرآيا ولم تتكسر ,  الذكرى التي فوق السرير ولم تجفل . أو ربما سأدعو صوتك يأتيني من الجبال العالية التي في ماضيك كي يضيء قبلة واحدة على الشفاه , أو كي لا تنخدع زهرة أمام أرض قاحلة : تسمى حياتي .





لا ترفعي شعرك , ولا تزيحيه عن وجه أربكت ملامحه ظفيرةٌ لا تحنو على الهواء , ولا على ذكرياته . لا ترفعي خصلة واحدة لأن سربا من الحمام سيؤوب إلى عشه , ولن يبق ريش يدل العينين على مكمن الحرير والضياء . لذا سأنزع الصرير من خشب المقعد والسرير كي لا يلتفت إلى شعرك أحد . وعما قليل سأسحب النهر من مجرى هذا الصباح , ولأن لمستي لا تصل إلى أعلى القمم هناك , سأحرك إصبعا واحدا كي يتدفق السيل , ويعود برائحته مثل ثمرة ناضجة . لماذا لا أسمع الآن حفيف يديّ عندما أمررهما تحت ورق الصنوبر المتساقط من جبينك ؟ فوق الجسر الذي في كلمتي الأولى سيعبر شعرك ناصعا كالنسيم , وسأترك نبضتين من قلبي تحركانه جهة السحابة في هذه اللحظة .  

                                                                   

                                                                
                                                              








                                   الجدة


حملنا جنازتها ولم تكن أكتافنا تمس الأعواد , لأن ألما ساخنا كان يطفح من شقوقها, وكأن الجثة حين سال دم النسيان منها لم يتوقف. خَطْونا أعدناه إلى قارورته ولم نرفع السدادة عنه , وحين فكّر؛ نحتنا من جذوع الأشجار طرقا أخرى لا توصلنا إلى القبر مرتين . كانت البقع الداكنة على قمصاننا ترمي فوق التراب نجمة أو نجمتين  حتى لا تتيه العمات المتلفعات بالسواد أو الأشقاء الذين حصدوا بمناجلهم منابت الضوء من الجذور يوم كان حجر العائلة لا يسقط من أيديهم ولا يطيش. البيوت ذاتها التي احتفظت بدم السلالة باردا بين حيطانها لم تتبع خطى الصبية, ولم تتألم , لكنها نفضتْ الحصيرةَ عن أيام الجدة , وعصى الخيزران عن طفولتها, وأزاحت الشوائب عن ماء وضوئها , والرماد عن جمر صلاتها. لذا حين غادرت الأدعيةُ باب غرفتها كانت سعفات النخل التي حملنا بها النعش تزداد اخضرارا .       







                                ماء قبلتك



الصباح لن يقفز من النافذة , ولن يجرؤ ؛ لأنك حين نزعتِ قميص النوم كان ضوءه يتجول على جسدك . مر يوم ولم يرحل إلا بقبلة . كنتُ واقفا في المنتصف ما بينكما أفكر في الخزانة التي اختبأت فيها حياتي ولم تظهر , وعندما لاحت عتمة خفيفة من تحت الوسادة , كنت تعتقدين أنك تخلصت من الأعشاب الضارة التي في نومي , لكنك لم تنتبهي إلى الملابس المهملة في الزاوية البعيدة من الغرفة . أنها مكيدتي الوحيدة التي استدرج بها الماضي كي تخرج أيامي قبل أن تفسد . مع ذلك يداك لا تفزع , ولا الطير الذي في رأسك , والأسماك التي تعوم في ماء قبلتك لن تضجر , ولن تصطادها الشباك التي وضعها هذا الليل على شفتيك النديين. لكن الخوف لم يخنك عندما تململ ضلع في صدرك ولم يتقوس , ولأن الندم الخفيف الذي ارتطم به لم ينكسر؛ تقولين لي هذا الصباح أجمل لو أنه ترك قواربه مطمورة تحت مياهي .  









                           أنا الذي ترجّ رأسه العاصفةُُ


لا الصور الكثيفة التي تخرج من آلاف الحكايات باعتبارها حياة أخرى قادرة على إزاحة العاصفة التي في رأسي عن طريقها , ولا الدليل بإمكانه أن يصطادها في قفص مثل عصفور ثم يقول لك : هذا هو العاشق الذي من شأنه أن يحول الكلمات إلى ذهب يلمع بريقه في أيديكم , ولا يغشى أبصاركم .

لكنها البشارة أيها القوم , فلا تتعجلوا بالمسير جهة المدينة , أنتم الواقفون على سورها المتهالك منذ ما يقارب أحد عشر ضوءا سقطت قرب بيوتكم , لا السماء أخبرتكم , ولا المناجاة هيأت الثياب كي تتلقفوا ذكرياتها قبل أن يختلط نورها بالتراب . كنتم واجمين من فرط الدهشة كأن طائركم الصغير الذي أطلقتموه في الأفق عاد إليكم بسرب من الملائكة , ولا أحد منكم تنبأ بذلك قبل الفجيعة .

 عرفتم الكثير من العابرين , لكنكم لم تلتفتوا إليهم , ولم تمدوا أيديكم للمصافحة على الأقل . كنتم لهم أشبه بالتحف الثمينة التي لا تزين صالات منازلهم وممراته فقط , وإنما كذلك غرف أوهامهم التي شيدوها في بيوت


الكهنة والصوامع .تماثيل العالم لا تضاهيكم مكانة , ولا صانعيها . لذلك تأملوا أنفسكم جيدا. ووسعوا من الصدع الذي تركته الريح على أكتافكم , ثم قولوا للمتفرجين : عليكم أن تضعوا غصن حياتكم في أيدينا, لأن الشجرة سوف تعود والقناديل خلفها تتقافز مثل جرو صغير . لا تتركوا المطر يغسل عريكم لأن الغبار العالق هو تاريخكم الذي نجا من المعركة قبل أن تبدأ .


ليست الوصايا التي انبعثت من قبور الموتى هي من تسند ظهوركم في هذه اللحظة , ولا أنا من تثقون به كي يعبر بكم الزجاج الصقيل دون أن تصابوا بخدوش أو جروح . أنا الذي ترج رأسه العاصفة لم أمرض , ولم أقع على صخرة كي ينبت العشب في تجاويفها . كنت أسير معكم في النفق ذاته الذي حاكه الخياط لنا في منعطفات العمر وتقلبات المناخ . لكنني فجأة تهت عن الركب , وكان عليّ أن أصعد تلة عالية وأجمع الحطب من حولي , وأغري النار بالمجيء, لكنها لا تأتي .

 البرد مر من هنا وكذلك الظلال الدافئة , الحجارة أيضا كانت ثقيلة بالكلمات . الآثار من أقدامكم تسقط بذورا , ولا أعلم في أي حقل سأجدها تنمو . لا تخيفني الطريق , ولا القلعة التي انتصبت في آخرها .فلا بأس أن مضيت كي يحسبوني ميتا على هيئة جرة مكسورة .



 ربما الأسوار عالية , لكن  الحراس مجرد خطأ إملائي نمحوه بأقلامنا المهترئة. لن يبق ألم واحد تجره خلفك جميعها ذهبت إلى الماضي قبل أن يخترعوا لك علاجا, لكنها بالتأكيد ستعود مع بقية أسمائك التي لم تصب بالزكام حين عبرت مستنقعات الحياة . لا فائدة من التذكر الآن , عيون كثيرة ترقب أغنيتك وهي تذوب في كأسك الأول. أيضا النسوة النائمات في معطفك الطويل تمسكن باللجام الذي تضرب به دمك قبل أن يتحول إلى جلطة دماغية .

 لا وشاية تنضج كي تغري صوتك , ولا رقصة النرد في اللعبة تخطف حظك من الشارع , ولا الرطوبة التي هجمت عليك وأنت تشاهد حلما طويلا عبر التلفاز يمكنها تذكر الحماقات التي أخذناها كأقراص منومة , ولم نؤذ بها سوى فكرة الموت حين كبرت كزائدة دودية على جدار الروح . رقيقا كان الدمع على جلدك , وكلما حرك الرأفةَ في أجفانك يزورك المرضى ساخرين من حزنك الذي كبرت رموشه دون سبب. تزورك العصافير لا لكي تلتقط الزفير من أنفاسك وإنما لتملأ السلال التي واظبتَ على تنظيفها بهواء الجبال العالية.


قيل لك لا تتبع علامات غيرك , ولا تشر بأصبعك إلى جهة يلفظها البريد من جوفه . حاذر السير على السائل اللزج الذي يطفو على سطح اللغة , ولا تذكّر المقعدَ الذي تعودت الجلوس عليه في الرصيف بأنك الوحيد في هذا العالم

الذي تخلص من عموده الفقري كي يوهم الشجرة بأنه مرايا لذكريات الجذور . لكنك لا تُبطل مفعول الذاكرة مثل قنبلة , ولا بإمكانك أن تخفي النتوءات البارزة على الصدر بفعل ضربات القلب , الجسد لا يخبرك ولا العائلة كذلك.

 أنت غريب على فتاتك الآن , فلا تضع قناعا على وجهك , تكفيك الأفكار السوداء التي سمرتها بالمطرقة فوق باب غرفتك كمساحيق لا تذوب , ولا تهاتف الأرق كي لا يأتيك في المساء . عليك أن تقول الحقيقة لهؤلاء الذين عثروا على مفاصلهم في الصحراء وقالوا : قميصنا لا يتسع لحملها, ولا لأنين رغباتها , لذلك رموها في بئر مجهولة , لا يعرفها الذئب , ولا أخوة يوسف .

لابد أن ينكسر الجسر حين تعبره العاصفة قلت ولم تلتفت إلى الوراء كأنك تدل الواقفين هناك على الحجر الأول للمدينة , الحجر الذي عثروا عليه يلفظ أنفاسه الأخيرة على أيدي الموتى ,حينها لم يعلموا أن ظلاله سالت على التراب كأنها آخر رائحة نبتت في هذه الأرض . لا بد أن ينكسر وأنت تفكر برأسك أين تضعه قبل أن تنام ؟ الحديد لن ينجو , ولا أحلام من عبروا عليه كذلك . والواقفون في مناجاتهم ينتظرون سيخدعون الأغصان حين يميلون برؤوسهم جهة النهر , ولولا أيديهم لحرروا الماء من المصب . لكنهم  وحدهم الذين تلمع أسنانهم في الليل حين يضغطون بنواجذهم على نواة صلبة من ثمر اللوز لا تنكسر ولا تتصلب وكأنهم يكسرون أقفالا كبيرة عن جبل ظنوه السقف الذي يحجب ندمهم عن السماء .


لا الباب ولا الدم الذي فوقه كقربان يقربهم من النبع الذي تحرسه أفعى لا تلسع سوى أكاذيبهم , لكنهم لا يعلمون ذلك على الإطلاق . وكلما وضعوا أحذيتهم على العتبة جاءهم الضوء مسرعا مثل قطار, ولئلا يأخذهم إلى منحدرات يأسهم , لا يزيتون قناديلهم , ولا يلفون التعاويذ حول رقابهم , ولا يقطعون أحاديثهم بسكاكين حادة , ولا نومهم أيضا . فقط يتأملون قطرات الضوء كيف تنزل ببهاء على أجمل وجه ينام فوق سريري .


 المتاهة لم تفكر بأصابعي العشر , ولا بالخوف الذي سقط من العربة حين طاردتني كلاب ضالة , ولا بالثلج الذي سد باب الحكمة , وهشم نافذة الجرح . وليس معنى ذلك السخرية من الأشياء المبتورة طالما لم نذهب إلى نومنا لنتلف ألم العظام , وطالما كان المنبه لا يفكر في موتي حين يُسمع رنينه في الأدوار العليا من المبنى . الضحك وحده يراني خارجا , وفي يدي غصن متعفن , يبين في أطرافه نقش : أنا على الأرجح مرضك الذي لن تشفى منه , في هذا اليوم الذي تقبل فيه حبيبتك قبل النوم بقليل .

                    







                       



                         حياة في ظل..
                                       
                        
                         (1)
               الحلم الذي خبأناه في الجرار تبخرت مياهه,
               كان ينبغي عليّ أن أحكم إغلاقها,
              لأن الكثير من الحنين سيتسرب ,
              ولن يقدر الهواءُ على حمله , هناك فقط
              ريش على العتبات يحطُّ.
              لم يتركه طائرٌ, لكنه قلبي الذي هرب
              الذكريات كلص .
                      
                       















                  (2)
             مثلما نملٌ يخرج
             من شق في جدار متهالك
             منتظمين في صف..
             تخرج أوجاعي
             لا حذاءٌ يصادفها, ولا مبيد حشري!.

                     

                       
                     









                           (3)
             في يده علبة السجائر( الدافادوف)
             وفي الأخرى
             ولاعته الرماديةُ اللون
             فكّر بحريق هائل
             قبل أن يشعل
             سيجارته الأولى .

                    














                  (4)
            يحتاج إلى المرآة
            ليلبس غترته البيضاء
            وعقاله أيضا.
            في المدرسة 
            لا يحتاجها على الإطلاق
            لأن عيون طلابه
            من زجاج .

                  




                     

                            (5)
                    يدي تشدّ حزام الأمان
                    قبل نقطة التفتيش..
                   وعندما أتجاوزها             
                   ترخيه كي يعود إلى موضعه كمضلة.
                   ثلاث نقاط في طريق الحياة
                   تكفي لليد الواحدة؛ كي تتحول
                   إلى أفعى لا تلسع .

                  
                   











                           (6)
 
                نادرا..
               عند الإشارة, وهي حمراء
               " الموبايل" يرن,
               لكنه معول يضرب الفكرة في الرأس
               فيسقط الثمر سريعا
               كلما التفتت امرأةٌ
               في سيارة مجاورة .




                     





                                 (7)

               صوتها نساء يدعكن أساورهن بالحليب والألم
                موسيقاها أخلاط من آلهة
                يركضون في القصب.
               وحتى يكون سمعي حادا وخفيفا كالأعمى
                أطرد الهواء من السيارة,
               وأرفع النوافذ.
               لا أملك مشّغل اسطوانات في المنزل
               لذلك أتذرع لزوجتي بالسوبرماركت القريب
               الساعات تنقضي
               وأنا أصغي كالتائه إلى ياسمين ليفي .

                           











                        

                         (8)
            يراني في صالة العشاء,
             فيقول : أين نسختي المعهودة من كتابك الجديد
             المشفوع بالإهداء .
             ليس هناك لدي سبب أو عذر
             فألوم نفسي,
             لماذا لم اشتر الأعذار المعروضة على واجهة المحلات
             قبل المجيء إلى هنا ؟!!
                      










                       

                     (9)
             كل ليلة جمعة..
             النكات من شفاهنا تنزلق
             ثم تسقط على الملاعق
             كل ليلة جمعة..
            الأفكار في رؤوسنا ترتج كالزيت
           فتقع أسماؤهن تباعا على المقاعد
            كل ليلة جمعة..
            نشرب القهوة بلا رغبة, وندخن سجائر كثيرة
            كل ليلة جمعة..
             نخلع بلاطة واحدة
             من رصيف أعمارنا!!.

                    








                      (10)
         " توم وجيري" نشاهده كل مساء,
          وَلَدي عليّ أصدره حكما على العائلة.
          يشبه غزالة في غابة
          وهو ممسك " بالريموت كنترول"
          لا الصياد قادر, ولا الذئب
          وكلما حاولتُ..
          هربَ
          ليس بجسمه وإنما برائحته أيضا.

              






                

                    (11)
        أيها الصحفي اللامع
        أنت مخطئٌ..
         كانت إجابتي لك :
        أنني حلمت البارحة بنانسي عجرم
        وليس بأحلام الخليجية.
        كان القضاءُ الحَكَمَ الفصل بيننا,
       لولا أنك تداركت الموقف
       ونوهت في الصفحة الأولى
       من عدد اليوم .
       
               









                   (12)

       في غرفة انتظار الطوارئ
        بالمستشفى ,
       هناك صفٌ طويل من المقاعد أمامي
       وخلفي مثلُها..
       الممرضات قطط بيضاء تقفز,
       والمرض تنشب فيه مخالبهن,
       الألم عالق بين الأظافر , لا يسقط.
       لهذا السبب حذرني الطبيب من تلك التي تحقن
       أمي إبرة الأنسولين!.


 
                                  







                           ليس صوتُك
                                                

ليس صوتُك ..
لا ينهض من سريره دائما
ولا ينعس .
جاذبية الأرض أقلُّ
عندما يقطف النجوم والكواكب
ويمضي أبعدَ..
وكما لا تحتاج إلى سماء أخرى
تتدلى كثمرة ناضجة
ولا ملائكة, أو غيوم,
هو لا يحتاج سوى البكاء
الطعنة في الكتف
قد لا تميت !.

ليس صوتك
حين يرن الهاتف
ولا أحد يمسك العالم كي لا يقع .

  

                      
                       خدعة

    الدخان الكثيف الذي غطى جسده,
    لم يكن سببه الحريق ,
    كانت ملائكةٌ
    تسند روحه كي لا يقع.
    طفله هو الوحيد الذي اكتشف الخدعة,
    فتعلق بجناحين مثل " برشوت " .













              عزلة

لن أقرأ جريدة " الحياة "
هذا اليوم ...
وبعدما قلت لها أيضا
كلاما تافها يشبه كلام السياسيين
عن السلام العالمي ,
نطق به جلدي , وليس شفتي
إلى غرفتي انسحبت
ثم تقيأت المواعيد
على بياض الصفحة الأولى

وكان ألم خفيف يتناثر.
تلك هي عزلتي .








 شرفة

العقد الألماس لم تضعه
حول العنق
لأجله.
هكذا ظن الرجل الواقف
على الشرفة..
وسيظن أشياء كثيرة
مثل محلل للأرصاد الجوية.
على الأرجح
لا دخل لحياته بالغيم ,
بالزرقة في السماء.
كان عليها أن تخبره الحقيقة
في عيد زواجهما العشرين
لكنّ الشرفة هربتْ!
هل قال لكِ أن الخشب
هرب أيضا ؟!.






 فكرة
                                    

صاعداً
إلى شقته..
كان واجما مثل ملامح صخرة
من صورته المرسومة
على مرآة في المصعد
كُتب تحتها :
هذا رأس أيقظ تماثيل العالم بنظرةٍ واحدة
فيما هو خالٍ من الأفكار كبطارية شحن معطوبة.

لم يفكر بكسرها,
أو يمسح الرسم بباطن كفه
كممحاة .
لكنه ضغط بقوة
على زر التوقف
وكأنه يضغط على فكرة
كانت تُسرع به
إلى سطح المبنى كقطار!.




ابتسامة
                                  


لا تبتسم لي
ولا للرجل الجالس خلفي مباشرة
ولا لصورة صاحب المحل
المعلقة فوق المحاسب
كقلادة ثمينة.

إذن لمن ؟!
للطفلة
حينما قالت للعبة التي في يدها:
       يا ماااااااااا ما






شيشة
                                        

سَحَبَ النَفَسَ الأول
ثم مجّه
في الهواء.
النَفَس الثاني كذلك
أما الثالث
والرابع
ثم الخامس
لم يمجّه
كعادته السابقة.


رأس الشيشة
يحترقُ
يا هذا !!
وأنت تدرب رئتك
على الصبر, وتعلمها
كيف تكشف خديعة الدخان ؟!.


الجمر
دائما لا يتذكر
الرماد !!.


















تذكرة

1967 هذه
الأرقام المطبوعة
على ظهري
لا تشير إلى وقت الإقلاع
ولا إلى رقم الرحلة
أو وجهتها.

كل عدد هو قنبلة موقوتة
دُفنتْ
تحت جلده.
كل قنبلة هي رجل
نسيته الحربُ
في دبابة محطمة.

هذا كل ما فكر فيه
حينما
قال له موظف شركة الخطوط الجوية:
" البوردنك" لو سمحت .






مفتاح
                                     

في الصباح الباكر
أقول لجاري
وهو ينزل الدرج أمامي
هذا هو مفتاح سيارتك الفورد
كان ثقيلا وقلقا
حين وضعتَه البارحة
آخر الحلم , في يدي كوديعة.

مفتاح واحد
في حياتك
ولا  ينام !!.







                       أنا الوحيد ..

                    
                      

                      عاليا..                
                       أسمع النداء, ولن أرتجف.

                         العصفورة سقطت على الرخام
                         وأنا أجر الرنين بيد واحدة يا أبي..

                         لا أثر للصرخة , أو للسكين هناك.
                         سأنتظر الدليل يأتي , لكنه لا يأتي

                       حتى الصدى الذي ربيته في الطريق
                       ضاع من يدي..

                        أنا الوحيد يا أبي
                        دربت الوحشة لي ومضيت
                        شمسك غادرتني عند الضحى
                        والشعاع في المدن يتسول.
                       
                       وأخوتي تركوا الوصية تكبر في الصحراء
                        في رحل طرفة بن العبد
                        في كلمة كانت تحوم كالطير فوق رؤوسنا

                        فلا بأس إذن
                        لو كان النهار يرتد مع السهم
                        ليعود إلى القوس ثانية .

                لو كانت التعويذة المدفونة تحت سور البيت القديم
               أصبحت في عتمة الجذور نواة لمواسم التمر والرطب.

                  لكنّ الرماة خانوا, والماء في المجرى
                  أوقفته الأحجار والأكاذيب والطفولة
            
                المدى أوشك أن يعوي مثل كلب جريح
               والريح التي خلعت جلدنا ونحن نناجيك
               على هضبة عالية
               اليوم مرت علينا. .
               الخطوة هي الخطوة , والآثار هي الآثار.

            
               سأنتظر عبورك ثانية يا أبي
              أقدام الأخوة غاصت في الوحل
              والحبل الذي عقدوه للنجاة , أخذته العاصفة
              إلى غابة كثيفة الأشجار.
              ولا منجى من حرب
              قد تصل متأخرة بالبريد
             

              وعندما تعود ..
              ستجد الليل أعمى يتكأ على سحابة
              وأنا أجمع القطرات في إناء
              ستجد رسائل أمي مبعثرة في صحن الدار
             وهذه السلة على العتبة
              مليئة بالحنين
              بالوقت
              بالعرق الذي عنوناه " حياتنا تصعد السلم"

              سيكون أمل
              لو احتسينا الرنين دفعة واحدة
              في حانة الأيام

            
              سيكون أمل ..
              عندما عشبة صغيرة
             في وسط البحر تتشبث
             بأجساد الناجين من الغرق
             

             لذا سأنزع ظلي, وأرميه على الجدار مثل حجر
              لأن العراء هو عبورك الأخير.


                            













الجمارك
                                    

رجل الجمارك
لم يطلب جواز سفرك,
ولا الأوراق الرسمية
للسيارة,
أو حتى رخصة القيادة .
ما طلبه بتودد,
هوية اليأس !.

اليأس
الذي يقف دائما
بجانبك الأيمن
عند كل شباك .






             
                    


مساء تضعينه كضفيرة


قبل النوم بقليل خذي أحلامك إلى السرير قولي للكلام أن يهدأ , للنافذة أن تتذكر عبور الكلمات حين تسقط من أعلى الشجرة, المياه التي ترتفع من القاع لتبلل بياض الشرشف.لا تخافي الوسادة لا تعوم , والبحر ليس قريبا ,وقوارب النجاة تاهت في عاصفة ثلجية ,ولم تستقر على شاطئ.

تقول جدتي:حورية البحر لا تزورنا في الأحلام ,ولا تقف عند الأبواب .تقولين الأحلام الكبيرة عرضة للصدمات الكهربائية ,ولن يعود الدم مثلما كان وردة لا تعرف من الأرض سوى التراب .تقولين أشياء كثيرة تتعثر.الإضاءة عالية في الغرفة, تحتاج العينان إلى رموش أخرى ,لكن الجدائل الطويلة تفزع من الموسيقى التي تحرك نومك بأصبع واحدة .

لا يكفي أن تزيحي خصلة الشعر عن الجبين ؛لكي يتذكر الضوء ماضيه ,لون البشرة عاجز عن التذكر أيضا.أيتها الجميلة النائمة أيقضي السماء لقد امتلأت السلة بالفاكهة.





               


    المحتــــــويات                                      الصفحة
1-    الأصدقاء..........................................   1
2-    خطأ كبير.. تلك هي الحياة ........................    2
3-    كعادتهم يدخلون الحانة .............................   7
4-    أسميتهم واحدا واحدا ..............................   10
5-    جاؤوا إلى الحياة بلا سبب أو دليل ...................  12
6-    طوفان الغريب ...................................... 17
7-    لا بد من هاوية ..................................... 20
8-    مجرد قوسين ......................................... 25
9-    هذيان مجرد من اليد ................................. 26
10-               الحياة لا تذهب ................................ 29
11-               بين حياتين ......................................31
12-               أنا الوصي ......................................34
13-               من خطأ ولدنا .................................. 36
14-               السحابة ليست عالية ............................ 39
15-               المدن خاتمة الأشياء .............................. 41
16-               لا دليل ........................................ 45
17-               منى ............................................ 47
18-               الجدة ...........................................49
19-               ماء قبلتك ....................................... 50
20-               أنا الذي ترج رأسه العاصفة .......................  52
21-               حياة في ظل ......................................  56
22-               ليس صوتك ...................................... 68
23-               خدعة ............................................ 69
24-               عزلة ............................................. 70
25-               شرفة ..............................................71
26-               فكرة ............................................. 72
27-               ابتسامة ........................................... 73
28-               شيشة .............................................74
29-               تذكرة ............................................ 76
30-               مفتاح ............................................ 77
31-               أنا الوحيد ......................................... 78
32-               الجمارك ........................................... 82

33-               مساء تضعينه كضفيرة ...............................83
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads