الرئيسية » , , , , , , , , » فيليب جاكوتيه.. يصالح الحقيقة مع العبارة الشعرية ويتألق في الإمحاء اسكندر حبش

فيليب جاكوتيه.. يصالح الحقيقة مع العبارة الشعرية ويتألق في الإمحاء اسكندر حبش

Written By تروس on الجمعة، 4 مارس 2016 | مارس 04, 2016

 

  فيليب جاكوتيه.. يصالح الحقيقة مع العبارة الشعرية ويتألق في الإمحاء

اسكندر حبش

شاعر ومترجم من لبنان

بدأب وصبر كبيرين، بنى الشاعر الفرنسي فيليب جاكوتيه، عمارة شعرية متفردة، خاصة، لا تجد شراكتها إلا مع نفسه، إذ نجح طيلة هذا الدرب الشعري الطويل في أن يبقى بعيدا عن التيّارات الأدبية والشعرية المتصارعة، وبعيدا عن الراهنية– إذا جاز التعبير– ليخط مسارا جعله واحدا من أبرز الأصوات المعاصرة. هذا الأمر، ربما، جعله يدخل مؤخرا في سلسلة «لابلياد الشهيرة» وهو بعد على قيد الحياة، إذ قليلون هم من دخلوا هذه السلسلة وهم ما زالوا يتابعون نشاطهم الكتابي.
ثمة أحاسيس داخلية تتكشف لك وأنت تقرأ شعر فيليب جاكوتيه، كما تتولد فيك ثقة، بأن الشعر ممكن أن يكتب من دون زخارف بلاغية وبيانية. فعبارته، تهب نفسها من دون لف ودوران، كأنها تبحث عن هذا «الواقع» المرئي، الذي يبحث عنه، لتكشف له ولنا، هذا العالم غير المرئي. من هنا تظن للوهلة الأولى أننا امام «بعض العبارات الخفيفة المتروكة»، لكنها في الواقع، عبارات تمتاز برشاقة وانضباط، جعلت من عمله الشعري «أحد أهم الأعمال الشعرية في العالم اليوم»، على قول الناقدة مونيك بيتيون.
أمام ذلك تأتي عبارة جاكوتيه، الشعرية، وكأنها لا تقول ما باستطاعتها أن تشاهده. ومن هذا الحيّز، ينبغي جيدا، تسمية ذلك بـ «الأساس الأخلاقي» (Ethique) لهذا الشعر. فجاكوتيه، وكما يصفه جان ستاروبنسكي – في المقدمة التي كتبها لأعماله الشعرية (منشورات شعر / غاليمار)–»لا يخال بأن الحقيقة هي كلمة لا طائل تحتها»، وبأنه «يحاول أن يصالحها مع العبارة الشعرية لأن شعره يستمد قوته من اقتضاء الدقة».
هذه الدقة إذا جاز التعبير، لا نزال نراها واضحة في «هذا القليل من الضجيج»، عنوان واحدة من مجموعاته الشعرية الأخيرة (منشورات غاليمار)، وهي التي أتت بعد أكثر من ستين عاما من الكتابة. فخلال هذه المسيرة الطويلة، لم نجد مرّة أنه حاول شعرا صاخبا أو شعرا ذا ضجة لا متناهية، بل على العكس من ذلك، لم يحاول أبدا أن يتحدث بصوت «أعلى من نشيد العصفور البسيط»، أن «يعطي صوتا عاليا ليغطي صمت الطبيعة». من هنا، وبموازاة ذلك، نجد أنه منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي، قد كتب هذا الانطباع العزاء: «كلما شختُ كلما آمنت بالجهل/ كلما عشت قلّما امتلكت أو هيمنت». جملته هذه من مجموعة حملت يومها عنوان (الجاهل)، التي نقرأ فيها أيضا: «الامّحاء طريقتي في التألق».
هذا الامّحاء، قاده منذ البداية، الى الهروب من وسائل الإعلام ومن كل حفلات المجد والمؤتمرات التي كانت ستعقد على شرفه. ومع ذلك، فهو يعد اليوم واحدا من كبار شعراء هذا العصر الذي لا يفهم البساطة. ومع ذلك بقي جاكوتيه مخلصا لهذا المفهوم في الكتابة البعيد عن كل أضواء مبهرجة، ليدخل عميقا في وحدة أشبه بالتنسك.
في شعره كما في نثره، وما من شاعر أدرك ذلك أكثر منه، اكتشف أن ليس عليه الرضوخ لهذا التقسيم الاعتباطي في الكتابة، لهذا نجد أنه يمكن لعمل جاكوتيه الأدبي أن يجيب على عنوان كتابه هذا: «هذا القليل من الضجة». لكن علينا أن لا نخطئ في ذلك، إذ إن هذه الرصانة لا تشكل سمة بسيكولوجية، كما أنها ليست صنواً لكبرياء غير معترف به. ربما كان ذلك يشكل أمرا أكثر خطورة، إذ إنه يعود للبحث عن الحقيقة. وبخاصة إذ عدنا إلى العمل النقدي الذي يتألف منه إبداعه، كما إلى الترجمة التي تشكل جزءا كبيرا من هذا العمل، لأننا لا نجد أي أفق آخر لذلك كله.
يغلّف النهار الذي يغيب ويصل إلى نهايته الشاعر. إنه يتأمل، يختبر في داخله نمو الظلّ وتكاثره. لذلك يعيد الكتاب، في البداية، التساؤل عن موت الأقرباء منه. يتوزعون ما بين الأسماء المعروفة والأقل شهرة. لذلك تأتي المقطوعات التي يكتبها عنهم وكأنها بمثابة جمل إهداء كتلك التي تكتب على صفحات الكتب الأولى. إلا أنها إهداءات حزينة… من هذه الأسماء جان إيشير (1999)، لوي رينيه دي فوريه، في العام التالي، ثم تتسارع الوتيرة: بيير ليريس، أندريه دو بوشيه، برنار سيميوني… ثمة في ذلك كله صداقة مليئة بالحزن والحِداد من جرّاء الموت، ثمة وعي بالبؤس الإنساني الذي نلمسه بإصبعنا ، هذا النبض الذي يجب على القلب أن يتخطاه ، وعلى الطرف الآخر من ذلك، على الطرف المحتشم، نرى شيخوخة الشاعر التي تشكل مادة الكتاب العميقة.
إلا أن الكتابة لا تشكل المادة الوحيدة ولا نبرته الرئيسة. كلمات ليست من أجل الأموات/ بل لعالم هذا العالم ، وفي مكان أبعد، هذا الشرط القاسي، المليء بالأمل أيضا لما يحمل داخل العبارة. وفي ما وراء الأمرين، لا بد أن نجد أيضا هذا الأمل في البقاء بعد الموت (من خلال العبارة بالتأكيد) كأن يقول: قصائد كما لو أنها لمعان لن ينطفئ كليا معنا . أو حتى، ضحكة الطفل تلك البسيطة، التي تشبه عنقود عنب أحمر التي تنبجس وحدها على الصفحة وبشكل كاف. أبدا ودائما، تبدو مهمة الشاعر أن يعود ليؤكد ما سنراه في نظام النور قبل الكارثة
يكتب جاكوتيه عن الضجيج بالجمع، هذا القليل من الضجيج الذي لا يزال يصل إلى القلب، قلب كشبح تقريبا . حتى في هذا التخفف وفي هذا الهروب، يبرهن الشاعر عن الحميمي الذي فيه، عن المتعدد أيضا، عن التنوع، عن موتيفات الفرح التي لا نهاية لها، عن الاندهاش. فحول هذا القليل الذي يدوم نجد أن لا شيء سيغطي الشائعات الأخيرة؛ ما من دمعة واحدة ستشوش مرأى الزمن التي تصبح أكثر فأكثر
ثمة بعد آخر نجده في كتابة فيليب جاكوتيه، وهو هذا التفاعل مع أعمال الماضي ومع الكتّاب الكبار الذين صادقهم وترجم لهم في غالب الأحيان: ريلكه، ليوباردي، هندكه…. تفاعل يبدو وكأنه إعادة قراءة وتعليق تحت تأثير نور العمر الذي يخف. هل لذلك يشير إلى كافكا، في نهاية الكتاب، وبخاصة إلى الجملة الأخيرة التي قالها وهو فوق سرير الموت: ضع يدك على جبيني للحظة كي تعطيني الشجاعة .
إنها أيضا شجاعة الشفافية في الكتابة وفي الحياة. هو أيضا شعر يشبه كاتبه، إذ نرى من خلاله هذه الشفافية التي تشق كل شيء حتى تصل إلى النور الأخير. نور لكلمات تذهب رأسا إلى لمعانها ولتهرب إلى البعيد كي تنتظر قارئا تائها لا يرغب في التوقف عند الصلابة التي ترهق الكتابة في كثير من الأحيان.
بالتأكيد إن قراءة جاكوتيه، ليست سببا لمتعة فقط، بل تعود لتطرح علينا السؤال الكبير، سؤال الكتابة الحقيقية.
ولد فيليب جاكوتيه في مدينة (مودون -سويسرا) عام 1925، وبعد دراسته للآداب في جامعة (لوزان)، عاش لعدة سنوات في باريس، حيث عمل في منشورات “ميرمو”، وبعد زواجه عام 1953، استقر في مدينة (غرينيان) في (الدروم).
نشر العديد من المجموعات الشعرية منها (البومة) و(نزهة تحت الأشجار) و(الجاهل) و(هواء) و(دروس) وغيرها الكثير. كما عمل في حقل الترجمة فكانت له مساهمات كبيرة وفعالة في نقل أدب كل من هولدرلين وريلكه وموزيل وأونغاريتي وهوميروس إلى الفرنسية. وجاكوتيه ليس غريبا عن القارئ العربي، إذ صدرت له عدة ترجمات منها المختارات التي أعدها ونقلها إلى العربية كاظم جهاد وصدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
***********
ولد الكاتب والصحافيّ والشاعر اسكندر حبش سنة 1963 في بيروت. كانت له مساهمة فعّالة في إصدار العديد من المجلّات الشعريّة منذ أواسط الثمانينيّات. يدير حاليًّا الصفحة الثقافيّة في جريدة السفير، وهو ناقد أدبيّ ومترجم للشعر والرواية و هو رئيس اللجنة الدولية لأصدقاء نيكوس كازنتزاكيس – فرع لبنان. له عدّة دواوين بينها: “بورتريه رجل من معدن” 1988، “نصف تفّاحة” 1993، “تلك المدن” 1997، “أشكو الخريف” [وقد صدرت الدواوين الأربع في كتاب واحد تحت عنوان “لا أمل لي بهذا الصمت” 2009]، و”لا شيء أكثر من هذا الثلج” 2013

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads