الرئيسية » » عمود صحفيّ قديم كتبه: محمد عيد إبراهيم دليلي إلى عابد عازريه

عمود صحفيّ قديم كتبه: محمد عيد إبراهيم دليلي إلى عابد عازريه

Written By غير معرف on الخميس، 25 أبريل 2013 | أبريل 25, 2013







عمود صحفيّ قديم 


كتبه: محمد عيد إبراهيم 

دليلي إلى عابد عازريه

أواخر السبعينيات تعرفت على سعد الدين حسن، ولمن لا يعرفه فهو كاتب قصة مصري مغمور، تعود شهرته المتواضعة إلى شخصه وهندامه أكثر مما أنجزه من أدب ونقد. كتب سعد الدين حسن أربع أو خمس قصص وظل ينشرها هنا وهناك حتى ظن أنه سينال بها "نوبل" بحالها. ولما تأخرت عليه الجائزة الأسمى صار لا يأكل ولا يشرب تقريبا، وأصابته الكآبة واغتمّ واسودت عليه الدنيا، فأصبح لا يرتدي سوى الأسود من رأسه إلى قدميه، فكأنه "إصبع فحم" يسير بمجموعة عظام نحيلة. 
وعند انتشار البنيوية في الكتابات النقدية بمصر، خاصة في مجلة "فصول" النقدية الشهيرة، بدأ سعد الدين حسن يكتب مجموعة مقالات نقدية "بنيوية" مطبقا على نصوص (لم يكن يرى فيها سوى مظاهر الجانب العددي السطحية دون أن يلتفت كثيرا إلى دلالاته) حتى أنهم أطلقوا عليه "سعد البنيوي". وكانت حياته كلها إشباعا لمظهر فنان ونموذجا لا يحتذى لأديب فضّل أن يعادي الحياة التي لم تمنحه سوى القشور. 
ذات يوم قابلته وجلسنا على قهوة البستان المعروفة باستقبال هامش الكتاب والفنانين المصريين. كان يغني بطريقة مرة "اقتلوني ثقاتي، إن في قتلي حياتي"، وهي الأبيات المنسوبة للحلاج شهيد الحب الإلهي. فقلت له: وما يذكرك بالحلاج الآن؟ رد: لأنك (وسبني باسم حيوان معروف بالغفلة) لم تسمع عابد عازريه. 
بعد ذلك بحثت عن شرائط للرجل، وعلمت أنه قد أصدر شريطا باسم "توابل" هو الذي كان يغني فيه قصائد لكبار الشعراء: الحلاج، ابن الفارض، أدونيس، محمود درويش، توفيق زياد، وغيرهم. وهو مغن سوري (فرنسي الجنسية)، يعمل على موسيقى "شخصية بحتة، بلا مصادر"، كما قال في لقاء صحفي معه. 
يرى عازريه أن الفن هو إعادة ترتيب للعلاقات الشاملة بين الصغائر والكبائر، بواسطة الحلم الذي يحتوي عليه العمل الفني لواقع غير موجود. ويتمنى أن يجد العرب "آلة زمن" تعيدهم إلى الخلف ألف سنة أو تدفعهم إلى الأمام ألف سنة. كما يعمل موسيقاه بطريقة عفوية تحافظ على اللذة العميقة في الأداء، وتسعى للحفاظ على حرارة اللحظة الأولى كي لا تطغى برودة العقل والتفكير على حرارة الوهج الفطري للعمل الموسيقي. 
في شريطه "نوابل" غنى لابن الفارض: 
يا نسيم الريح قولي للرشـا 
لم يزدني الوجد إلا عطشــا
لي حبيب حبه وسط الحشـا 
لو يشا يمشي على خدي مشا
روحه روحي وروحي روحه 
إن يشا شئت وإن شئت يشـا
فكأنه دخل في سبحات صوفية بإيقاع أقرب إلى الألحان الكنسية القديمة، تطفو معه إلى أجواز السماء العلى. وحين تنتابني إلى اليوم حالات ضيق أترنم بهذا اللحن فتنفرج الأمور. وبعدها أخرج عازريه شريط "جلجامش" الذي حكى فيه موجزا لحكاية جلجامش بألحان استلهمت روحا أسطورية مبهمة. ثم شريطا بعنوان "نصيب" وآخر بعنوان "عمر الخيام"، وآخرها "فينيسيا" (وهو الوحيد الذي غناه بلغة غير عربية: لغة أهالي البندقية). 
هناك قوى داخلية غامضة متناثرة داخل أي فنان تدفعه إلى تحقيق المعادل الموضوعي من الخارج. وفي الموسيقى العربية أو الشرقية عموما، نجد التكرار يمثل متعة، لكن عابد عازريه يبحث عن الجديد في كل عمل يقوم بأدائه، فالهدف "لا يمكن التقاطه والحصول عليه نهائيا" كما يقول، حيث يسعى الفنان دائما للقبض على شيء فلا ينال سوى جزء شحيح منه. 
وفي النهاية، لا أعلم حتى اليوم إن كان سعد الدين حسن (دليلي إلى عابد عازريه) قد توفاه الله فأراحه من عذاباته وكوابيسه واستراح، أم أنه لا يزال على قيد الحياة تشبعه ركلا ولطما إلى اليوم. 

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads