سعدى يوسف
|
يومُ سبتٍ غائم
ضبابٌ علي المتوسِّطِ ...
لا طيرَ يمْرُقُ عبر زجاج النوافذِ
لا صرخةٌ من نوارسَ ،
والرايةُ المغربيةُ هامدةٌ فوق مبني الضرائبِ .
مَن أمَرَ الشمسَ أن تتأخّرَ ؟
مَن قادَ مرْكبةَ الثلجِ حتي هنا ، في أزقّةِ طنجةَ ؟
إني اتّخذتُ سبيلَ هروبي ، جنوباً ، لأهجرَ لندنَ
والقارةَ المتوحشةَ ...
الثلجُ يتبعُني من هناكَ !
ولكنني سوف أنتظرُ الشمسَ :
إفريقيا
واللقالقَ ( أعشاشُها في رؤوسِ المآذنِ )
أنتظرُ الأغنيةْ !
طنجة 1013/2/16
عُمّالٌ مَغاربةٌ
من الثامنةِ ، الصُّبْحَ
إلي الخامسةِ ، العصْرَ
نُرَقِّقُ أرغفةً
ونرَمِّمُ أرصفةً
وننامُ بلا صلَواتْ.
تسألُنا ، ماذا نأكلُ ؟
تأكلُنا البِيصارةُ
والكمّونُ الناشفُ والفلفلُ .
يأكلُنا الجوعُ
ويأكلُنا القهرُ كأنّا ذُؤبانُ الفلَواتْ
وإلي الشاطيء تحملُنا عرباتُ الأحمالِ
لنبني داراتٍ وفنادقَ
نبني تحصيناتٍ وخنادقَ
لكنّا حين يجيءُ الليلُ
نكون طريدينَ ، بعيداً عمّا شِدْنا من حُجُراتْ
أنُغَنِّي ؟
...
أحياناً ، نتذكّرُ أنّا كنّا أطفالاً
أنّ هناكَ قُريً في الريفِ أحَبَّـتْـنا
نتذكّرُ أنّا أحبَـبْـنـا
فتنوحُ بنا العَـبَـراتْ
طنجة2013/3/14
الصّمت
في هذا السبتِ الباردِ
تبدو الشمسُ مؤجَّلةً ، حتي لَكأنّ سماءَ المتوسِّطِ
قد طُلِيَتْ بالإسمنْتِ الأبيضِ .
حاولتُ ، بلا جدوي ، أن أستحضرَ صوتَ مُغَنِّيةٍ
كانت تعشقُني في باريسَ ...
وحاولتُ ، علي مهلٍ ، أن أُمسِكَ بالضوعِ المتبدِّدِ
من كأس نبيذٍ كنّا نترشَّفُهُ ظُهراً .
لكنَّ الصمتَ عميمٌ
والشمسَ مؤجَّلةٌ
وسماءَ المتوسِّطِ تُطْبِقُ حتي كادَ الشارعُ يختنقُ :
الصمتُ تَحَصَّنَ بي
بالمغلَقِ من حشرجتي في هذا السبتِ الباردِ
بالمغلَقِ من أيّامي في النُّزْلِ الباردِ
بالمغلَقِ من أنفَاقٍ لقطاراتٍ لن تأتي ...
طنجة 013/3/16٢
الشيوعيّ الأخير يريد أن يتغدّي
كان الشيوعيُّ الأخيرُ يجولُ جولتَهُ الأثيرةَ
في أزقّةِ طنجةَ ...
هابطاً من هضْبةِ السوقِ القديمِ إلي مقاهي المرفأِ ؛
انتظرتْهُ ، يوماً ، مَن توهَّمَ أنها استهوَتْهُ
أو هوِيَتْهُ !
وهو ، اليومَ ، ماضٍ نحوَها ، في المكتب البحريّ
كان يقولُ :
قد تأتي معي ، لنكون في رُكْنٍ ، بمطعمِها ،
علي البحرِ .
السماءُ عجيبةٌ في شهر آذارَ !
الشيوعيُّ الأخيرُ يكادُ يغرقُ تحتَ سيلٍ دافقٍ من غيثِ آذارَ ...
الملابسُ ( وهي شِبْهُ جديدةٍ حتي لأغنية الغرامِ ) غدتْ من الزخّاتِ ، أسمالاً !
إذاً
يا صاحبي
يا مَن أُسَمِّيكَ الشيوعيَّ الأخيرَ
عليكَ أن تلقي حلولاً للتناقُضِ !
هل ستمضي نحوَ مَن تهوي؟
أتمضي تحتَ هذا السيلِ ؟
امْ ترتدُّ كالحلَزونِ في مُلتَفِّ قوقعةٍ ؟
أجِبْ في لحظةٍ !
قَرِّرْ !
وقَرَّرَ صاحبي أن يكتفي بالنزْرِ
ولْيدخُلْ هنا ... في المطعمِ الشعبيّ
ولْيأكلْ هنيئاً : طاسةَ العدَسِ !
المدينةُ سوف تعودُ مُغريةً غداً
ولسوف يذهب نحوَ مَن يهوي ... هنالك عند أرصفةِ العبورِ
إلي » طريفةَ «
ربما رضِيَتْ صديقتُهُ أخيراً !
طنجة 013/3/26٢
خلِّنا نتمازَحُ !
في المساءِ المبكِّرِ يأتي السنونو
ويأفُلُ عن طنجةَ النورسُ ...
الليلُ يهبطُ شيئاً فشيئاً ، هُنا
( هكذا يلعبُ الطيرُ )
يأتي السنونو
كما أنتِ ، يخطِفُ بين المباتي وتاريخِها
يتخاطَفُ حتي يمسّ الزجاجَ
ويخطِفُ
يخطفُني ...
قد تقولين : لا شأنَ لي بالذي أنتَ مُضنيً بهِ أنا لا شأنَ لي بالسنونو
ولا بالنوارسِ ؛
أنا لا شأنَ لي بكَ ، حتي ...
أقِمْ حيثُ أنتَ
أقِمْ حيثُ شئتَ
أقِمْ حيثُ تأتي النوارسُ
أو حيثُ يأتي السنونو ...
أنا لا شأنَ لي
...
حسناً
غيرَ أني أُحبُّكِ !
طنجة 013/4/8٢
محكمة عسكرية
خمسون مرّتْ منذُ أن أدخلتَني ، بـــــ ا معسكرِ التاجيّ « في بغداد
مغلولاً
ومرتعشاً
أُحاكَمُ ...
كان حكّامي الثلاثةُ ، مثل ما قرّرتَ ، ضبّاطاً
وكانوا يلمعونَ
نظافةً
وقيافةً ...
أمّا أنا ، المغلولُ والـمُضني ، فقد كنتُ الأسيرَ
وكان حرّاسي الذين تناوبوا ضربي اختفَوا ...
وحدي مع الضبّاط !
لم أكُ خائفاً ؛ لَكأنَّ طيراً كان ينقرُ جبهتي ويقولُ :
إرفعْ رأسَكَ !
الرجُلُ الذي هوَ مَن ستحيا : وقفةٌ !
أرجوكَ
إرفعْ رأسَكَ ...
الشعراءُ والأشجارُ أعلي !
طنجة 013/4/24٢
مُـكـالَـمـةٌ
تداعبُني نَوارُ ، وكان فوق لسانها عسلُ البداوة : هل بدأتَ تحبُّني ؟
كانت نوارُ ، هناك ، عبرَ البحر ...
يأتي الصوتُ مرتجفاً قليلاً .
( أهيَ أغنيةٌ ؟ )
أقولُ : أُحبُّكِ !
الصوتُ الذي يأتي وقد قطعَ البحارَ وليلَها الثلجيّ
أمسي شاخصاً عندي
أكادُ أضمُّهُ لأضُمَّ خِصْراً من نوارَ وخُصلةً ...
فأضيع َ !
قولي ، يا نوارُ ، وأنتِ مائدةُ الندي :
أيّانَ تأتينَ ؟
الزهورُ تفتّحتْ
والنحلُ يأتي
والسناجبُ ترتقي الأغصانَ مثلَ الطير ؛
قولي يا نوار !
طنجة 013/5/22٢
لعنةُ العراق
»نتغدّي بهِ ،
قبلَ أن يتعشّي بنا ... «
ها هي ذي الحكمةُ الأبديّةُ عند العراقيّ ؛
من سومر الماءِ
حتي جلاميدِ آشــورَ ...
من ثورة الزنجِ
حتي مذابحِ صدّامٍ ،
الحكمةُ الأبديّةُ باقيةٌ :
نتغدّي بهِ
قبلَ أن يتعشّي بنا ...؛
الآنَ أسألُ :
يا سيّدي
أيُّهذا البسيطُ العراقيُّ ... أنتَ شقيقي
إذاً ، أنا لستُ عدوّكَ .
لستَ عدوّي .
ولكنْ ، قد استحكَمَ الأمرُ !
هاأنتذا ، تتمثّلُ حكمتكَ الأبديّةَ ، تلكَ التي قتلتْ سومرَ الماءِ
تلك التي قتلَتني ، أنا ، كلَّ يومٍ هنا :
» نتغدّي بهِ ،
قبلَ أن يتعشّي بنا ...
...
أيُّهذا البسيطُ العراقيُّ :
كُنْ لحظةً أنتَ
كنْ لحظةً ، مثلَنا !
لندن 2013/5/26
|