الرئيسية » » مقعد راكب غادر الباص وديع سعادة

مقعد راكب غادر الباص وديع سعادة

Written By هشام الصباحي on الاثنين، 6 مايو 2013 | مايو 06, 2013

مقعد راكب غادر الباص

وداعًا أيها الله، إني أمشي ناظرًا إلى قدمي، ذاهبًا إلى المقهى للقاء الأصدقاء
وداعًا، إني أشيخ، المقهى في الساحة، أصعدُ درجتين وأجلس
سمعتُ كارمينا بورانا ومشيت، المسجّلة تغني الآن وحدها،
قرب الشبّاك المغلق
مطر خفيف على الزجاج، مطر خفيف على الميناء المقابل
وداعًا، الساعة الرابعة، معي موعد مع أصدقائي
أصعدُ درجتين، وأجلس
نضحك فاتحين فمًا على فم، ورديين خارجين من البرَّاد
من الأسكيمو مع الدببة، من الأسكيمو مع زحَّافات تجرّها الكلاب، مع جلود الماعز
فمًا على فم، كمتناكحين
متزوجين الضحكات الإلهية، الكلمات غير المفهومة، الأجنحةَ التي لبستها الملائكة، وطارت
متزوجين خمسة سنتمترات من الهواء
تسبح فيها أفواهنا، ملائكةً جديدة، طيارين ساقطين بمضادات
اوراقًا روحية ممزَّقة، قطعًا من الأشباح، آلهة متروكة على الأدراج
نتحدَّث ساحبين من أفواهنا إبرَ الكلمات، الخيوط من عروقنا المنسوجة بقياسات غير دقيقة
ونذهب في الشوارع منشرحين اننا تحدَّثنا، ورمينا برتقالاً من النوافذ، وسمعنا الصمت المرتجف للطرقات
أننا تعاركنا مع صاحب المقهى، تعاركنا مع سائق الصهريج، تعاركنا مع الله، وخرجنا
شارل بلحيته الشقراء ككوز تين، ببنطلونه المصنوع ليتَّسع لناس آخرين لا يجدهم
عباس برأسه المصبوب في المعتقلات
ماري بجسدها النازل من جبال الثلج، وعلى وشك أن يذوب
عبده بغرفته الجديدة، هاربًا من حميدة العجوز، ليستمني بحريَّة
عقل بحبه الضائع، بإيزادورا، بوجع ظهره، بالـ "آر. بي. جي" التي سقطت أمامه
ضاحكين ضاحكين ضاحكين
نرفع أيدينا في الفضاء، نخفضها إلى الأرض، نعيدها إلى جيوبنا
نصبُّ على أنفسنا الماء لنستفيد من أجسادنا
سجَّاداتٌ تحت الشتاء، وبرٌ ناعم يتحدَّث مع المارَّة،
قاطرات منبثقة من العورات
ونصرخ معًا: وصَلَ الباص الإلهي، وصلت حقائبنا
حقائب حقائب حقائب، حقائبنا ضائعة بينها فلندخل المقهى
نُجلس معنا على الطاولة وبر أجسادنا، نجلس لحانا،
معاركنا استمناءاتنا غلَّة نهارنا من بيع قطع مغشوشة من التخيُّلات
ممالك بيضاء تغنّي على النوافذ
أبديةٌ في الممشى، أبدية مربوطة بخيط
ونُرجع الكرسيَّ قليلاً ليمرَّ الهواء،
وداعًا
وداعًا أيها الله
بالهواء الذي يمرُّ بيننا، بالماء الذي دلقتَه عليَّ، وداعًا بعينيك اللتين تترصدانني من وراء الباب، بفمك الأزرق، بنظَّارتيك المصنوعتين عند "نظَّارات الحكيم الطبية"،
ويديك اللتين تقولان لي: هذا هو الطريق
وداعًا بمعصميك الجميلين، بساعتك التي تشير إلى وقت مجهول، الساعة الرابعة الآن، وداعًا
شبطين، 6 كانون الأول 1962، أبي –هيكلٌ عظميٌّ محروق يُسند ركبتيه بيديه، وكنبةٌ يخرج منها الدخان
شعاع قمر يدخل من الكوَّة
وعلى المائدة سمكة غير ملموسة، قنينة عرق فارغة، ورقة لوز أمام الباب
كنت أزن 40 كيلو مع الورقة التي أكتب عليها الشعر
40 كيلو مع ابتسامتك، مع نظرتك، مع يدك على كتفي،
مع سمكتك على الطاولة، مع لحمك المحروق
40 كيلو مع دخانك
جواد الجنّة ينطلق، نقطةُ عرَق على جبهته
"صان بوت" تبحر إلى لارنكا، تمشي على البحر قرب السمك، "صان بوت" الشمس الخشبية المسافرة
تودّعها يدٌ يتحرك خنصرها قليلاً، ويعود إلى مكانه
نتحرَّك في مقاعدنا، نمرّر أصابعنا على شعرنا، نضرب دماغ الوقت قبالتنا على الحائط
مرتدين قمصانًا مفتوحة على الصدر، ننظر إلى بعضنا ونبتسم
ننظر إلى العابرين الذين يشبهوننا
جالسين وسط دخان السكائر، جالسين أو واقفين أو عابرين، آكلين حجارة الشارع، آكلين الشرفات من أمام السيارات، من أمام عربة التوقُّعات التي توقفت عندنا
حاملين رأس المحبة عاليًا وصارخين
شرايين محطَّمة، أمعاءُ أرض طويلة مرمية على حوافي الطرقات
حاملين سواحل، أبراجًا، قطعًا هوائية، هياكل سفن، أيدياً وأرجلاً وصدورًا تلبس القمصان
وقدمُكِ يا أمي التي تقيس 20 سنتمترًا
حذاؤكِ الذي صنعه لكِ شقيق أبي سنة 1957، ولا تزالين ترتدينه الآن
أظافركِ الطويلة وأنت تنتظرين أن يبتسم وديع لتسأليه: هل تقصّها لي؟
ركبتاك الزاحفتان على الشوك والحجارة نحو ضريح قديسة،
ليتوقف أبي عن السكْر
فستانك الوحيد كأنه لاصق بجسدك، جسدك المترهل الذي خرجتُ منه ذات يوم حاملاً عينين صغيرتين وأصابعَ بالكاد تحتمل الهواء
مادًا يدي تحت نقاط المطر لسيارات سريعة
ذاهبًا إلى باريس بالأوتوستوب
أقنع صاحب المقهى بلغة فرنسية ركيكة
Une bouteille d’Arak extra
لقاء ترويقة مجانية
نائمًا تحت مواقف الباصات في ثلج كانون الثاني
نائمًا في مأوى العجزة، مع مئة وخمسين عجوزًا يسعلون طوال الليل ويذهبون بالدقائق إلى المراحيض
على نهر السين، مع ورق الشجر على المقاهد
على الطريق مع حقيبة كبيرة، راميًا أغراضها قطعة وراء قطعة، وقارئًا على جذوع الشجر: "الصيد ممنوع"
في هندايا، بيدين فارغتين أخيرًا على الحدود الإسبانية،
وتنقصني عشرون بيزيتا للوصول إلى مدريد
وداعًا
الكنبة قرب الباب، القنينة على الطاولة، الله في السماء، أبي في القبر، الثلج على الجبل
الوقت مغمىً عليه في الشارع، الحياة جالسة مع صديقها وراء الصخرة، غناءٌ يصل إليَّ من مكان بعيد
نمشي حاملين أجسادنا، ملفوفين بضمَّادات عتيقة من الضلوع، ملفوفين بعروق مسروقة، بجلود ناعمة ناجية من الحروب
نضع جسدًا أمام جسد ونحدِّق في الحيطان
هاي، لويس، أعطنا كأسًا أخرى
سركون سيكتب الليلة مئة قصيدة، جاد سيكتب رواية كاملة عن الحرب اللبنانية ويهاجر غدًا صباحًا إلى ملبورن
أعطنا كأسًا يا لويس
الدماغ سيتحوّل بعد قليل إلى قطة لطيفة، العميان سيبصرون، الأبدية ستدلّي أثداءها وتقول خذوا، الله أخيرًا سيقدّم شفتيه، هذه الكرة الأرضية ستصبح من مسروقاتنا الخاصة
سأصبح ملكًا يا لويس اعطني كأسًا
برجي هو برج السرطان، عندما أستيقظ أجد نفسي في العالم من جديد وأنظر مليّاً في عورتي
أمشّط شعري وأخسر منه عشر شعرات تقريبًا
برجي هو برج السرطان، برج بلا شَعر، بيد صغيرة بالكاد تزحف على الأرض، بعينين شبه مرئيتين تؤديان خدمتهما الإجبارية على الصخور
أحتفظُ بمنظر سفينة تبتعد، بأصداف ابتسامات غريقة،
بعيون عميان منسية على الرمل
أحتفظ بليالٍ فقيرة تأتي إليها الرياح بالصدفة
ولكن يا لويس أنتَ لا تفهم كل هذا
فقط قلْ لي: لماذا لا تدع صديقي يسند قدميه المتعبتين على زجاج مقهاك وهو بعد قليل سيتابع المشي كل حياته
اسمعي يا أمي مريم العذراء اسمعي يا أمي فرنجيه، أنا لا أحب لويس
الياس صديقي، شعيا صديقي، لكني لا أحب لويس
المطر ينزل على النافذة
في الخارج أواني زهور، كنبةٌ أعتقد أنها تبلّلت
على المقعد كتلة صغيرة، أعتقد أنَّها هرَّة
واقف في شارع صغير، أمدُّ يدي للمارَّة
أنت تعرف يا جاد، كان ينقصنا ربع ليرة للوصول إلى ساحة البرج
مبسّطٌ في شارع الحمراء، مبسّط أمام كلية الآداب، قرب بائع فستق سوداني، أبيع "ليس للمساء إخوة"
وبعد ذلك المعامل في أوستراليا، النهوض في الرابعة صباحًا
وانتظار الباص، والوقوف تسعة أشهر أمام آلة في مصنع هولدن لجمع تذكرة العودة إلى بيروت
ثم 1975
وحقيبة أمشي بها بين قرية وقرية بائعًا الاسعافات الأولية للمسنّين
قوموا نبحث عن مقهى آخر
"داون تاون" بناء حجريّ جميل، فيه كراسٍ تطلُّ على البحر
نجلس
ونضع إصبعين على البار،
وداعًا إني أشيخ
معي في صدري ضلوع ضعيفة، كانت ترغب يومًا أن تلعب الجمباز
معي رأس بكامل تجاويفه
معي يدان صامتتان أرافقها كل النهار، ثم نتصافح ونذهب إلى النوم
ماذا يفعل كسولٌ على مدى أربعين عامًا بهذه الأعضاء؟
وداعًا
القمر على الماء، رَجُلٌ على الطريق، وشاحنة مسرعة
نمشي كتفًا على كتف، مصطدمين بأنفاس عمياء
راكضون راكضون راكضون
حاملون الحقائب، حاملون الأولاد والنساء، الطاولات والكراسي و المزهريات، وراكضون
متسابقون بأقدام نحيلة، بجذوع أشجار مكسورة، وما الداعي؟ مناسبة متواضعة: الحياة
وداعًا، النافذة أمامي تطلُّ على الميناء، ومغلقة منذ البارحة
المطر خفيف وجميل، الكنبة في الخارج، الأبدية في الممشى،
يدي على الطاولة
قَدَمُ أمي تقيس 20 سنتمترًا
وداعًا.



التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads