عطر المحبة
لرجل الجنة المفقودة
منذ ستة وعشرين عاما
وأنا أخدم هذا البيت
أنام بعد أن ينام سيدى وسيدتى
وأستيقظ قبلهما بساعات
لأتسلل فى هدوء
وأطمئن على الأطفال فى نومهم
وأحلم دائما
أن سيدى وسيدتى سيبتسمان فى وجهى
عندما يشاهدان لمعان فضيات المنزل
كنت لا أشعر بالراحة
إلا عندما أنام على البلاط البارد
البلاط الذى شهد سقوطى
بركلات من أقدام سيدى
البلاط يهدهدنى بصلابته وبرودته الحانية
لم أحزن أبدا من لطمات سيدى على خدى
أو لسعات كرباجه السودانى
وهو يوبخنى على إهمالى
وكنت أعتبر أن قسوته على
هى ذروة الحنان والحب
وكلما شعرت بالمذلة والضعف
كانت الحوائط تسندنى بأمومتها
وخلال ستة وعشرين عاما
أحببت هنا كل شىء
صرت أتلمس المقاعد
وأرنو إلى الأسقف واللوحات المعلقة
والفازات الأثرية الثمينة والنجف
خائفا من الزمن
خائفا من الأتربة
صار المنزل صديقى ؛
صديقى الذى دافعت عنه ضد الزمن
بينما استطاعت الأيام أن تهزم شبابى
كان كل شىء فى البيت
يتحول إلى ملكى الخاص فى الليل
فعندما ينام سادتى
يتخلون عن عداوتهم لضعفى
ويبدون لى أكثر جمالا وأكثر حنانا
تكون وجوههم نورانية
وأياديهم مليئة بالورد وناعمة كفراء القطط
كنت أجلس خلف باب المطبخ
وأنظر إليهم من بين مفصلات الباب الموارب
وهم جالسون فى الصالة
فى ملابسهم المنزلية الجميلة
الملابس التى غسلتها بيدى أنا
وسكبت عليها عطر محبتى
يجلسون بأجسامهم النبيلة
على المقاعد التى نظفتها بيدى أنا
ويشربون القهوة
التى لمستها بلسانى المخلص
قبل أن تدخل أجسامهم الحبيبة
ويتحدثون فى السياسة والفلسفة
كنت مؤمنا أن سادتى
يعرفون كل شىء فى الدنيا
ولم يخطئوا طيلة حياتهم
وكنت أرتعش
وأنا أرى سيدى يتأبط ذراع سيدتى
ويدخلان حجرة النوم
لأبدأ بعدها فى تخيل ما يحدث بينهما
وأبكى على جسد سيدى
وأبكى على جسد سيدتى
كنت أغار على سيدتى من سيدى
وكنت أغار على سيدى من سيدتى
وخلال ستة وعشرين عاما
كنت أسمع أصوات قبلاتهما
تهز قلبى وروحى
كأنهما حيوانان بريان يشربان الماء
وكنت أنتظر خروجهما
لكى أنام على سريرهما
وألمس بخدى المكان الذى تنام عليه سيدتى
وأتشمم رائحة شعرها المتناثر فوق المخدة
وأتخيل يدى وهما تمران على نهديها الجميلين
وأقبل يدى وأصابعى
وعندما أصيب سيدى بالجنون
من كثرة قراءة كتب السحر
كنت أبكى من صوت صرخاته
وهو يتخبط فى مكتبته
أو عندما كان يهتاج
فيحتضن الطفلين فى صدره بقوة
وعندما كنت أزوره فى القبو الذى حبس فيه
كنت أرى عينيه الحزينتين المليئتين بالدموع
عاجزا عن الكلام……
لقد أصبح خامدا فى الأيام الأخيرة
كان يجلس على كنبته القذرة
لأيام متواصلة دون حركة واحدة
أصبح قذرا مهوش الشعر
واصفر شاربه الأبيض من كثرة التدخين
لا أحد يراه أو يعرف أفكاره
وفى أحيان كثيرة
كنت أصعد إلى حجرته المهجورة
وأرتدى ملابسه
لأرقص على إيقاع الأغنيات الغربية
التى لم أفهم معناها أبدا
لكنى كنت دائما أتلصص على سيدتى
وهى تغنيها بتأثر شديد
وعلى وجهها ابتسامة مثيرة
آه من سيدتى ....
الكنز المحرم الجميل
سيدتى زهرة البيت
لم تكن ترانى أبدا
وأنا من ناحيتى
لم أجرؤ أن أمد عينى لتلمسا نارها
بل أننى ربما لا أعرف ملامحها جيدا
كانت سيدتى تقترب منى فقط
عندما أغمض عينى
كانت الحياة فى البيت
جميلة رغم كل شىء
فلماذا فكروا فى بيع البيت
لماذا هدأت أصواتهما
وما الذى يدفع سيدتى الآن
إلى خيانة سيدى مع رجال كثيرين
رغم أنه أعطاها محبة
تكفيها ملايين السنين
لماذا فكروا هكذا فى تدمير مملكتى
أنا لم أكن قاتلا أو مجرما
عندما أشعلت النار فيهم جميعا
كنت أدافع عن زمنى
الذى بعته لهم دون مقابل
كنت أدافع عن الحياة الجميلة
والحب والخير
كنت أطهرهم من الخيانة بالنار
لذلك ؛ ظللت طيلة الوقت
راكعا أمام جثثهم المتفحمة
داخل الصناديق الزجاجية
وفى يدى شمعدانات فضية
وأعواد من البخور
حارسا عليهم
حتى لا يدخل شيطان الخيانة أجسادهم مرة أخرى
وضعت الحب كله
على جثة سيدتى
والحنان كله
على جثث الأطفال الصغار
والبكاء والحزن كله على جثمان سيدتى
وصرت أقرأ لهم فى كل صباح
الأنباء الأخيرة عن حياة العالم
والمجازر الجماعية
التى ارتكبت ضد الرقة والجمال
وفى المساء أضع على أجسادهم
الأطياب والحنوط
وأشرب شايا بعددهم
وأدخن لسيدى سيجارتين
وأشترى ملابس جديدة للأطفال…
أنا لم أكن مجرما
فلماذا غادرنى البيت الذى أحببته
لماذا اختفت الحوائط
والأجساد التى خدمتها
لماذا خاننى البيت
وتركنى وحيدا
دون أن يتوقف لحظة واحدة
ليلقى نظرة أخيرة
على جسدى المتدلى من سقف العالم
أنا الذى عشت عمرى كله
أشرب الحياة من ضعفى
كيف سأعيش الآن
دون أن أكون خادما مطيعا لسادتى
كيف سأعيش الآن
دون كراهيتهم دون عذاب
كيف………؟