الرئيسية » » فيما لو أتذكر الموتى | محمد المطرود

فيما لو أتذكر الموتى | محمد المطرود

Written By كتاب الشعر on الأحد، 7 ديسمبر 2014 | ديسمبر 07, 2014

محمد المطرود
فيما لو أتذكر الموتى جيداً، وليس في طبعي نسيانهم، سأتذكر مقبرة القرية كلها بمقابرها المتلاصقة كأنها مقبرة جماعية، وأحاديثهم المتخيلة ليلاً، حين كانَ فتية كذابون، يدّعون الشجاعة، ويوهموننا أن الموتى يتحدثون آخر الليل، ويتزاورون ويتبادلون الأطعمة بعد أن انتقلت أرواحهم إلى حيوانات صغيرة غير مؤذية، لكنها لا تظهر إلا للشجعان وميتي القلوب.

فيما لو أتذكر أحداً، سأقلب مواجعي على جمر الذكريات، وليس من طبعي أن أهنأ في اليوم أكثر من ساعة إذا كانت السماء مغيمة وتشي بمطر غزيز، المطر يذكرني بالنافذة، والنافذة تذكرني بأول حب في حياتي، وأول حب يذكرني بالحياة هناك وليس هنا، وفيما لو أتذكر الأنثى التي أحببت، وذهبت إلى شخص سواي، ولها أولاد يصادفونني في الشارع فلا يتعرفون عليّ، بينما أحمل حسرة لو كنت أباً لهم، الأولاد كبروا كثيرا، وخفَّ الحبُّ المشكوك في أمرهِ، الحب الذي ينبت على خشب مقعد الدراسة أو مقعد شاغر في حديقة المدينة، يحكم عليه بالموت عاجلاً أم عاجلاً.

فيما لو أتذكر الموتى، سأتذكر المرأة البلجيكية من أصل سوري، كيفَ سحبتني من يدي نحو ظلالها الصديقة، ووعدتني خيرا، ثم أشعلت في روحي كل ماجمعت من شجر وحشائش يابسة وبقايا شموع وكتب قديمة وبراويز صور تالفة، كنت أرى الضوء يشعُّ مني وأرى تلذذها، رأيت الأشياء جميعها دفعة واحدة، فما عدت أبحث عن المخبوء تحت الثياب الشفافة والأقاويل التي تحتمل اللبس والتأويل. احتملتُ فوق طاقتي، فصرت منفضة كبيرة، وتراكم الرماد فوقي.

أنا إن أحببتْ أموت صدقاً، وفي الحبِّ كما في الشعر لابدَّ من كذبة بيضاء أو رمادية أو بينَ بين، كذبة تقال بمناسبة وغير مناسبة، لكن لا أنياب لها، وحاملها أعزل بلا سكين أو نية سيئة، ثمة في الحياة مايحتمل الكذب ولايحتمل السيئ، على الأقل وأنت تخدع أنثاكَ بأنكَ صريع صدقكَ، والموت ملاقيك فيما لو خضتَ عباب بحر غير بحرها وشربت من نبع غير نبعها، وأهرقت سائلك المقدس على غير فخذيها، وبللت بلزوجته السرير والجسد الذي يلمع كفضة تحت النيون. أنا أموت اللحظة، والذي يكلمك عن قرب هو ظلي الأسمر، خشن الملامح، والمائل إلى حجر يتكلم لغة واحدة، ويتواصل مع أهل بلده الجديد بالإشارات. العقل المشغول بلغة غنية وصرامة من السيد العصا في المدرسة، هو عقل سجين أيضا، قلتُ هذا لأنثاي البلجيكية من أصل سوري حتى مالت عليَّ بجذعها، واستوت قرب جسدي كخريطة قطارات داخل المدينة الكبيرة، ثم رطنت بالعربية والكردية والألمانية والروسية والإيرانية والتركية، لأقفَ أمامي من جديد، أحرك سيفا في الهواء، ولما سألتني عما أفعل، قلت: أمزّق ظلي القزم.

فيما لو أتذكر، سأتذكر هذا بحسرة من فقد أهله في حادث سير، ثم صار مسيحيا فوضع في مكان الاصطدام أصيص ورد، وجدد الورود، كلما التأم الجرح، وتأورت نار الفقد، فالأماكن تنزُّ ناساً وألما، وعلى بعيد مثلي، أن يعدَّ النجمات لا أن يقطفها، ليس له حاجة بقطعِ صخر خامل، يستجدي الضوء، وإذا ما نجحت حيلتي وأنا أحكُّ قصيدتي بالمرأة ورأيتها تشتعل، سأقول: المرأة ضوء، ولا خوف على البشرية في غياب الشمس.

فيما لو أتذكر الموتىَ، سأموتُ، وأختار قبري الذي يليق بي قرب قبورهم واحدا/ واحدا، وسأطلب من الدود الذي سأكون أن يزورهم واحدا/ واحدا، ويوصل إليهم الرسائل:» نحن اشتقنا لكم».. «هل تنعمون بالضوء هناك».. «هل تؤلمكم الوحشة».. «هل تتشاجرون مثلنا».. «هل تقطفون الورود وتهدونها لحبيباتكم».. «هل يجتمعُ الذكر بالأنثى وينجبان دودة صغيرة».. «هل للدود أسّرة، وأعضاء تناسلية».. « هل إذا جعتم تأكلون لحم بعضكم»..» هل إذا رأيتم زائرا جديدا تتلقفون منه الرسائل، وتكتمون على أنفاسه بالأسئلة».. « وهل أيها الحبيب، وصلتكَ دمعة الأنثىَ المسالة على الرخام كفضة طرية، فنهضتَ من شكلك العاجز الذي أنت فيه، وشربت من مائها المالح فعدت ثانية للحياة في هيئة طائر له جسد إنسان ضئيل، لكنّه يطير في جوفِ ذاته؟!.

فيما لو أتذكر الموتى، وآه من الموتى، سأتذكر يدي المشلوحة بعيدا عني، تقطف في موسم تزاوج الحمام نهداً يضيعُ في مهرجان ثمار الرمان النارية، للنهد مايشبه الرمان، وقال شاعر شعبي» جوا الثوب شفت رمانتين بعود» والشوف أبعدُ، عيني، عين الصقر، لم تتعب من نبش البياض في الكتاب_ كل الكتب_ منها كتاب الفواكة الموسمية، أنا الإقطاعي، وكلُّ مزارع الفراغ التي تمتد أمامكم مزارعي، من حقولِ الذرة في الصفحة الأولى إلى حقل الشوفان وحارسه القتيل إلى الحنطة فالديس والعليق، والبرسيم لأحصنةِ قائد الجند/ حامي حمى حدود الوهم، إلى أربعين نوع من الورد، يهيئ عطر الحبيبة، إلى عجينةِ السحر تنسحب على جسدها، فتمسدُّ هي جسدها الأملس بيدي، تَدلُّ أصابعي العمياء على الكنز واللغة النائمة كقط.

فيما لو أتذكر الموتى، لن أتذكر بلدا، ينام فوقي كتراب قبر جديد، سأتذكرُ مقبرةً كاملةً تستيقظ في الليل وتنام نهارا، مقبرة مغرية، فتحت فمها بكل الأناشيد، لكنها لم تقل: «عاشت البلاد» ، لهذا كلما اصطكَ جسدها شبه المعدني بالجسد الحار، صارت كحفرة أحدثها صاروخ أو نيزك أو برميل.



التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads