الرئيسية » » نصوص قصيرة | باسم عبد الحليم

نصوص قصيرة | باسم عبد الحليم

Written By هشام الصباحي on الخميس، 16 أكتوبر 2014 | أكتوبر 16, 2014

 

سفر

 

حين أخبرته بنيّتي السفر إلى مدينة أُخرى، اندهش قليلاً لعلمه بكراهيتي للإرتحال وخوفي من ركوب البحر. نعم، لا بُدْ وأن تكون مدينة وراء البحر. سألني عن اسمها، فأجبته. بدا له الإسم غريبًا، وبعث في نفسه شعورًا بالإنقباض. ردد إسم المدينة ببطء عدّة مرّات، وهو ينظر لي، كأنه يختبر مذاق الإسم في فمه، ثم قال: "صفّها لي".

تنحنحتُ قليلاً واعتدلت في جلستي. وأوحتْ نحنحتي واعتدالي في الجلسة بأنني مقبل على مهمة ذات شأن، مهمة ليست سهلة بأي حال وتتوقف على نجاحي فيها أمورٌ جسيمة. شربتُ جرعةً من الماء، وبدأتُ في وصف المدينة ذات الإسم الغريب. وكلما حكيتُ شيئًا عن أبوابها العالية، أو الأسوار التي تحميها، أو أهلها الصامتون دومًا، بمسحة الجلال التي تكسو وجوههم، زاد فضوله ودهشته أكثر وأكثر، وأخذ يسألني مستفهمًا عما قد أكون أغفلته في الوصف. كانت أسئلته تأتي إلى المدينة بتفاصيل أخرى لم تخطر لي على بال، حتى شعرتُ وكأنه يصف، على لساني، مدينته هو، تلك التي قد يسافر إليها ذات يوم.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الأفريقي

 

في الحكاية التي تخُصُني سيكون أبي عملاقًا أفريقيًا. محاربًا عظيمًا، أو زعيمًا لقبيلة من السود. فَقَدَ أهله صغيرًا على يد قبيلة أخرى مغيرة، ثم عاد كبيرًا، وأباد القبيلة الأخرى. ذبح كل أفرادها، حتى أخر رضيع فيهم. هذه هي الصورة التي علقت برأسي من صفحات رواية قديمة قرأتُها، وصارت مع الوقت الصورة الأقوى.

ترددتُ قبل أن أقرر عنف الإنتقام؛ "حتى أخر رضيع فيهم". لكني هكذا كنتُ أرى انتقام أبي؛ قاسيًا ووحشيًا، ولا أخلاقي أيضًا، كما يليق بهمجي لا يعرف القانون. وهكذا يكتمل للحكاية عنفها ودمويتها فتصير أسطورة.

أما في الحكاية التي تخصكم، فإن أبي كان كهلاً بلغ أقصى العمر قبل أن أولد أنا إلى الدنيا. جسمٌ ناحل وشعرٌ أشيب، وعظامٌ واهنة استحال لونها إلى الأزرق. كان يتلفع دائمًا بعباءته الصوفية الثقيلة خشية البرد. لم يصارع أحدًا في حياته سوى الموت. ومع هذا، لم ينتصر أحدهما على الأخر أبدًا.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وجوههم في الصور

 

في ليلةٍ ليست بعيدة، كان يقلّب في بعض الصور العائلية القديمة. الصور موزَّعة على عدّة ألبومات مختلفة الأحجام والأشكال. بعضها على الأقل، إذ أن الصور كانت قد زادت على سعة الألبومات فحُفظت في صندوق من الكرتون. كانت كل صورة ينظر إليها تستدعي لديّه فيّضًا من الذكريات، والتي قد زادت هي الأخرى على سعة ذاكرته الواعية، فصار منها ما يطفو على سطح وعيه كصور باهتة لم تعد تؤثر فيه بالدرجة نفسها، وصار منها ما هو محفوظٌ بدوّره في صندوق مخفي، لا ينتظر سوى لمسة هيّنة كي ينفتح، مطلقًا كل أشباحه المنسية، تلك التي لم يتخيل للحظة أنها لا تزال تسكنه للآن. 

صور لأمه وخالاته في حدائقٍ مُزهرة، صورة لجده في أيامه الأخيرة وهو محاط بأطفال العائلة، صور لأشقاءه وشقيقاته في سنين مراهقتهم التي ولّت، وصورة وحيدة لأخته الراحلة في مرض موتها الأخير، وأخرى لأبيه في شبابه، كان أخذها من أجل بطاقة شخصية، وهكذا.

لماذا أخرج صندوق الصور من مخبئه، وجلس هكذا، يطالعها واحدة وراء الأخرى؟ استجلابًا للدفء ربما، أو دفعًا للوحدة؟ لا يعرف، لكنه يدرك هذا الشعور الذي انتابه بقوة لمرآها، شعور بوحشة غليظة لم تبدد الصور كثافة مادتها على روحه، بل على العكس زادتها قسوة وحدة. كأن تلك الأيام التي عاشتها أسرته، ولم يعاصرها هو، قد اجتمعت عليه فجأة، بوطأتها وثقلها، لتجرّه إلى كهفها المظلم. تلك الأيام التي تلاشت الآن، ولا سبيل إلى إستعادتها ثانية من حوزة الزمن.

بعض الوجوه استعصى عليه تذكر مواقعها من تاريخه أو تاريخ عائلته. ربما لم يحزن كثيرًا للوجوه التي احتوتها صورٌ أُخذت قبل مجيئه إلى الدنيا. لكنه أحس بحزن فاجع لتلك التي نسيها، وكانت في صور له هو نفسه. وجوٌه لرجال ونساء حملوه وهو رضيع، ثم وهو طفل، وكانت تطفر بإبتسامات وتعبيرات هانئة، لا يدري لماذا، لفرط جمالها تحديدًا، لم تتشبث بها ذاكرته أنذاك. حتى أنه ليجاهد الآن لتذكرها دون فائدة، وكان جهد التذكر يخلّف وراءه ارهاقًا لا حد له لذهنه وقلبه. كانت الإبتسامات والتعبيرات الهانئة في الصور بعيدة تماماً عن أي إكتراث لمرور الزمن، أو لمحوه لها القادم، لا بُدْ، في يومٍ من الأيام. بدت له الوجوه ذاهلة تمامًا عن هذه الحقيقة في حينها، بينما هو يستشعرها، بعد مرور السنين، بكل الأسى والشجن الممكنين. كانت البرودة لا تني تأكل في روحه ببطء. والآن، وبينما هو يتموضع، مستسلمًا، لصورة جديدة مع بعض معارفه وأحباءه، لم يقدر على الإبتسام للعدسة.

 

 

 

 

 

انتصارات تعقبها هزائم

 

هرش في لحية مجنونة، وهو يفكر فيما عليه أن يكتب في هذه الرسالة. لم يكتب رسائلاً من قبل، ولذا كان يجهل كل شيء عن القواعد المُتبعة، أو ما إذا كان ثمة قواعد من الأساس.

لو كان لديه مثالُ لصار الأمر أسهل. ليفكر إذًا في المقدمات، الجمل الأولى للرسائل عادةً ما تحمل بعضًا من.. من ماذا؟ الشوق إلى الأعزاء البعيدين؟ أو اللهفة لرؤية الغائبين خلف حجاب المسافة؟ لا يعرف. يفكر فيما هو أبعد من المقدمات، ما هو أبعد من الجملة الأولى ومن الرسالة. يفكر في ماهية الرسالة ذاتها، وعلّتها. الجمل الأولى ممكنة؛ سيكون تقليديًا ويبدأ بتحيةٍ معتادة، أو بأسئلةٍ مكرورة عن الصحة والأحوال، ثم ماذا؟ هذا ما يشغله بالفعل.

الرسالة موجهة إلى شخص لم يره من زمن. هو يعلم جيدًا أنه لا يهتم كثيرًا بهذا الشخص، وأن الرغبة في معاودة هذا الشخص ليست إلا ذريعة واهية تبرر مضيّه في كتابة الرسالة. لعلّها تصبح بابًا خلفيًا كي يلتف عبره حول احساسٍ ضاغطٍ بالعجز، هذا العجز الذي يغلّف حياته كلها بهزيمة مُرّة. لو بدأ بداية صحيحة، سيصير بوسعه أن يستمر لبعض الوقت ويكتب عدة صفحات. لو بدأ البداية الصحيحة فليس عليه سوى أن يمددها. جملةٌ أولى، تعقبها جملة أخرى، ثم جملةٌ تعقبها أخرى. وهكذا؛ تتراكم الجمل وتتزاحم على السطور؛ تتشكل الفقرة تلو الفقرة، والصفحة تلو الصفحة. وهكذا؛ كل جملة كأنها إنتصار أخر صغير؛ راية جديدة تُرفع. تستمر الإنتصارات، حتى يصل إلى جملة أخيرة، إنتصار أخير، تعقبه هزيمة محتومة ببياض الصفحة، لكنها مشفوعة بمذاق إنتصارات حلوة سابقة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

عقاب من النسيان

 

حكى صديقه على المقهى واقعة قديمة كان هو، حسبما أكد الصديق، أحد شهودها. وكانت ذراعيّ الصديق تتحركان بقوة وهو يصف الأحداث، والعيون تتابعه في انتباه، بينما يجلس هو صامتًا، لا يكاد يذكر شيئًا من كل هذا.

كانت الفكرة تنبت داخله وتتأكد ببطء مخيف؛ لقد ذهبت تلك الواقعة إلى غياهب جب النسيان. برعب كان يتأمل الموقف، ويضمه إلى مواقف أخرى شبيهة بدأت تتواتر في الآونة الأخيرة. نسيانه لتفاصيل حوادث معينة، بعيدة وقريبة، أو سقوط اسم شخص من ذاكرته، أو فقدان لذكريات كان قادرًا، حتى وقت قريب، على استرجاعها بكل تفاصيلها، كأنه يقرأ من صورة فوتوغرافية دقيقة. كان هذا الشعور جديد تمامًا على شخص مثله عاني فيما مضى، وبصورة مزمنة تقريبًا، من ذاكرة قوية ودائمة الحضور، بشكل كان يفزع منه البعض أحيانًا، فيصفوه بسواد القلب.

بدت له تلك الطبيعة الجديدة عليه؛ طبيعة النسيان، كعقابٍ على ما سبق أن اقترفه في حق تلك الذاكرة القوية. حيث اعتاد فيما سبق أن يدعي النسيان للهرب من مواقف محرجة، أو مآزق وضع نفسي فيها أثناء لحظات لا مبالاة أو اكتراث بالعواقب؛ كأن يدّعي نسيان مواعيد هامة تجاهلها عمدًا. ويذكر أنه كان قد أتقن هذا الدور، دور ضعيف الذاكرة، لدرجة أنه لمح، في غير مرة، نظرات قلق وشفقة في أعين محدّثه، وهو يطلب منه الذهاب للطبيب أو ينصحه ببعض الأطعمة التي لها فوائد في تقوية الذاكرة وتحفيزها.

ويبدو أن نظرة النسيان في عينيه كانت مشحونة بطاقة أداء قوية، بحيث تفرض التصديق على من أمامه، وتنقله من خانة الغاضب بسبب تجاهل الموعد الهام، إلى خانة المُتعاطف، وكان هذا وحده يكفي للإفلات من الموقف المُحرج.

 

 

 

 

 

 

 

 

نيران بعيدة

 

على إمتداد البصر كان الجامعين الأثريين يلوحان أمامي بمآذنهما العالية وشموخهما، وخلفهما كان يرقد ملعب من ملاعب طفولتي الغابرة؛ الحي القديم بحواريه وأزقته المتشابكة، هناك، حيث كانت تسكن جدتي الراحلة في عطفة صغيرة محجوزة ومحمية خلف عشرات الحواري التي تحوطها من كل جانب.

كيف أتيت إلى هنا؟ الوقت يقترب من الفجر، وقد غادرتُ جلسة الصحاب منذ ما يقارب الساعتين. وكنتُ أتخذ طريق العودة إلى البيت حين قابلتُها صدفة في الشارع ولم أكن قد رأيتها منذ شهورٍ طويلة. سلمتْ عليَّ بحرارة، وتبادلنا بعض كلمات، ثم دعتني إلى تمشية قصيرة، وطاوعتها. وطالت التمشية قليلاً حتى وجدنا أنفسنا في هذا الميدان الواسع، المطل على الجامعين الشامخين. هي صديقة سابقة انفصلتُ عنها بهدوء بعد علاقة حب اتصفت بالتوتر والتقلبات الحادة، واستمرت لعام كامل. وحين أصبح الإستمرار عبئًا مستحيلاً، قررنا أن الإفتراق سيحفظ لعلاقتنا بعض من مودة باقية، ويمنعنا من الإيغال في خصومة بلا معنى قد تفسد ما بيننا من ذكريات.

أمامنا الميدان مضاءً بعدد من أعمدة الإنارة، أعمدة طويلة من الحديد تعلوها مصابيح صغيرة يكشف ضوءها بالكاد لمعة الأسفلت. نظرتْ إليَّ بعد قليل من الصمت، وسألتني عن أخباري. فلم أدر بما أُجيبُها.

أنا كما أنا؛ طفل لا يزال يعاند كي لا يغادر طفولته. والآن، كما في أيام طفولتي في البيت القديم، لا أعرف بالضبط ما أفعل بحياتي ولا ما تفعل هي بي. يشدني حبلاً طويلاً يمتد ورائي عشرون عامًا كاملة، فلا هو ينقطع، ولا أنا أريد أن أقطعه.

وتسحبني ذاكرتي المراوغة إلى تلك الأيام البعيدة.

أرى نفسي طفلاً من جديد، بشورت قصير وركبة مجروحة، أسير في الحارة مبتعدًا عن بيت الجدة وأنا أبكي. جدتي تناديني من الشرفة، وأنا أرفض الصعود. كنّا على مشارف الليل، وكانت أمي قد تركتني لدى جدتي بسبب مشاوير هامة عليها أن تقضيها في نهار اليوم التالي.

كم كان عمري حينها؟ التاسعة ربما، لا أذكر.

فقط أذكر تلك الأنوار المبهرة عند مدخل الحارة، والتي اجتذبتني إليها، كنيرانٍ بعيدة، فمضيتُ نحوها غير عابئ بركبتي النازفة أو بالنداءات التي تتردد من خلفي. توارى ألم الجرح والعقاب المُتوقع بسبب عدم سماع الكلام، ولم يعد أكترث سوى بالبقاء في الشارع، ومواصلة اللعب إلى ما لا نهاية.

كانت النيران البعيدة يقترب، وأنا -كالمنوَّم مغناطيسيًا- أمضي في طريقي نحوها. البيوت ومداخل المحلات حولي تتباعد، وكأنها تفسح المجال لفتنة تلوح من بعيد كي تسود وتسيطر. بدا كل شيء متألقًا ومسحورًا بلمسة من قدر غامض، وكنتُ أمضي نحوه، حين أمسكت بي تلك اليد؛ يدٌ قوية لصاحب أحد الدكاكين في الشارع، والذي رأني وسمع نداءات جدتي، وقرر التدخل.

لم أرى صاحب اليد، وإن شعرتُ بذراعيه وهي تلتف حولي، وترفعني، كدمية، عن الأرض، وتعيدني إلى وعيي. وما أن انتبهت لما يحدث حتى بدأتُ في الترفيس والتشليت محاولاً تخليص نفسي من القبضة دون جدوى. وألقت بي تلك اليد الغريبة، إلى أخرى أعرفها جيدًا، هي يد جدتي. ثمة عصا انهالت عليَّ كي تعيد تأديبي، وثمة باب سمعته يُصفق بعنف.

فكرتُ فيما عساه استدعى كل هذا من غيبه؛ ربما لقاء الصدفة، أو منظر الجامعين بشموخهما ووطأة صورتهما على العين والروح. ونظرتُ إلى الصديقة التي تجلس بجواري على سور الحديقة الصغيرة بمنتصف الميدان. أحسستُ بحياد نظرتها إليَّ، ولم تكن تمتْ بأدنى صلة إلى النظرة المولَّهة القديمة.


التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads