موكب الوداع
هذا الرّحيق فأين كأس الشّاعر؟ | قد أوحش الأحباب ليل السّامر ؟ |
لم يا حياة و قد أحلّك قلبه | لم تؤثريه هوى المحبّ الشّاكر ! |
أخليت منه يديك حين حلاهما | من ذلك الأدب الرّفيه الباهر |
لو عاش زادك من غرائب فنّه | ما لا يشبّه حسنه بنظائر |
و ظفرت من تمثيله و غنائه | بأدقّ مثّال و أرخم طائر |
أمل محا المقدار طيف خياله | و تخطّفته يد الزّمان الجائر |
و اصار فرحتنا بمقبل يومه | مأساة ميت في الشّباب الباكر |
متوسّدا شوك الطّريق ، ملثّما | بجراحه مثل الشّهيد الطّاهر |
ردّوا المراثي يا رفاق شبابه | لن تطفئوا بالدمع لوعة ذاكر |
هذا فتى نظم الشّباب و صاغه | و حيا تحد{ من أرقّ مشاعر |
جعل الثّلاثين القصار مدى له | و الخلد غاية عمره المتقاصر |
غنّوه بالشّعر الذي صدحت به | أشواقه لحن الحبيب الزّائر |
غنوه بالشّعر الذي خفقت به | أنفاسه لحن الحبيب الهاجر |
تلك القوافي الشّاردات حشاشة | ذابت على وتر المغنّي السّاحر |
فتسمّعوا أصداءها في موكب | للموت محتشد الفواجع زاخر |
مشت الطّبيعة فيه بين جداول | خرس و أدواح هناك حواسر |
و لو استطاعت نضّدت أوراقها | كفنا له و النّعش غضّ ازاهر |
و دعت سواجع طيرها فتألّقت | أمما تخفّ إلى وداع الشّاعر |
يا ابن الخيال تساءلت عنك الذّرى | و الشّهب بين خوافق و زواهر |
و شواطئ محجوبة شارفتها | فوق العواصف و الخضمّ الهادر |
أيرى جناحك في السّماء كعهده | متوحشا فلق الصّباح السّاغر |
أيرى شراعك في العباب كعهده | متقلّدا حلق السّحاب الماطر |
هدأ الصّراع و كفّ عن غمراته | من عاش في الدّنيا بروح مغمامر |
و طوى البلى إلاّ قصيدة شاعر | أبقى من المثل الشّرود السّائر |
شعر تمثّل كلّ حسّ مرهف | لا رصف ألفاظ و رصّ خواطر |
و دمى مفضّحة الطّلاء كأنّها | خشب المسارح موّهت بستائر |
من صنع نظّامين خهد خيالهم | مسح الزّجاج من الغبار الثائر |
متخلفين عن الزّمان كأنّهم | أشباح كهف أو ظلال مساحر |
يا قوم إنّ الشّعر روحانية | و ذكاء قلب في توقّد خاطر |
نظر الضّرير به فأدرك فوق ما | لمست يد الآيس و عين النّاظر |
متعرّفا صور الخلائق سابرا | أعماق أرواح و غور سرائر |
هذي عروس الزّنج ليلته التي | أومت بكفّ حلّيت بأساور |
و النّجم أشواق ، فمهجة عاشق | و ذراع معتنق و وجنة عاصر |
ألشّعر موسيقى الحياة موقّعا | متدفقّامن كلّ عرق فائر |
عشاق بابل لو سقوا برحيقه | لم يذكروها بالرّحيق السّاكر |
و تنصّتت أقداحهم لمغرد | مرح يصفّق بالبيان السّاحر |
أو كان كلّم برجها بلسانه | و القوم شتّى ألسن و حناجر |
لم نشك من عوج اللّسان و وحّدت | لهجات هذا العالم المتنافر ! |