الرئيسية » , , , , , , , , , » ترجمة جديدة تتناسى تعريب أدونيس له . إيف بونفوا شاعر "الحضور"... ضد اللغة ومعها | عبده وازن

ترجمة جديدة تتناسى تعريب أدونيس له . إيف بونفوا شاعر "الحضور"... ضد اللغة ومعها | عبده وازن

Written By هشام الصباحي on الأربعاء، 23 سبتمبر 2015 | سبتمبر 23, 2015

عرف القرّاء العرب الشاعر الفرنسي إيف بونفوا منذ الستينات عندما راح الشاعر أدونيس يترجم له قصائد وينشرها في مجلة "شعر". وفي العام 1986 أنجز أدونيس ترجمة "الأعمال الشعرية الأولى" لهذا الشاعر الكبير وأصدرتها وزارة الثقافة السورية في كتاب واحد، يشبه الكتاب الذي ضمّ هذه الأعمال بالفرنسية وكان صدر عن دار غاليمار. وكان منتظراً أن تحدث هذه الترجمة سجالاً كمثل الذي أحدثته أعمال الشاعر الفرنسي سان جون بيرس التي ترجمها أدونيس قبلاً. لكن ترجمة بونفوا كادت تمرّ بلا ضوضاء تذكر على خلاف ترجمة بيرس التي قرئت كثيراً وكان لها أثرها في شعراء كثيرين ومن أجيال مختلفة. والمستغرب أن إيف بونفوا انتشر عربياً أكثر من بيرس بعدما توالى على ترجمته شعراء عرب في مدن عدة وفي المغترب الفرنسي: أحمد عبدالمعطي حجازي، بول شاوول، محمد لطفي اليوسفي، عيسى مخلوف، حسونة المصباحي، خالد النجار وسواهم من الشعراء الذين يجيدون الفرنسية. إلا أن هؤلاء لم يترجموا دواوين كاملة له، بل اكتفوا بما اختاروا من شعره ضمن"أنطولوجيات"صدرت تباعاً، وبعضهم اكتفى بنشر الترجمات في الصحف. لكن انتشار هذه الترجمات لم يكن له أثر بيّن في النتاج الشعري الجديد على خلاف الأثر الذي تركه مثلاً الشاعر اليوناني ريتسوس.

لعل استعادة إيف بونفوا، هذا الشاعر الثمانيني مواليد 1923 المرشح الدائم لجائزة نوبل، تفرضها"الأنطولوجيا"الصادرة حديثاً له بالعربية بعنوان"الصوت والحجر"دار الجمل، 2008 وقد أنجزها الشاعر التونسي محمد بن صالح ووضع لها مقدمة ضمّنها حواراً أجراه مع الشاعر. أما القصائد التي ترجمها فهي منتخبة من معظم دواوين أيف بونفوا القديمة والجديدة، وهذا ما يميز عمله، مع أنه لم يترجم أي ديوان كاملاً مثلما فعل أدونيس.

المأخذ الذي قد يأخذه للتو قارئ هذه الترجمة هو تجاهل المترجم التونسي الكلي لترجمة أدونيس. ترى هل يجهل هذه الترجمة النافدة طبعاً أم انه تجاهلها قصداً ليبدو وكأنه يبدأ من"فراغ"متكئاً على صنيعه الشخصي؟ وإن كان من الصعب تخطي ترجمة أدونيس الإبداعية و"الأدونيسية"جداً، وجهلها أو تجاهلها، فالشاعر التونسي لم يبدُ متأثراً بها البتة، ما يؤكد عدم عودته إليها كعمل سابق وسبّاق. بل إن"منهجه"في الترجمة يختلف عن منهج أدونيس، وكذلك لغته وتراكيبه والصيغ التي اعتمدها. ترجمة أدونيس هي أولاً وأخيراً ترجمة شاعر كبير لا يمكنه إلا أن يترك بصماته على القصائد المترجمة. أما ترجمة محمد بن صالح فهي ترجمة شعرية مشوبة بالوعي الحرفيّ لفعل الترجمة. والاختلاف لم يطاول القصائد فقط، بل شمل العناوين أيضاً. سمى أدونيس الديوان الثاني"دوف حركة وثباتاً"وسمّاه بن صالح"في حركة دوف وفي ثباتها". الديوان الثالث سمّاه أدونيس"سائدة أمس الصحراء"فيما سمّاه بن صالح"أمس السائد القفر"وهكذا دواليك... وما تجدر الإشارة اليه هنا أن الاثنين تغاضيا عن الاختلاف بين"أمس و"الأمس"مستخدمين الكلمة الأولى علماً بأن الشاعر الفرنسي يقصد"الأمس"تعبيراً عن الماضي فيما تعني"أمس"في صيغتها النكرة البارحة أو اليوم الذي مضى.

الترجمتان مهمتان وجميلتان على رغم الاختلاف بينهما، وقد تتطلب المقارنة بين"التجربتين"كثيراً من الدقة ومقاربة أكاديمية مع العودة الى النص الأصل. وهذا ما يجب أن تقوم به المجلات المتخصصة. إلا أن قراءة الترجمتين معاً وعبر ما يسمى المقابلة تتيح للقارئ - ولو كان غير متخصص - التثبت من الاختلاف البيّن بينهما. وتبدو ترجمة بن صالح من القوّة والأمانة حتى ليمكنها أن تنافس ترجمة أدونيس صاحب"الملكة"الشعرية الكبيرة. وقد عمد بن صالح الذي يجيد الفرنسية جيداً أن يفصحن ترجمته معتمداً بعض الصيغ و"المحسنات"وغير مبالٍ في أحيان بالإيقاع الداخلي و?"الحروفي"أو"اللفظي"الذي تتسم به قصائد بونفوا النثرية والحرة في المفهوم الغربي. يسعى مثلاً في الكثير من الأسطر الشعرية الى تقديم الفاعل على الفعل، والخبر على المبتدأ أو على اسم كان، والتوكيد على المؤكد وهذا خطأ وسواها من الأشكال اللغوية أو"الألعاب"اللغوية التي لا يؤثرها بونفوا أصلاً. والشواهد في هذا القبيل كثيرة:"هادئة كانت تمطر في الغرف"،"حذو القلب، ما زلت يا صورتنا، لنفس الروح حاملة، لنفس الضياء..."،"أبداً نفس الصراخ"،"بارداً كان وجهه"... ولم تسلم الترجمة من أخطاء، صرفاً ونحواً، على رغم قوتها ومتانتها. وكان يلزم أن تمرّ على قلم متضلّع من القواعد العربية. فالممنوع من الصرف يصرف في أحيان والفعل المجزوم لا يجزم والصفة لا تتبع الموصوف، ناهيك عن أخطاء التحريك وليته لم يعمد إليه. إلا أن هذه"المآخذ"الصغيرة لم تسئ الى الترجمة كنص كلّي، وقد يتغاضى القارئ عنها لا سيما عندما يشتد الغموض وهو سمة رئيسة في شعر بونفوا، هذا الشعر الذي يكتم أكثر مما يفصح على رغم البساطة الظاهرة التي يتحلّى بها.

أما ترجمة أدونيس فهي أشدّ ذاتية في معنى أنها تخون النص الأصلي لتبني نصاً ثانياً جميلاً ودافقاً يجرف ما يعترضه ويحول دون اندفاقه لغوياً وإيقاعياً. وقد يختلف القارئ الذي يعرف بونفوا بالفرنسية مع أدونيس حول بعض المفردات أو التراكيب والصيغ لكنه لا يستطيع إلا أن يعجب بقدرته على تأليف النص مرة ثانية بالعربية. في هذا المعنى يحقق أدونيس رغبة إيف بونفوا الذي يعتبر الترجمة"إعادة خوض للتجربة عوضاً عن التزام النص في حرفيته". والصعوبة في ترجمة الشعر تكمن برأيه في"أن يكون الشاعر في آنٍ واحد نفسه وآخر". يُعرب بونفوا عن مثل هذه الآراء انطلاقاً من تجربته الطويلة في حقل الترجمة وفي الاحتكاك بالقصائد والنصوص"الأخرى". فهو ترجم شكسبير وجون دون وييتس وقصائد هايكو وسواها وكان مبدعاً حقيقياً في ما ترجم، أميناً ولكن على قدر من الذاتية. وقد سمحت له تجربته العميقة، لغوياً وشعرياً، أن يترك أثراً بيّناً في ما ترجم من قصائد ونصوص. أدونيس كعادته"أدْنَسَ"إيف بونفوا ومنحه بالعربية هالة. إلا أن ترجمته بات يشوبها شيء من"الفوات"وتحتاج منه أن يُعمل قلمه فيها مرة جديدة، معدّلاً أو مهذباً، لا سيما إن شاء أن يعيد طبع هذه الأعمال، وهذا ما ينبغي أن يقوم به، كي تقرأ هذه الترجمة عربياً وتترك الأثر الذي لم تتركه الطبعة الأولى النافدة.

هنا لا بد من إدراج ملاحظة شخصية - وشخصية جداً - مفادها أن قارئاً مثلي متبحراً في شعر بونفوا بالفرنسية لا يلمس في الترجمة العربية المتعة التي يثيرها النص الأصل. بل يمكن القول إن الترجمة تفقد النص الأصل الكثير من بريقه وسحره الخفيّ مهما كانت إبداعية. هذا انطباع حقيقي طالما جعل قارئاً مثلي أمام حيرة شديدة: أي شاعر يقرأ هنا؟ أين توارى سر هذا الشعر ونصه"الغائب"أو نصه الخفي؟ أعترف أنني لم أستطع أن أقرأ بونفوا بالعربية على رغم إعجابي بالترجمتين المختلفتين في مقارباتهما واقتراحاتهما. كأن شاعر"الحضور"يستعصي على الترجمة وكأن شعره القائم على التكثيف اللغوي الذي يجعل اللغة أشد"حضوراً"عصيّ على الانتقال الى لغة أخرى. وإن كان بونفوا ينتمي الى مدرسة شعراء"المدلول"أو"الفحوى"SIGNIFIE مثله مثل رينه شار وبيار جان جوف وفيليب جاكوتيه وسواهم ويكره"الألعاب"اللغوية أو"الخدع"و"الأوهام"كما يعبر، فهو، عندما يكتب، لا يتوانى عن خوض معركة مع اللغة وضدها. هذه المعركة المزدوجة هي التي تمنح شعره سمته البديعة. شعر ضد اللغة ومعها في آن واحد. شعر يفصح ويضمر، يطرح سؤال الكينونة ويُغرب في الوضوح الإشكاليّ والبساطة الإشكالية.

عرف إيف بونفوا السوريالية عن كثب ورافق بعض شعرائها وكتب قصائده الأولى في ضوئها مقالة العازف، 1946 لكنه سرعان ما انفصل عنها رافضاً معطياتها. وفي رأيه أن السوريالية لم تؤمن بالأشكال البسيطة للحياة وفضّلت"سعة المخيلة على قيود الوضوح، عجلة الطاووس على حجر العتبة". وكان يأخذ على الصورة في مفهومها السوريالي"انطلاقها من الفراغ"وتناقضها مع"الحضور".

أما"الحضور"في نظره فهو"التجربة الفورية، الصافية والمتوحدة للعالم، كمثل تلك التي يعيشها الطفل الذي لم تفسده اللغة". وقد واجه الشاعر ما يسميه"المعنى المجرّد"و"التجريد"اللذين يفصلان الكائن عن الحقيقة والمحسوس. والكلمات واللغة التي تستخدم، بحسب رأيه،"المعنى المجرّد"وتكسر"الوحدة"في رؤية الكائن للعالم، تخون ما ينبغي لها أن تعبّر عنه. تصبح الكلمات في هذا القبيل"سرابات"و"أكاذيب". وفي نظره أيضاً أن"العلاقات بين الأصوات والإيقاعات تقرّب بين الكلمات في طريقة تحافظ على صفتها المادية". إلا أن التباس تجربة بونفوا يكمن في كونها قائمة على اللغة أو الكلمات. إنها المعركة مع اللغة وضدها. ويصف الكتابة الشعرية بكونها"إعادة العالم الى صورة حضوره"، والقصيدة بكونها"هنا والآن".

في الخامسة والثمانين، لم تنل منه الشيخوخة ولم يسأم الكتاب والكتابة لحظة. هذا الشــــاعر المثقف الذي كتب في حقول عدة كالفن والميثولوجيا والنقد الأدبي والفلــــسفة وعرف كيف يوظف معارفه الواســـعة في صميم الصنيع الشعري، أصدر حديثاً ديواناً جديداً بعنوان"سلسلة المرساة الطويلة"وفيه يواصل هذه التجربة الفريدة، شـــعراً ونثراً. وهو الديوان العشرون خلال أكثر من أربعين عاماً في احتراف الكتابة. أما دراســــاته وأبحاثه الصادرة في كتب فهي تتجاوز الأربعين وكان أحدثها كتاب"الشعر بصوت عالٍ"الذي صدر العام الماضي.

ترجمتان لقصيدة واحدة

مكان السّمندل

يجمدُ السّمندل المفاجأ

ويتصنّعُ الموت.

تلك هي الخطوة الأولى من الوعي في الحجر،

الأسطورةُ الأكثر نقاءً

نارٌ عظيمةٌ مختَرقَةٌ هي فكرٌ.

كان السّمندل في منتصف علوّ

الجدار، في ضوء نوافذنا.

لم تكن نظرته إلاّ حجراً

لكن كنتُ أرى قلبه يخفق أبديّاً.

آه يا شريكي وفكرتي، رمزاً.

لكلّ ما هو نقيّ،

كم أحبّ من يأسرُ هكذا في صمته

قوّة الفرح الوحيدة.

كم أحبّ من يَتطابَقُ مع الكواكب

بالكتلة الهامدة من جسمه كلّه،

كم أحبّ من ينتظر ساعةَ انتصاره

ويَحبسُ نَفَسَهُ ويَتَشبّثُ بالأرض.

ترجمة أدونيس

مُقام السّمندل

مأخوذاً يتثبَّتُ السّمندلُ

ويفتعلُ الموت. تلك هي

أُولى خطوات الوعي في الحجرِ،

الأسطورةُ الأكثرَ قِدماً،

العقلُ، نارٌ عظيمة مُخترَقة.

كان السّمندلُ عند منتصف الجدار،

في وضح نوافدنا.

بارداً كان وجههُ، لكنّني

كنتُ أرى قلبَه ينبضُ دون انقطاع.

فيا مُحرّضتي ويا غايتي،

يا اســـتعارةَ كلّ مـــا هو مُجرّد، كم أحبُّ

لذلك من يَضمّ في صمتِه

قوّة الفرح الوحيدة.

كَم أُحبّ الذي

بكلّ رُكام جسمه يُجاري النّجوم،

كم أُحبّ الذي

ينتظرُ ساعة النّصر، ويحبس أنفاسُه، ويتعلّق بالأرض.

ترجمة محمد بن صالح



التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads