الرئيسية » » قطار في غرفة إنعاش | فخري رطروط

قطار في غرفة إنعاش | فخري رطروط

Written By Lyly on الخميس، 1 يناير 2015 | يناير 01, 2015

"وحيدٌ في البراري وفي الَّليل
كعزلةِ أعمدةِ التلغرافِ الوحيدةِ في الطرقاتِ المهجورةِ".
- سنغور-

كَفُّ السَّماءِ تَعُجُّ بِالقِطاراتِ الفارِغَةِ وبالسِّكَكِ
كُفَّ عن تَأَمُّلِ المَحَطَّاتِ البائِسَةِ
ارْفَعْ عينيكَ
في الأعالي: صفيرٌ، يَدُ قُبطانٍ تُلَوِّحُ لَكَ
عيناكَ الهَرِمتانِ استَنفدَتا القُبحَ الأرضيَّ
مَلأهُما الرَّملُ، هَجَرَتا أقالِيمَ النَّومِ، ذابت أهدابَهُمَا
هُما الآن مُهَيَّأَتانِ لاستكشافِ سراديبِ السَّماءِ وقطاراتها المُتهوِّرَةِ
ما لهذهِ السَّماءِ تَعوي وتَتَمايلُ كَمقطورةٍ أخيرةٍ خلفَ قطارٍ مصاب بالزهايمر.


المَحَطَّاتُ ليست آخِرَ ما يَحلمُ به قِطَارٌ
بعضُ القِطاراتِ تحلمُ بالسَّيرِ على سِكَّةِ الغُيومِ
بعضُ القِطاراتِ لا تُصدِّقُ صَفيرَهَا وَدُخانَها الأسودَ وَرَبَّانَها المُتعبَ
تُصدِّقُ اتِّساعَ السُّهوبِ
بعضُ القطاراتِ تُفكِّرُ بالانتحارِ في غابةِ ثلجٍ
بعضُ القطاراتِ ترمي الخارطةَ من النَّافذةِ، وتصيرُ هي الخارطة
بعضُ القطاراتِ بعدَ أن تأكُلَ فَحمهَا الأسودَ، تأْكُلُ نَفسَها
أما رأيتَ قِطاراً انكمشت مَقْطُوراتُهُ على نَفسها
ولم يكن هناك خطأً في السِّكَّةِ ولم يكن الرُّبَّانُ مخموراً؟
بعضُ القطاراتِ تَطِيرُ
بعضُ القطاراتِ تَغُوصُ في التُّرابِ
كلُّ القِطاراتِ المُسافِرَةِ إلى مَحَطَّاتٍ أرضيَّةٍ تَصِلُ مُتَأَخِّرَةً.


بَين السِّخامِ والصَّفيرِ
لاحَ لِبعضِ القطاراتِ محطًّاتٌ ساحرةٌ
وصادفَ أن صدًّقها الرُّبانُ
واحتسى في الطريقِ خمرَ المسافاتِ.
يحدثُ كثيراً أن يصلَ الرّبُانُ قبل القطارِ
يحدثُ كثيراً أن يصلَ القطارُ بلا رُبَّانٍ
يحدث كثيراً أن يكونَ للرُّبانِ محطَّةٌ غير محطةِ القطارِ
يحدثُ كثيراً أن تظلَّ القطاراتُ مُكَدَّسَةً بالمسافرينَ في مكانها، يَخنُقُها الصَّفيرُ
يحدُثُ كثيراً أن يَخرُجَ قطارٌ على سِكًّتِهِ
يَكْسِرُ نافذتي، يدخلُ مرتجفاً إلى فراشي
يأكلُ فحمَ قَلبي.


بعضُ القطاراتِ تنامُ وتحلمُ أنُّها طيورُ رخٍّ تطيرُ
بعضُ القطاراتِ تبيضُ في القممِ العاليةِ
بعضُ القطاراتِ تموءُ كقططِ الًّليلِ المُتَشرِّدةِ
بعضُ القطاراتِ أَسمالُها الباليَة تقودُها لِمَحَطًّاتٍ باذخةٍ
القطاراتُ أيضًا تنقرضُ
تعالوا وشاهدوا القطاراتِ في الأقفاصِ في حدائقي السٍّرٍّيَّةِ
تعالوا وشاهِدوا قطاراً يدوسُ الملائكةَ في طريقِهِ
تعالوا وشاهِدوا قطاراً يُسافِرُ في أنفاقِ النًّملِ
تعالوا وشاهِدوا قطاراً ظَنَّ نَفْسَهُ مَحَطَّةً ويتساءَلُ حائراً: لِمَ لا يعلو صَفيري؟
تعالوا وشاهِدوا أسوأ ما اخترعته البشرُ:
قطاراً ذاهباً للحربِ مُكدًّساً بجنودٍ سُكارَى
قطاراً يهرمُ على السككِ ويموتُ في متحفٍ.


أسوأ فكرةٍ راودتِ الإنسانَ أن يحرقَ أشجارَ الغاباتِ 
ليُسَيّرَ قطاراً يُحِبُّ أن تنساهُ المَحطاتُ في عتمةِ الغاباتِ
صفيرُكَ أيُّها القِطارُ العابرُ السُّهوبَ كم أبكى الغاباتِ وَأَخَافَها
الفحمُ يَحِنُّ للغاباتِ
الغاباتُ تَحِنُّ للفحمِ الذي أجبروهُ على العواءِ والصَّفيرِ والاحتراقِ.


همستْ لي شجرةٌ مَرَّةً:
أنا لا أخافُ
آهٍ لو أنتهي في موقدِ قطارٍ متهورٍ في السُّهوبِ النُّائِيَةِ


أنا همستُ لها:
آهٍ لو أَمُوتُ كشجرةٍ هَرِمَةٍ في غابةٍ
لم يصمّها عواءُ البشرِ المُكدَّسينَ في القِطَاراتِ المْذعُورَةِ.


أنا أيضاً: قِطارٌ- رُبًّانٌ- سِكَّةٌ- عواءٌ- دُخانٌ- صفيرٌ- فحمٌ يحترقُ
لكنّنِي لم أكن يوماً محطًّةً، لم أٌشاهد محطَّةً في حياتي
- تكذبُ:
أنتَ محطَّةٌ ظنَّت نَفْسَها قطاراً
- أنت محطَّةٌ مريضةٌ بسرطانِ الثَّدي تُرضِعُ القطاراتِ حليبَ الفحم الكاذِبِ
أنتَ محطَّةٌ أُعِدَّت على عَجَلٍ لقطاراتٍ هرمةٍ لا تجدُ لها مكاناً تموتُ فيهِ
لن يسمعَ فيكَ صفيرٌ
ستموتُ فيكَ كلُّ قطاراتِ الأرضِ الهرمةِ.


لِمَ تهرعُ سياراتُ الإسعافِ؟
قطاران عاشقانِ انتحرا على سِكَّةٍ
هذا كلُّ ما في الأمرِ.


أنا الأعمى
كلَ ليلةٍ
أصعدُ أبراجَ المحطّةِ لأشاهدَ قطاراً مُصاباً بالرَّمَدِ
يَمُرُّ في السَّاعةِ الخامسةِ والعشرينَ.


الصَّفيرُ طريقٌ آخرٌ
الصَّفيرُ عيونٌ حالمةٌ
الصَّفيرُ رُبَّانٌ يعرفُ أنَّ خلفَ المَحطّةِ بائعُ تذاكر للجحيمِ.


المقطوراتُ تبحثُ عن القطارِ لكنَّ القطارَ لم يأبه يوماً لها
الرُّبَّانُ لن يَستديرَ بِبَصَرِهِ للخَلفِ
وَيشاهدُ المقطوراتِ اللاهثةَ.


السَّماءُ محطَّةٌ أُخرى
القطارُ يَنْتَظِرُنا
مُتَأَخِّرينَ دوماً
أضعنا مكانَ بيعِ التَّذاكرِ
سبعُ سماواتٍ
سبعُ محطاتٍ
سبعُ قطاراتٍ
نادوا على الرُّبَّانِ الأوحدِ كيفَ سيقودُ القطاراتِ دفعةً واحدةً؟


على من تنادي القطاراتُ المُبحِرَةُ
أَصِخِ السَّمعَ
إنَّها تبكي فقط لِروعةِ المشهدِ
مِن نوافذَ خاطفةٍ.


صَفيرُ القطاراتِ أنينٌ وخوفٌ من مَحَطَّاتٍ مَجْهُولةٍ
مع  أنَّني
دائمًا أرى قطارًا يفترسُ محطَّة.


للمحطاتِ دُوارٌ
كلُّ المسافرينَ أخرجوا رؤوسَهُم من النَّوافِذِ
تقيَّأوا فحماً أسودَ.


شاعرةٌ برتغاليةٌ
خرجت ليلاً
لتُضاجِعَ قطاراً
أنا أيضاً
تبدو لي السِّكَّةُ كفخذينِ في الهواءِ
لا يوجدُ قطارٌ يَخلو من صَفيرِ الجنسِ ونوافِذ الرَّغبةِ
مَن مِنكم لم يَتَحَسَّس عُضْوَهُ ورقبَتَهُ عندَ مُرورِ قطارٍ.


أهدُوني قطاراً صغيراً
ربطتُهُ في الحظيرةِ- على سطحِ البيتِ-
ارتفعَ صفيرُهُ
صرتُ أُحْضِرُ لهُ سهولاً وغاباتٍ لِيَلْتَهِمُهَمَا
في المساءاتِ الرَّماديَّةِ أحياناً
أقودُهُ لِيَتَنَزَّهَ في الأَزِقَّةِ الضيقَةِ
يَعوي عواءً خافتاً على الكلابِ المربُوطةِ
لم يعد القطارُ الصَّغيرُ يَلتهِمُ سُهوباً ولا جُسُوراً
صارَ يلتهمُ لحمي ويَعوي
وأنا ألتهمُ السُّهوبَ وأُصَفِّرُ.


* شاعر فلسطيني أردني مقيم في نيكاراغوا 



التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads