الرئيسية » » امش حتى أعرفك | ناهد نصر

امش حتى أعرفك | ناهد نصر

Written By Lyly on الخميس، 1 يناير 2015 | يناير 01, 2015

يستيقظ المطار فى الصباح الباكر، يتمطى قليلاً وينتظر.. تقتحمه سيقان المضيفات البيضاء والسمراء والقمحية.. رشيقة، ملساء، وتطرق الأرض بوقع محبب، وسريع... "طكطكطكطكطك".. وعلى العينين ابتسامة فاضت مما كانت توزعه على الركاب.. وتعب كثير.
يواصل الاستيقاظ والدهشة من أقدام الصغار التى لا يستطيع أبداً تحديد وتيرتها... قلقة، هائمة، سريعة، وأحياناً ملولة.. هكذا يتعرف المطار على الأطفال.. ولسعة البرد الصباحى تثير فى أوصاله رعدة خفيفة.
المطار لا يعرف اللغة.. لكنه يفهم الناس من وقع أقدامهم.. يعرفهم واحداً واحداً.. "امشِ حتى أعرفك" هكذا يقول المطار..
يقولها للفتى الأسمر النحيل الذى ينتظر طائرة أخرى بعد أن ألقت به تلك.. الشاب الأسمر النحيل يجرجر حذاءه الذى بلا صوت.. أمامه لا تزال درزينة من التعب.. يفهم المطار فى ثوانٍ كيف صار هذا النعل مكتوماً هكذا من الترقب.. ويعرف المشاوير كلها التى خاضها الحذاء.. الشوارع الطينية والترابية، بلاطات السفارات اللامعة، الطوابير، السلالم، كلها مسجلة هنا فى أسفل الحذاء.. ويبتسم.. يتعاطف المطار مع الأحذية المكتومة.. التى بلا صوت وتجرجر فى الأرض.. يقول "الطريق لا يزال فى أوله".. ويقول "مسكين".
ينزعج المطار من المرأة التى بلا وقع أقدام.. تسير قصيراً يقول.. يفهمها.. يشم رائحة مواقد وطعام وخطابات.. "بلا خبرة" يقول.. يكشفها المطار من توهانها.. لا تعرف السير فى الأماكن الغريبة.. ويعرف المطار أن هذه الأقدام سرعان ما ستندس فى سيارة وتواصل التوقف عن المشى هناك خلف حائط.. المطار لا يحب البيوت.
صالاتى أنا هى الحقيقة، هنا يكون الناس أنفسهم.. بحب وقلق وتعب.. كل الأشياء هنا مهندمة ولامعة وغريبة.. مفاجئة.. هكذا يحاور المطار نفسه.
يتابع المطار بشبق المستيقظ تواً أقدام الفتاة التى تروح بين كابينة الهاتف، وكراسى الانتظار، والكشك الزجاجى لبيع الكتب.. يفكر المطار فى عقل هذه البنت.. يقول "فى عقلها حبيبها".. ويعرف المطار كيف تحلم الفتاة.. يعرفها من السرعة واللهاث.. يعرفها من دبدبة كعبها القصير.. يهيجه.. يا بنت.. يا صغيرة.. خسارة أنت فى البيوت والجدران.. خسارة أنت فى الوسائد الطرية والأغطية.. تزوجينى أنا يا بنت.. أنا المطار.
لا يكره المطار قدر هؤلاء الذين بلا لغة.. أقدامهم تخف فوق الأرض.. تريد أن تطير.. لا تريد أن تكلمه.. هل تظن هذه الأقدام البلهاء أنه رصيف، أو بلاط لامع يمرقون عليه ما بين نقطتين.. يتكدر المطار.. من قال إنه ودود.. لكنه يقدر المشية.. وهؤلاء الذين لا يحبون أقدامهم كذابون ولا يعرفون الحياة.

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads