الرئيسية » » كأن كل دمي اشتهاء | بدر شاكر السيّاب

كأن كل دمي اشتهاء | بدر شاكر السيّاب

Written By Lyly on الخميس، 25 ديسمبر 2014 | ديسمبر 25, 2014

رحل النهار
رحل النهار
ها إنه انطفأت ذبالته على أفق توهّج دون نار
وجلست تنتظرين عودة سندباد من السّفار
والبحر يصرخ من ورائك بالعواصف والرعود
هو لن يعود
أو ما علمت بأنه أسرته آلهة البحار
في قلعة سوداء في جزر من الدم والمحار
هو لن يعود
رحل النهار
فلترحلي هو لن يعود
الأفق غابات من السحب الثقيلة والرعود
الموت من أثمارهنّ وبعض أرمدة النهار
الموت من أمطارهنّ وبعض أرمدة النهار
الخوف من ألوانهنّ وبعض أرمدة النهار
رحل النهار
رحل النهار
وكأنّ معصمك اليسار
وكأنّ ساعدك اليسار وراء ساعته فنار
في شاطئ للموت يحلم بالسفين على انتظار
رحل النهار
هيهات أن يقف الزمان تمر حتى باللحود
خطى الزمان وبالحجار
رحل النهار ولن يعود
الأفق غابات من السحب الثقيلة والرعود
الموت من أثمارهنّ وبعض أرمدة النهار
الموت من أمطارهنّ وبعض أرمدة النهار
الخوف من ألوانهنّ وبعض أرمدة النهال
رحل النهار
رحل النهار
خصلات شعرك لم يصنها سندباد من الدمار
شربت أجاج الماء حتى شاب أشقرها وغار
ورسائل الحب الكثار
مبتلة بالماء منطمس بها ألق الوعود
وجلست تنتظرين هائمة الخواطر في دوار
سيعود لا غرق السفين من المحيط إلى القرار
سيعود لا حجزته صارخة العواصف في إسار
يا سندباد أما تعود؟
كاد الشباب يزول تنطفئ الزنابق في الخدود
فمتى تعود
أواه مدّ يديك بين القلب عالمه الجديد
بهما ويحطم عالم الدم والأظافر والسعار
بيني ولو لهنيهة دنياه
آه، متى تعود
أترى ستعرف ما سيعرف ما سيعرف كلما انطفأ النار
صمت الأصابع من بروق الغيب في ظلم الوجود؟
دعني لآخذ قبضتيك كماء ثلج في انهمار
من حيثما وجّهت طرفي ماء ثلج في انهمار
في راحتيّ يسيل في قلبي يصبّ إلى القرار
يا طالما بهما حلمت كزهرتين على غدير
تتفتحان على متاهة عزلتي
رحل النهار
والبحر متسع وخاوٍ لا غناء سوى الهدير
وما يبين سوى شراع رنحته العاصفات وما يطير
إلا فؤادك فوق سطح الماء يخفق في انتظار
رحل النهار
فلترحلي رحل النهار.


سفر أيوب (1)


لك الحمد مهما استطال البلاء
ومهما استبدّ الألم،
لك الحمد، إن الرزايا عطاء
وإن المصيبات بعض الكرم.
ألم تُعطني أنت هذا الظلام
وأعطيتني أنت هذا السّحر؟
فهل تشكر الأرض قَطْر المطر
وتغضب إن لم يجدها الغمام؟
شهور طوال وهذي الجراح
تمزّق جنبي مثل المدى
ولا يهدأ الداء عند الصباح
ولا يمسح اللّيل أوجاعه بالردى.
ولكنّ أيّوب إن صاح صاح:
"لك الحمد، إن الرزايا ندى،
وإنّ الجراح هدايا الحبيب
أضمّ إلى الصّدر باقاتها
هداياك في خافقي لا تغيب،
هداياك مقبولة. هاتها!"
أشدّ جراحي وأهتف
بالعائدين:
"ألا فانظروا واحسدوني،
فهذي هدايا حبيبي"
وإن مسّت النار حرّ الجبين
توهّمتُها قُبلة منك مجبولة من لهيب.
جميل هو السّهدُ أرعى سماك
بعينيّ حتى تغيب النجوم
ويلمس شبّاك داري سناك.
جميل هو الليل: أصداء بوم
وأبواق سيارة من بعيد
وآهاتُ مرضى، وأم تُعيد
أساطير آبائها للوليد.
وغابات ليل السُّهاد، الغيوم
تحجّبُ وجه السماء
وتجلوه تحت القمر.
وإن صاح أيوب كان النداء:
"لك الحمد يا رامياً بالقدر
ويا كاتباً، بعد ذاك، الشفاء!"


غريب على الخليج
الريح تلهث بالهجيرة كالجثام، على الأصيل
وعلى القلوع تظل تطوى أو تنشّر للرحيل
زحم الخليج بهنّ مكتدحون جوّابو بحار
من كل حاف نصف عاري
وعلى الرمال، على الخليج
جلس الغريب، يسرّح البصر المحيّر في الخليج
ويهدّ أعمدة الضياء بما يصعّد من نشيج
أعلى من العبّاب يهدر رغوه ومن الضجيج
صوت تفجّر في قرارة نفسي الثكلى: عراق
كالمدّ يصعد، كالسحابة، كالدموع إلى العيون
الريح تصرخ بي عراق
والموج يعول بي عراق، عراق، ليس سوى عراق ‍‍
البحر أوسع ما يكون وأنت أبعد ما يكون
والبحر دونك يا عراق
بالأمس حين مررت بالمقهى، سمعتك يا عراق
وكنت دورة أسطوانة
هي دورة الأفلاك في عمري، تكوّر لي زمانه
في لحظتين من الأمان، وإن تكن فقدت مكانه
هي وجه أمي في الظلام
وصوتها، يتزلقان مع الرؤى حتى أنام
وهي النخيل أخاف منه إذا ادلهمّ مع الغروب
فاكتظّ بالأشباح تخطف كلّ طفل لا يؤوب
من الدروب
وهي المفليّة العجوز وما توشوش عن حزام
وكيف شقّ القبر عنه أمام عفراء الجميلة
فاحتازها.. إلا جديلة
زهراء أنت.. أتذكرين
تنّورنا الوهّاج تزحمه أكف المصطلين؟
وحديث عمتي الخفيض عن الملوك الغابرين؟
ووراء باب كالقضاء
قد أوصدته على النساء
أيد تطاع بما تشاء، لأنها أيدي الرجال
كان الرجال يعربدون ويسمرون بلا كلال
أفتذكرين؟ أتذكرين؟
سعداء كنا قانعين
بذلك القصص الحزين لأنه قصص النساء
حشد من الحيوات والأزمان، كنا عنفوانه
كنا مداريه اللذين ينام بينهما كيانه
أفليس ذاك سوى هباء؟
حلم ودورة أسطوانة؟
إن كان هذا كلّ ما يبقى فأين هو العزاء؟
أحببت فيك عراق روحي أو حببتك أنت فيه
يا أنتما - مصباح روحي أنتما - وأتى المساء
والليل أطبق، فلتشعّا في دجاه فلا أتيه
لو جئت في البلد الغريب إلى ما كمل اللقاء
الملتقى بك والعراق على يديّ.. هو اللقاء
شوق يخضّ دمي إليه، كأن كل دمي اشتهاء
جوع إليه.. كجوع كلّ دم الغريق إلى الهواء
شوق الجنين إذا اشرأبّ من الظلام إلى الولادة
إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون
أيخون إنسان بلاده؟
إن خان معنى أن يكون، فكيف يمكن أن يكون؟
الشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلام
حتى الظلام - هناك أجمل، فهو يحتضن العراق
واحسرتاه، متى أنام
فأحسّ أن على الوسادة
من ليلك الصيفي طلاّ فيه عطرك يا عراق؟
بين القرى المتهيّبات خطاي والمدن الغريبة
غنيت تربتك الحبيبة
وحملتها فأنا المسيح يجرّ في المنفى صليبه،
فسمعت وقع خطى الجياع تسير، تدمي من عثار
فتذر في عيني، منك ومن مناسمها، غبار
ما زلت أضرب مترب القدمين أشعث، في الدروب
تحت الشموس الأجنبية
متخافق الأطمار، أبسط بالسؤال يداً نديّة
صفراء من ذلّ وحمى: ذلّ شحاذ غريب
بين العيون الأجنبية
بين احتقار، وانتهار، وازورار.. أو (خطيّة)
والموت أهون من خطية
من ذلك الإشفاق تعصره العيون الأجنبية
قطرات ماء.. معدنيّة
فلتنطقي، يا أنت، يا قطرات، يا دم، يا.. نقود
يا ريح، يا إبراً تخيط لي الشراع، متى أعود
إلى العراق؟ متى أعود؟
يا لمعة الأمواج رنّحهن مجداف يرود
بي الخليج، ويا كواكبه الكبيرة.. يا نقود
ليت السفائن لا تقاضي راكبيها من سفار
أو ليت أن الأرض كالأفق العريض، بلا بحار
ما زلت أحسب يا نقود، أعدكنّ وأستزيد،
ما زلت أنقص، يا نقود، بكنّ من مدد اغترابي
ما زلت أوقد بالتماعتكن نافذتي وبابي
في الضفّة الأخرى هناك. فحدثيني يا نقود
متى أعود، متى أعود؟
أتراه يأزف، قبل موتي، ذلك اليوم السعيد؟
سأفيق في ذاك الصباح، وفي السماء من السحاب
كسر، وفي النسمات برد مشبع بعطور آب
وأزيح بالثؤباء بقيا من نعاسي كالحجاب
من الحرير، يشفّ عما لا يبين وما يبين
عما نسيت وكدت لا أنسى، وشكّ في يقين
ويضيء لي - وأنا أمد يدي لألبس من ثيابي -
ما كنت أبحث عنه في عتمات نفسي من جواب
لم يملأ الفرح الخفي شعاب نفسي كالضباب؟
اليوم - واندفق السرور عليّ يفجأني - أعود
واحسرتاه.. فلن أعود إلى العراق
وهل يعود
من كان تعوزه النقود؟ وكيف تدّخر النقود
وأنت تأكل إذ تجوع؟ وأنت تنفق ما تجود
به الكرام، على الطعام؟
لتبكينّ على العراق
فما لديك سوى الدموع
وسوى انتظارك، دون جدوى، للرياح وللقلوع



المخبر
أنا ما تشاء أنا الحقير
صبّاغ أحذية الغزاة وبائع الدم والضمير
للظالمين أنا الغراب
يقتات من جثث الفراخ أنا الدمار أنا الخراب
شفة البغيّ أعفّ من قلبي وأجنحة الذباب
أنقى وأدفأ من يدي كما تشاء أنا الحقير
لكن لي من مقلتي إذا تتبعتا خطاك
وتقرتا قسمات وجهك وارتعاشك إبرتين
ستنسجان لك الشراك
وحواشي الكفن الملطخ بالدماء وجمرتين
تروعان رؤاك إن لم تحرقاك
وتحول دونهما ودونك بين كفيّ الجريدة
فتندّ آهتك المديدة
وتقول أصبح لا يراني بيد أن دمي يراك
إني أحسّك في الهواء وفي عيون القارئين
لم يقرأون لأن تونس تستفيق على النضال
ولأن ثوار الجزائر ينسجون من الرمال
ومن العواصف والسيول ومن لهاث الجائعين
كفن الطغاة؟ وما تزال قذائف المتطوعين
يصفرن في غسق القنال
لم يقرأون وينظرون إليّ حيناً بعد حين
كالشامتين؟
سيعلمون من الذي هو في ضلال
ولأيّنا صدأ القيود لأينا صدأ القيود
لأيّنا
نهض الحقير
وسأقتفيه فما يفرّ سأقتفيه إلى السعير
أنا ما تشاء أنا اللئيم أنا الغبيّ أنا الحقود
لكنّما أنا ما أريد أنا القويّ أنا القدير
أنا حامل الأغلال في نفسي أقيد من أشاء
بمثلهنّ من الحديد وأستبيح من الخدود
ومن الجباه أعزهن أنا المصير أنا القضاء
الحقد كالتنور في إذا تلهّب بالوقود
الحبر والقرطاس أطفأ في وجوه الأمّهات
تنورهنّ وأوقف الدم عن ثدي المرضعات
في البدء كان يطيف بي شبح يقال له الضمير
أنا منه مثل اللص يسمع وقع أقدام الخفير
شبح تنفّس ثمّ مات
واللص عاد هو الخفير
في البدء لم أكُ في الصراع سوى أجير
كالبائعات حليبهنّ كما تؤجّر للبكاء
ولندب موتى غير موتاهنّ في الهند النساء
قد أمعن الباكي على مضض فعاد هو البكاء
الخوف والدم والصغّار فأي شيء أرتجيه
فعلى يديّ دم وفي أذنيّ وهوهة الدماء
وبمقلتيّ دم وللدم في فمي طعم كريه
أثقل ضميرك بالآثام فلا يحاسبك الضمير
وانس الجريمة بالجريمة والضحية بالضحايا
لا تمسح الدم عن يديك فلا تراه وتستطير
لفرط رعبك أو لفرط أساك واحتضن الخطايا
بأشدّ ما وسع احتضان تنج من وخز الخطايا
قوتي وقوت بني لحم آدمي أو عظام
فليحقدن عليّ كالحمم الأنام
كي لا يكونوا إخوة لي آنذاك ولا أكون
وريث قابيل اللعين سيسألون
عن القتيل فلا أقول
أأنا الموكل ويلكم بأخي فإن المخبرين
بالآخرين موكّلون
سحقاً لهذا الكون أجمع وليحلّ به الدمار
مالي وما للناس لست أباً لكل الجائعين
وأريد أن أروى وأشيع من طوى كالآخرين
فلينزلوا بي ما استطاعوا من سباب واحتقار
لي حفنة القمح التي بيدي ودانية السنين
خمس وأكثر أو أقل هي الربيع من الحياة
فليحلموا هم بالغد الموهوم يبعث في الفلاة
روح النماء وبالبيادر وانتصار الكادحين
فليحملوا إن كانت الأحلام تشبع من يجوع
إني سأحيا رجاء ولا اشتياق ولا نزوع
لا شيء غير الرعب والقلق الممض على المصير
ساء المصير
ربّاه إن الموت أهون من ترقّبه المرير
ساء المصير
لم كنت أحقر ما يكون عليه إنسان حقير؟

لأني غريب
لأنّي غريب
لأنّ العراق الحبيب
بعيد، وأني هنا في اشتياق
إليه، إليها، أنادي: عراق
فيرجع لي من ندائي نحيب
تفجّر عنه الصدى
أحسّ بأني عبرت المدى
إلى عالم من ردى لا يجيب
ندائي
وإمّا هززت الغصون
فما يتساقط غير الردى
حجار
حجار وما من ثمار
وحتى العيون
حجار وحتى الهواء الرطيب
حجار يندّيه بعض الدم
حجار ندائي وصخر فمي
ورجلاي ريح تجوب القفار

الشاهدة
يا قارئاً كتابي
ابك على شبابي
شاهدة بين القبور تبكي
تستوقف العابر يا صحابي
غضّوا الخطى ولتصمتوا إن القرون تحكي
في جملة خطت على التراب
من نام في القبر ودود القبر
يسأل لا ينطق بالجواب
سيان عنده ائتلاق الفجر
وظلمة الليل بلا ثياب
بلا طعام لا هوى لا حقد
أفقر أهل الفقر
فيه وأغنى الأغنياء تعدو
في قبره الجرذان وهو غاف
نام من الديدان في لحاف
***
لي نومة مع التراب في غد
صباحها أول ليل الأبد
يمرّ بي الشيوخ والشبان
يثرثرون يدها فوق يدي
وعينها وينفث الدخان
ربّ فتى مورّد
يقرأ من شعري على الصحاب
يقرأ في كتابي
قصيدة خضراء عن جيكور
غافية تحت غصون النور
تحلم بالسحاب
مرّ على قبري فقال قبر
وأين من هذا الرميم الشعر
يدفق بالعواطف
كهبّة العواصف القواصف
مرّ على قبري فكاد الصّخر
يصرخ تحتي نام هذا الشاعر
صاحب هذه القوافي يسمع
ما قلتموه فالعيون تدمع
في عالم لا يرجع المسافر
منه ولا للنوم فيه آخر
رفقاً به دعوه في رقدته
تؤنسه الديوان في وحدته
كان له قلب وكان أمس
حتى إذا استنزف من مدته
توسّد الترابا
لا تقرأوا الكتابا
ثمّ تغيب الشمس.






العربي الجديد
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads