الرئيسية » » ماذا أفعل الآن ببيتٍ بلا شجرة | آية نبيه

ماذا أفعل الآن ببيتٍ بلا شجرة | آية نبيه

Written By Lyly on الثلاثاء، 30 ديسمبر 2014 | ديسمبر 30, 2014

استئصال

الشجرة التي كانت أمام بيتنا اقتلعوها بالأمس لإصلاحاتِ في الطريق، لم يتركوا سوى بقايا من جذوع وأوراق صفراء. واليوم أجرب الفزع الذي خلفه الفراغ.

ما الذي يمكن أن أتوقعه بعد أن يعاديني الفراغ وأنا أمضيت زمناً أربيه، حتى صرت أسمي "التخلّص من الأشياء" هواية. بعد أن تركت العمل وأخرجت من حجرتي كل الساعات، لاحظت أن الساعة الكبيرة تركت على الحائط مساحة إضافية تسمح للتحديق بها دون عقارب مزعجة. بدت كل الأحداث بعدها عادية باستثناء الوقت الذي لم يعد يبدو أصلاً. صرت أخرِج قطع الأثاث والأجهزة من الحجرة كأني أتدرب على الاستغناء؛ حتى صارت خاوية إلا من السرير والمكتب الخشبي القديم بعد أن هيأت أدراجه لتناسب الفراغ. الأدراج الثلاثة كنت فتحتها منذ أيام وأخرجت أقلاماً فارغة، كتب كنت أنوي قراءتها، علب كيتوفان لم تنصفني مع الصداع، خرامة أوراق قديمة، صورة باهتة مقصوصة بشكل عشوائي لحليم –تحديداً صورته بالقميص المنقط، شرائط ساتان لن تستخدم في شيء، برطمانات ألوان مائية فارغة، وأوراق للذكرى من أصدقاء يستيقظون ليلاً في الدرج فأضطر للسهر معهم، ثم أغلقت الأدراج على عصافير ورقية من الأوريجامي.

ألقيت أياماً في سلة المهملات لأجل الفراغ، وفكرت جدياً أن أحرقهم فأساهم بذلك في جعل العالم أخف. لكن يبدو أن الأشياء ترد لي اليوم ما فعلته بها وتلفظني.

منذ الصباح وأنا أحدق في فراغ الحجرة، أفكر أنه من الجيد أني لم أعد أقلق، لكني لا أعرف ماذا أفعل الآن ببيتٍ بلا شجرة وعصافير لن تزقزق أبداً وشباك مغلق من الفزع.


أغنية العصافير

ستقبض عشر أيادِ صغيرة على طرف فوهة حاوية وترفعها قليلاً عن الأرض. حاوية أضخم من الأجساد صاحبة الأيادي العشرة، ممتلئة بأسماك صغيرة ملونة، والماء بعد كل خطوة يرتعش عند حافتها ويتساقط بعضه. ستتعثر قدم في نتوء بالأرض لينقص عدد الأيادي التي على طرف الفوهة يدين قبل أن تنزلق من الباقين من أثر مفاجأة الحمل الزائد. ستغمر المياه أرض الحارة الضيقة وتنفرط الأسماك فتبدو لعين تنظر من السماء كطعام عصافير منثور تتحلق حوله الأجساد الضئيلة، تحاول بلا صبر إعادته لحاوية بائسة لم يتبق من مياهها سوى قطرات. واحد منهم سيغادر دون أن يقول شيئاً، واحد لمح ثقباً صغيراً على جدار الحاوية. 


خرس

الحياة أقل صخباً، وكنت اعتبرت هذا جيداً في البداية، لكنها بدأت تميل إلى برود غير محبب.

طاولة الطعام بحجم جزيرة، المكان الوحيد الذي يجمعنا. أخبرها بما قضيت ساعة أرتبه في جمل مُحكمة لا تمنحها طرف الخيط أو تثير رغبة السؤال عن تفاصيل. أختار أقل عدد من الكلمات، وأتعمد أن يحدث ذلك قبل انتهائي من الطعام بفترة لا تسمح للساني أن يفصح عن المزيد.

عدت من رحلتي الأخيرة، معي صمت عميق وشيء ما بيننا فقدتُه. أنا وحدي فقدته، ربما هي لم تدركه أبداً. الصمت ليس جديداً، ولا الرحلات. لكن التجربة هذه المرة جديرة بالحكي. على أي حال قررت الاحتفاظ بها لنفسي، لرغبة في نسيانها أو محوها، ما لن يتم لو استقرت في ذاكرة آخرين.

هكذا مر عام: نلتقي على الجزيرة، ثم نطفئ شمسها وتعود كل منا إلى خيمتها. أكتب الآن من قلب خيمتي بينما ألمحها تبتعد مثل قارب لا ألوح له. 


أنواع الغثيان

قبل أن أكون في مكتبي أمر على مكتب رئيس التحرير أقترح عليه كتابة موضوع عن الغثيان، عن الأشكال الجديدة منه التي جربتها مؤخراً، التي تفاجئني أثناء انتظاري لهبوط المصعد، وتملأ روحي أثناء الصعود داخله، غثيان لا يخلو من شبهة الغياب. يطفو بصراحة أمامي صباحاً على أفواج وجوه تنطلق إلى أماكن العمل بحركات أوتوماتيكية غير منتبهة لمقصدها وأنساه في عودتي. يقول أن الموضوع ليس مناسباً لمجلة إدارية ويقترح علي عناوين للكتابة: المحافظة على العلاقات بين زملاء العمل/ صفات الموظف المثالي/ كيفية التخلص من الضغوط اليومية. أفكر في الحلقات الكثيرة المفقودة والأخرى المتشابكة، الكلام الذي لم نقله بعد، والكلام الذي لم نقله. أخبره ببرود أنه لا يفهم شيئاً، يهز رأسه موافقاً ويواصل شرحه كأن ما قلته أمراً مفروغاً منه. لا أهتم وأواصل أنا أيضاً شرحي بنفس حماس البداية قبل أن ألحظ الأفيال الثلاثة الصغيرة على مكتبه، بخفة ترقص.


مضاعفات المحبة

إذا استندتُ إلى حائط الحجرة يوماً ما أنعي الوقت الذي مر، سأحتقر أفكاري، كلها في المطلق. ولستُ أحياناً سوى أفكاري. لذا دعني أيها العالم أغضب منك قليلاً لأنك بعيد. خطوتك البطيئة تؤجل نشوتي التي تبدأ على الطرق السريعة. الآن أقف على نفس المسافة منك. لكنك إن تبتعد خطوة سأبتعدُ اثنتين، وإذا ابتعدتَ اثنتين أقتلك بضمير مرتاح. أعددت ما يلزم لذلك. ورق سيلوفان ملون سألفك به يملأ ركناً خاصاً في الحجرة. الدماء لن أهتم بإزالتها. السكاكين أخبئها في مكان آمن، وأختبر حدتها من وقت لآخر كلما شعرت أني حزينة فقط وأنت في مكانك تتلذذ بمراقبة محبتي وهي تفسد. 


ارتجال على نغم لَيلِي

لماذا لا أصير
-يوم عُطلَتي على الأقل-
أكورديون،
يضغطاني كفا عازف مبتدىء،
بالألم والبهجة بالتساوي..
ويمدداني
بانسيابية
تجعل من حركتي ضرورة
لسلامة الإيقاع، 

يبدأ يومي هكذا ببداية البروفات
وينتهي بنهاية الحفل
حين يلتقي أولي بآخري
بحركة واحدة من كفيه..
لأستقر أخيراً
في أحد أركان حجرة الآلات الموسيقية
ممتلئة بالنغم
وملتئمة تماماً.


* شاعرة من مواليد القاهرة (1987) ويصدر لها قريباً "تمارين عامة لتطوير مهارات الأرق" 



التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads