الرئيسية » » التفاصيل | غياث المدهون

التفاصيل | غياث المدهون

Written By كتاب الشعر on الخميس، 4 ديسمبر 2014 | ديسمبر 04, 2014


أتعرف لما يموت الناس حين تثقبهم رصاصة،

لأن 70'من جسم الإنسان يتكون من الماء،

تماماً كما لو أنك تحدث ثقبا في خزان ماء.

أكانَ اشتباكاً اعتباطياً يرقصُ في رأس الحارةِ حين مررتُ؟
أم أن قناصاً كان يترصدُني ويعد خطواتي الأخيرة؟

هل كانت رصاصةً طائشةً؟
أم أنني الذي كنتُ طائشاً بالرغمِ من بلوغه ثلثَ قرنٍ من العمرِ؟

أهي نيرانٌ صديقةٌ؟
كيف؟...
وأنا لم أصادقْ نيراناً من قبل.

أترى أنا من مرَّ في طريق الرصاصة فأصابها؟
أم مرتْ هي في طريقي فأصابتني؟
ثم كيف لي أنْ أعرفَ مواعيد مرورها وأية طريقٍ ستجتاز؟

هل التقاطع مع رصاصةٍ يعتبر حادثَ اصطدامٍ بالمعنى التقليدي؟
كالذي يحدث بين سيارتين؟
وهل جسدي وعظامي الصلبة ستحطم ضلوعها أيضاً؟
وتتسبب في وفاتها؟
أم أنها ستنجو؟

هل حاولت أن تتفاداني؟
هل كان جسدي طرياً؟
وهل شعرتْ تلك الصغيرةُ مثل حبة توتٍ بأنوثتها في ذكورتي؟

القناصُ صوَّب نحوي دون أن يكلف نفسه عناء معرفة أنَّ لدي حساسيةً من رصاص القناصة، وهي حساسيةٌ من الدرجة الأولى، وقد تؤدي للوفاة.

القناص لم يستأذني قبل أن يطلق، وفي هذا قلة أدبٍ واضحةٌ أصبحت خطأً شائعاً في هذه الأيام.



كنتُ أبحثُ عن الفرق بين الثورة والحرب عندما عبرت رصاصةٌ جسدي، فانطفأت شعلةٌ أوقدتها معلمة مدرسةٍ ابتدائيةٍ من سوريا بالاشتراك مع لاجئ فلسطيني دفع أرضه حلاً لمعاداة السامية في أوروبا وهُجر إلى حيث التقى امرأةً تشبه الذكريات.

لقد كان شعوراً رائعاً، يشبه أكل قطعة مثلجات في الشتاء، أو ممارسة الجنس دون واقٍ مع امرأةٍ غريبة في مدينة غريبة تحت تأثير الكوكايين، أو...،

يقولُ لي عابرٌ نصفَ ما يرغبُ بقولهِ فأصدقهُ ثم نطعنُ بعضنا كعاشقين، تومئُ لي سيدةٌ أن أتبعها فأفعلُ وننجبُ طفلاً يشبهُ الخيانةَ، يقتلني قناصٌ فأموتُ، السماءُ تسقطُ على المارةِ فيهربُ السياحُ، السماءُ تسقطُ على المارةِ ولا يهربُ قلبي، السماءُ تسقطُ إلى الأعلى فينتحرُ شاعرٌ في غرفته انتحاراً جماعياً رغم أنه كان وحيداً ذلك المساء.

في ذلك المساء، داهمني النسيان على غفلةٍ فاشتريتُ ذاكرةَ جندي لم يعد من الحرب، وحين انتبهتُ إلى خللِ الوقتِ لم أستطع أن أجدِ منفىً يليقُ بجرحي لذلك قررتُ ألَّا أموتَ ثانيةً.

المدينةُ أقدمُ من الذكرياتِ، اللعنةُ مسورةٌ بالاكتئابِ، الوقتُ متأخرٌ عن مواعيدهِ، الأسوارُ تحيطُ الزمنَ بالرتابةِ، الموتُ يشبهُ وجهي، الشاعر يتكئُ على امرأةٍ في قصيدتهِ، الجنرالُ يتزوجُ زوجتي، المدينةُ تتقيأُ تاريخها وأنا أبتلعُ الشوارعَ ويبتلعُني الزحامُ، أنا الذي أوزعُ دَمِي على الغرباءِ، وأتقاسمُ زجاجة النبيذِ مع وحدتي، أرجوكم، أرسلوا جثتي بالبريد السريع، وزعوا أصابعي بالتساوي على أصدقائي.

هذهَ المدينةُ أكبرُ من قلبِ شاعرٍ وأصغرُ من قصيدتهِ، لكنها كافيةٌ لينتحرَ الموتى دون أن يزعجوا أحداً، ولتزهرَ إشاراتُ المرور في الضواحي، ليصبحَ الشرطيُّ جزءاً من الحلِّ والشوارع مجرد خلفيةٍ للحقيقة.

في ذلك المساء، حين تعثَّرَ قلبي، أمسكتني دمشقيةٌ وعلمتني أبجديةَ شهوتها، كنتُ ضائعاً بين الله الذي زرعَهُ الشيخُ في قلبي وبين الله الذي لمستهُ في فِراشها، ذلك المساء، أمي وحدَها من عرفتْ أنَّني لن أعودَ، أمي وحدها من عرفتْ،
أمي وحدها،
أمي.

لقد بعتُ أيامي البيضاء في السوق السوداء، واشتريتُ منزلاً يطلُّ على الحرب، لقد كانت الإطلالة رائعة لدرجة أنني لم أقاوم إغراءها، فانحرفت قصيدتي عن تعاليم الشيخ، واتهمني أصدقائي بالعزلة، وضعتُ كحلاً على عيني فازدادت عروبتي، وشربتُ حليب الناقة في الحلمِ فصحوتُ شاعراً، كنت أراقب الحرب كما يراقب المصابون بالجذام عيون الناس، ولقد توصلت إلى حقائقَ مرعبةٍ عن الشعر والرجل الأبيض، عن موسم الهجرة إلى أوروبا، وعن المدن التي تستقبل السياح في أيام السلم والمجاهدين في أيام الحرب، عن النساء اللواتي يعانين الأمرَّين في أيام السلم ويصبحن وقوداً للحرب في أيام الحرب.

في مدينة أعيد إعمارها مثل برلين، يكمن السرُّ الذي يعرفه الجميع، وهو أن الـ....،
لا، لن أكرر ما هو معروفٌ، لكنني سأخبركم بما لا تعرفون: ليست مشكلة الحرب في من يموتون، مشكلتها في من يبقون أحياءً بعدها.

لقد كانت أجمل حربٍ خضتها في حياتي، مليئةً بالمجازات والصور الشعرية، أتذكرُ كيف أنني كنتُ أتعرقُ أدريناليناً، وأبولُ دخاناً أسودَ، كيف كنتُ آكلُ لحمي وأشربُ صراخاً، كان الموتُ بجسده الهزيلِ يتكئُ على ما اقترفتْ قصيدتهُ من خرابٍ، ويمسحُ سكينهُ من مِلْحي، وكانت المدينةُ تفركُ حذائي بمسائِها فيبتسمُ الطريقُ، وتعدُّ أصابعَ حزني وتسقطُها في الطريق إليها، الموتُ يبكي والمدينةُ تتذكرُ ملامحَ قاتلها وترسلُ لي طعنةً عن طريق البريدِ، تهددُني بالفرحِ، وتنشرُ قلبي على حبلِ غسيلها الممدودِ بين ذاكرتين، وأنا يشدُني النسيانُ إليَّ، عميقاً إليَّ، عميقاً، فتسقطُ لغتي على الصباحِ، تسقطُ الشرفاتُ على الأغاني، المناديلُ على القُبُلاتِ، الشوارعُ الخلفيةُ على أجسادِ النساءِ، تفاصيلُ الأزقةِ على التاريخِ، تسقطُ المدينةُ على المقابرِ، الأحلامُ على السجونِ، الفقراءُ على الفرح، وأنا أسقطُ على الذكرى.

حين أصبحتُ عضواً في اتحاد القتلى، تحسنت أحلامي، وأصبحتُ أمارس التثاؤب بحرية، ورغم طبول الحرب التي تغني قرب جسدي المنتفخ إلا أنني وجدتُ متسعاً من الوقت كي أصادق كلباً مشرداً، اختارَ ألا يأكل من جثتي رغم جوعه، واكتفى بالنوم قرب قدمي.

حاول عدة أشخاصٍ انتشالي، إلا أن القناص ناقشهم ببندقيته فغيروا رأيهم، لقد كان قناصاً شريفاً، يعمل بأمانة، ولا يضيعُ وقتاً وأناساً.

ذلك الثقب الصغير،
المتبقي بعد مرور الرصاصة،
أفرغ محتوياتي،
لقد كان كل شيء يتسرب بهدوء،
الذكريات،
أسماء الأصدقاء،
فيتامين C،
أغاني الأعراس،
القاموس العربي،
درجة حرارة 37،
حمض البول،
قصائد أبي نواس،
ودمي.

في اللحظة التي تبدأ فيها الروح بالهروب من البوابة الصغيرة التي فتحتها الرصاصة، تصبح الأشياء أكثر وضوحاً، النظرية النسبية تتحول إلى أمر بديهي، معادلات الرياضيات التي كانت مبهمة تغدو أمراً يسيراً، أسماء زملاء الدراسة الذين نسينا أسماءهم تعود إلى الذاكرة، الحياة بكامل تفاصيلها تضيء فجأةً، غرفة الطفولة، حليبُ الأم، الرعشة الأولى، شوارع المخيم، صورة ياسر عرفات، رائحة القهوة مع الهيل في ثنايا المنزل، صوت أذان الصبح، مارادونا في المكسيك عام 1986، وأنتِ.

تماماً، كما لو أنكَ تأكلُ أصابع حبيبتكَ، تماماً كما لو أنكَ ترضعُ سلك الكهرباء، كما لو أنكَ تأخذُ لقاحاً ضد الشظايا، كما لو أنك لصُّ ذكرياتٍ، تعال لنمسكْ عن الشعر، ونستبدل أغنيات الصيف بشاشٍ طبيٍ، وقصائد الحصاد بخيطانِ العملياتِ الجراحية، اتركْ مطبخكَ وغرفة الأطفال واتبعني لنشربَ الشاي خلف أكياس الرمل، إنَّ المجزرة تتسعُ للجميع، ضعْ أحلامكَ في السقيفة واسْقِ نباتات الشرفة جيداً، فقد يطولُ النقاش مع الحديد، اترك خلفك جلال الدين الرومي وابن رشد وهيغل، واجلب معك ميكافيللي وهنتنجتون وفوكوياما، فنحن نحتاجهم الآن، اترك ضحكاتك وقميصك الأزرق وسريرك الدافئ، وهات أظافرك وأنيابك وسكين الصيد وتعال.

ارمي عصر النهضة واجلب محاكم التفتيش،
ارمي حضارة أوروبا واجلب ليلة الكريستال،
ارمي الاشتراكية واجلب جوزيف ستالين،
ارمي قصائد رامبو واجلب تجارة الرقيق،
ارمي ميشيل فوكو واجلب فايروس الأيدز،
ارمي فلسفة هايديغر واجلب نقاء العرق الآري،
ارمي شمس همنغواي التي لا تزال تشرق واجلب رصاصة في الرأس،
ارمي ليلة فان غوخ المضيئة بالنجوم واجلب أذنه المقطوعة،
ارمي غورنيكا بيكاسو واجلب غورنيكا الحقيقية برائحة دمها الطازج،
نحن نحتاج هذه الأشياء الآن، نحتاجها كي نبدأ الاحتفال.


التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads