الرئيسية » » يزولُ ويبقى أثره | خالد جمعة

يزولُ ويبقى أثره | خالد جمعة

Written By غير معرف on الأحد، 19 مايو 2013 | مايو 19, 2013


يزولُ ويبقى أثره


قالَ الحكيمُ لمريديه: في طريقِ بغدادَ القديمةِ، حيثُ مشى الرسلُ إلى جوارِ الصوفيين والشحاذين، ومشى الملوكُ على محفاتِ الفلسفةِ والشعرِ والدمِّ، كانت الحكمةُ تنبعُ من وجعٍ وفرحٍ مقترنين كليلٍ ونهار، ظلمٌ ومحاولاتُ عدلٍ، فقرٌ وجودٌ متعالٍ ومكرُماتٌ لا تذهبُ حيثُ يريدُها الله.

قالَ مُريدٌ مُشاكسٌ: العدلُ فكرةُ المظلومِ دائماً، كما يحلمُ الناعسُ بالليل، فلا يحتاجُ المقامُ العالي للعدلِ، كي لا يُنقصَ العدلُ مقامَهُ.

قالَ الحكيم وبسمةٌ تسيلُ من بياضِ لحيتِهِ: يكفي أن يفكِّرَ مظلومٌ واحدٌ بالظلمِ كي يُكتَبَ في الوجودِ الظلمُ، وكما تتكونُ جبالُ النارُ من سحجةِ حجرينِ بحجمِ خُنفُساء، فهكذا الجَورُ، إذا بدأ فلا نهايةَ له.

قالَ مريدٌ مطيعٌ: هذا وذاك مكتوبان، والنارُ من مبتدأ الخلق أُعِدَّتْ لتكونَ علّة الحريق، فالنارُ هزْلُها جدّْ.

قالَ الحكيمُ: من لم يذُقْ طعمَ النار فلن يأخذَ العلمُ مجراهُ فيهِ، سيظلُّ رأسُهُ رفّاً من خشبٍ ينقلُ إليهِ الكُتُبَ عن رفِّ الحائطِ، النارُ بهاءُ الطُّرُقِ كلِّها، ألم يقُلْ قدماؤنا عباراتٍ مثلَ [لهيبُ الحبِّ] و[نارُ العشقِ] و[حرارةُ الإيمان]؟ وكلُّها من نارٍ بأشكالٍ كثيرةٍ، والبردُ والنارُ حياةُ الحياةِ لا يصحُّ أحدَهما دونَ صاحِبِهِ.

قالَ المُشاكِسُ: كنتُ أراودُ جاريةً في قصرِ الخليفةِ، انتبهتُ دائماً إلى أنها وبقيُّةَ الجواري يرتدينَ الغلالاتِ التي يتداخلُ فيها الأحمرُ والأزرقْ، الباردُ والساخنُ، هل تظنُّ أن الخليفةَ اهتدى إلى المعنى فأوصى؟

قالَ الحكيمُ: إحساسُ اللونِ فطريٌّ كالموسيقى، وإن اهتدى الخليفةُ أم لم يهتدِ، فإن هذا كان يعجبُهُ وإلا لأمرَ بخلافِهِ.

قال مُريدٌ صامتٌ جُلَّ الوقتِ ويجلسُ بعيداً دائماً: كلُّ إحساسٍ مصيرُهُ الانتهاءُ، فإن تحقَّقَ انتهى، وإن لم يتحقَّقْ يُعلِّبُهُ الوقتُ كنُدبةٍ لا تزولُ، فينتهي ويبقى أثرُهُ.

قالَ الحكيمُ: إحفظْ إحساسَكَ في الثلجِ إذا لم يجِدْ طريقَهُ، وانتبه لسُمُوِّ الصوتِ الذي يأتيكْ، لا تنتبه لصوتٍ يأتيكَ من أسفلِك، واغسلْ روحَكَ عندَ الفجرِ بطاهرِ الكلامْ، تأتيكَ الفتوحُ طائعةً.

قالَ المشاكِسُ مُشاكِسا: وإذا حضرَتْ امرأةٌ عندَ الفجرِ، لحماً أو طيفاً، فهل تترُكُ للصوتِ أو للروحِ فسحةً لتأخذَ هواءها الباقي؟

تنهّدَ الحكيمُ زافراً سبعينَ عاماً مغمَّسةً بالذكريات: المرأةُ هي الماءُ والنارْ، هي العدلُ والظلمُ، هي المُدُنُ والصحارى، ومن ظنَّ أن عليهِ أن يمشي في طريقٍ دونَ آخرْ، فَقَدَ الطريقينِ معاً.

قالت المُريدةُ الوحيدةُ: نحنُ لا نُعلِّقُ الأقدامَ في طُرُقِنا، نميلُ إلى ما يبهجُ ونُبهجُ مَنْ يميلُ، ولا نفتحُ أو نغلِقُ، نحنُ غيمٌ يمطرُ فيروي، أو يصنعُ سيلاً فيأخذُ ما في طريقِهِ.

قالَ الحكيمُ: من أعزَّ ما لديهِ أعزَّهُ ما لديه.

"في حلقةٍ غيرِ بعيدةٍ كانَ مريدونَ آخرون، وشيخٌ يتلو وصايا شيخِهِ من كتابٍ قديمْ"
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads