الرئيسية » » رواية سرير الرمان (14) | أسامة حبشي

رواية سرير الرمان (14) | أسامة حبشي

Written By هشام الصباحي on الثلاثاء، 12 يناير 2016 | يناير 12, 2016

(14)


        لم تصدق كاثرين عيناها عندما رأت خيمتى وطريقة معيشتى، والبئر الجانبى خلف خيمتى، كانت الشمس فى منتصف السماء وباتجاها للميل قليلا استعدادا للغروب. لم أخبر كاثرين أننى كاتب و أحاول أن أكتب  منذ ثمانية أعوام ذاتى فى روايتى الثانية، ولم أحدثها إلا عن البدوى، وعن كرهنا  المشترك لمدينة الكهرباء، وعن فلسفة البدوى وتزاوج الجبال  التى تنجب الصخور، بل حدثتها عن فلسفة الرمان، ووجدتها تعرف تلك الفلسفة بمنظورها الخاص، وأنها تلقب نفسها بإله الرمان هى الأخرى، ثم حدثتنى  هى عن أدباء كثيرين وأعلنت صراحةً أنها لاتحب فى الأدب العربى سوى ، "موسم الهجرة إلى الشمال " للروائى السودانى الطيب صالح وأكدت أنها تحفظها عن ظهر قلب عندما تلت مقاطع منها وكأنها تقرأها من كتاب بيدها، وأشارت باحترام واعجاب لابن الفارض الشاعر الصوفى الكبير، والغريب أن تعشق نفس البيت الشعرى الذى أعشقه له :
  القتل حرام فى مذاهبنا...لكنه حل إذا كان الحبيب القاتل.

    وبعدما اكتست الشمس باللون البرتقالى الكامل، خلعت كاثرين ملابسها ورقصت بنشوة جنونية ، رقصة أستطيع تسميتها بأنها رقصة عودة الروح وسط الحياة البربرية، كاثرين ترقص والشمس بين حركاتها تذهب فى رقى بالغ العذوبة لعالم خالٍ من التعقيدات،  ترقص وموسيقى :يارمان"فى مسامى تسرح بتلقائية مبهرة ، هنا فى هذه اللحظة تحديداً كنت فى عالم آخر فضفاض يزورنى لأول مرة منذ ولادتى، فقد كنت مع أمى وأبى، آه من المسافة التى فصلتنى عن تذكرهما كل هذه السنوات، وآه من المرور فى هذه المسافة الآن، أمى تذكرتها تحديداً عندما كانت تصرخ هرباً -  فى زوايا منزلنا الريفى الواسع- خوفاً من يد أبى ، مسكينة أمى ومسكين أبى، كل منهما تعلم الفلاحة على كبر واحتملا عبء الصمود فى قريتنا أمام أعين مليئة بالشماته فى البداية، ولكن العلاقة بين أمى وأبى لم تكن يوماً ما على مايرام برغم النتيجة التى توصلا لها فى النهاية ،ألا وهى ميلادى، وبعودة قليلاً للجذور تذكرت أبى  الذى كان قاطعا للطريق ويعمل لدى أحد الأغنياء منذ زمن بعيد جداً، وفجأة هجر عمله وقرر الزواج، ونتيجة أن عمله قاطع طريق قد ذاع فى قريته ، قرر الزواج فى قرية أخرى،  أتى إلى قرية أمى وتزوجا ، جاء دون أهل ودون مال ، فأسرته طردته بلا رجعة، أما أمى فقد كانت طفلة ، ذهبت أمى إلى المدرسة لسنة واحدة  بعدها أجبرتها والدتها على البقاء فى البيت لخدمة الأسرة، عاشت خادمة فى بيتها لا تنعم بما ينعم به الأطفال برغم أن الأسرة كانت ميسورة الحال، عندما كََبُر معها  يأسها الشخصى من ظلم هذه الدنيا الغادرة، وجدت نفسها وجها لوجه مع رجل وبيت ، اشتراه لها أحد أخواتها بميراثها فى البيت الكبير ليتخلص منها ، لم تعرف أمى أن هذا البيت الجديد سيظل عقدة زوجها قاطع الطريق سابقا والعامل بالأجرة اليومية لاحقاً، وعندما مرت السنوات قرر الزوج الذى هو والدى التخلى عن العمل بالأجرة ، وبدأ يمتهن الفلاحة ، فاشترى جاموسة وأجر أرضاً زراعية، وبدأت أمى تتدرب على الفلاحة أيضاً، وصار تعلم خض السمنة وصنع الجبن وحلب الجاموسة أمراً ضرورياً. وكم عانت أمى فى هذا، البيت الكبير لأمى بشكل أو بآخر كان يتعامل معها فقط فى الأعياد وكانت جدتى لأمى تأتى سنوياً لمدة أسبوع بهدف تجديد البيت الطينى،عبر تلييص الحوائط بالطين ، وبسبب الفلاحة وبسبب فقر والدى ورغبته فى بيع المنزل، الذى هو آخر وأول الأشياء الخاصة لأمى فى هذه الدنيا، تفجرأبى عنفاً وبدأت أولى ضرباته لرأس أمى ولكل جسدها، كنت أرى ضربه له وأصرخ طلبا للرحمة وتركها لشأنها، كم من المرات هجر أبى والدتى، وكم من المرات أتى ليلا متخفيا بهدف إخافتنا، ولكن جدتى وأمى كانا من القوة لدرجة أنهما كانا ينتظرانه ويصرخان:
- تعال يا عبده..نحن هنا...عار عليك ما تفعله.
كنت فى هذه الأوقات أنام فى حجر أمى ببهو المنزل،لايفصلنى عن السماء شيئاً، لاسقف ولا مبانٍ مجاورة تحجب الرؤية، وكان صوت أمى يأتى هامساً فى أذنى بحكايات عذبة.
وبمرور السنوات هدأ أبى، كان قد تقدم فى السن وكان الفارق بينه وبين أمى فى العمر- الذى وصل لعشرين عاماً - حداً فاصلاً بين هدوئه وبين غضبه السابق، بيتنا كان عبارة عن دهليزوغرفتين فى الأجناب، ثم بهو كبير منه تنظر للسماء مباشرة، وبقعر الدار غرفتان مفتوحتان هما الزريبة وغرفة ثالثة هى قاعة الخبيز بجانبها قاعة صغيرة هى الحمام، أمى كانت تنام فى الدهليز وأبى ينام فى الغرفة، وتعلمت أمى شرب الجوزة على كبرٍوأدمنتها، بيتنا لم تدخله الكهرباء، وإنما نحن نعيش به على لمبات الجاز سواء" أم شرائط" أو التى "بزجاجة"، وبرغم العلاقة الغريبة بين أمى وأبى إلا أن لكل منهما مزاياه الخاصة، فقد كان أبى حافظا للسيرة الهلالية كاملة، وأجزاء من ألف ليلة وليلة، وأمى كانت حافظة للحكايات الشعبية وأيضا لكل ما تسمعه من الراديو الذى يعمل بالحجارة وكانت لاتحب الغناء،أمى وأبى لم يتعلما القراءة والكتابة، لكن كلا منهما على حدة كتاب يفيض بالحكايات، مرض أبى جدا. كنت فى هذه الفترة بالثانوية العامة، وأقيم مع أحد أخوالى، فقد ذهبت للإقامة عنده بسبب التلفاز وبسبب الكهرباء فعيناى كانتا تتعبان من لمبة الجاز، بالطبع هناك تفاصيل أكثر قبل هذه الفتره، ولكننى غير مهتم إذا كنت لاأتذكرها الآن. أبى فى فترات مرضه ساعده أحد الأشخاص الطيبين فى عمل معاش السادات، ولكن كان قليلا، لذا لجأ أبى إلى التسول، ولكن ليس بمعنى الوقوف ومد الأيدى للغادى والرائح، ولكن كان فى موسم رمضان والأعياد يذهب للأغنياء ويعود بالصدقات التى يراها هى فرضا عليهم مقابل مأهداه لهم من خدمات ،أغلبهم يعرف أبى قديماً، أما الباقون فهم أصحاب المحلات التجارية فى المدينة القريبة من قريتنا. هذا الفعل التسولى لأبى جعل حالة من التسامح تجتاح والدتى وجعلها تنظره فقط على أنه شخص منحوس فى الدنيا  تتحرش به الانفعالات الشريرة  دائما وتناست ضرباته خاصة بعدما نسى عقدة المنزل ، وأنا كنت أتفادى مقابلة والدى فى المدينة ، فقد كنت أخجل منه بالطبع، لذا  بالفعل غيرت اسم عائلتى بالبطاقة الشخصية وتاريخ الميلاد ، ولم أكن أعى أن أبى يفعل ذلك من أجلى وأننى يجب أن أحترمه مهما فعل، وأننى يجب أن  أتامل هذا القاطع للطريق ورؤية تحوله العجيب من عامل لفلاح فاشل لمتسول له عينان خضراوان وشعر جميل، وأنه فعل ذلك حيلة على الرزق بعدما راح جسده هباء فى دنياه . الحقيقة أننى كنت أكره بداخلى هذا الأب والآن كلى حسرة وكلى خجل من هذا الكره، زاد المرض على أبى ، وبدأت قدماه فى الورم وتكوين الصديد، وهنا انقلب الوضع بينه وبين أمى ، فأمى كانت تحمله- بعدما صار كالريشة  المنتفخة بسبب المرض- لكى يتبول أو يتبرز،أو لكى تحممه، وكان كل مرة يبكى ويطلب منها مسامحته على الضرب، وأمى كانت تبكى وهى تحضنه ، وأيضاً تجد صعوبة فى لمس وجهه لأنها بسبب ضربه فى الماضى قد تحولت لعمياء، ترى الأشياء مجرد رتوش. مات أبى تاركاً لى السيرة الهلالية وأما عمياء، وماتت أمى بعدها بفترة تاركة لى، الإحساس بالذنب لعدم قدرتى على فعل شئيا يليق بها وبأبى،  شئ يتساوى مع ماقدماه لى من تضحية، كان يجب أن أعرف أبى وأمى مجرد شخصين فقيرين جاهداً كثيراً من أجل ابن وحيد عاق.
    انتهيت من تذكرى وكاثرين مازالت ترقص برغم أن الليل حاصرنا من جميع الجهات، كاثرين تنظر لى وترى كل الحزن يكتسى وجهى، نتيجة خجلى من نفسى أمام أبى وأمى، توقفت كاثرين ودون كلمة، اقتربت وحضنتنى، وهى تسأل عن سبب شرودى وحزنى، وأنا لاأجيب، تنهدت كاثرين وتحدثت  بذكاء لتخرجنى ما أنا فيه :
-أنت ياعابر الصحراء..لاأعلم بماذا كنت تفكر ولكن أود أن تنصت لى.. هذه التى أمامك بها أيضاً جدارات من الحزن، أتعرف أننى ولدت  بألمانيا الشرقية" ونحجت فى الهروب لبرلين الغريبة ، عندما كان الجدار يفصل مابين المدنية وبين الفقر فى الحياة، وكنت أخجل من عائلتى، فقد كانت أمى تعمل فى عمل غير لائق من أجل تربيتى، كانت عاهرة، وأبى كان عاملاً بمصنع للملابس، وكان سكيراً أيضاً، هو منفصل عن والدتى، وكنت فى المدرسة، وأقترب من مرحلة الجامعة، وكنت لا أتحدث إلا عن الهروب فيماوراء الجدار، أقصد لبرلين الغربية ..ولكن هل تتخيل أن هذا السكير ضحى بحياته عندما اصطحبنى لتسلق الجدار ،وأنه قتل رمياً بالرصاص من أحد الجنود الحارسين للجدار، والنقود التى ساعدتنى فى البقاء على قيد الحياة بألمانيا الغربية  كانت من عمل والدتى، أتعرف معنى هذا؟ .. كبرت وتخرجت فى الجامعة ، ولم أذهب منذ عبورى الجدار إلا الآن لمدينة ميلادى ،وأنت تعلم أن الجدار لم يعد منذ سنوات كثيرة  ولكن مؤخراً جدا أدركت أن هذين الأبوين أعظم من الدكتوراه ومن مكانتى، لذا لم أكمل الدكتوراه و لا أود العودة لبلدى، فأنا لا أعرف كيف لى بمواجهة الأماكن التى تعمدت الهروب منها حتى بعدما أصبحت الألمانيتان ألمانيا الموحدة، كيف لى أن أواجه قبرى أمى وأبى.

        صدفة طيبة أم خبيثة أن حزن كاثرين مشابه لحزنى؟ وهل صدفة أن أعود لفسلفة الرمان مرة  أخرى عبركاثرين؟ ولماذا أنا وهى نتحدث الآن بنفس لغة الندم والتذكر؟  كان الفارق بينى وبين كاثرين فارقاً عمرياً يقترب  من الثلاثة عشر عاما ، وبرغم هذا فى ثانية، أى فى لحظة وجودية هائلة وجدنا جسدينا يحمياننا من هذا الحمل الندمى، ورحنا فى ممارسة جنسية بكائية، كل منا يمارس وهو يبكى بحرقة شديدة، كنا مرثية للماضى عبر شهوة جسدية، كنا نتطهر ونغسل أرواحنا عبر سوائلنا المنوية، البحر هناك والجمل والليل والسرير المائى والجبال والرمال والصخور كل هؤلاء يشهدون على صدقنا أثناء دخولنا عالم التوحد الجسدى وعالم التوحد فى اللاوعى الخاص بكلينا.
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads