الرئيسية » » لهذا الخريف وجهُكَ | وداد نبي

لهذا الخريف وجهُكَ | وداد نبي

Written By Lyly on الثلاثاء، 6 يناير 2015 | يناير 06, 2015

(إلى الشاعر الراحل رياض الصالح الحسين)

ليس الخريف هذه الأشجار العارية الممتدّة على طولِ الكرة الأرضيّة، الخريفُ وجهكَ وقد انحسر عنه الحبّ في اتجاه المقبرة البعيدة، الخريفُ قلبي وهو يتسوّل الشعر من دواوينكَ ليبعد ذاك الأرق تحت الجفنين في نهاية كلّ ليلٍ طويلٍ لا ينتهي إلاّ بالكثير من التعب واللعنات المتواصلة على هذا الكوكب الذي يتحوّل خرائبَ وأرواحاً تالفة غير قادرة على احتضانِ كلّ هذا الشغفِ بروحي الموشكة على انتحارٍ ما.
لهذا الخريف نكهةُ البدايات. له صوت موسيقى الحزن وهي تتوغّل في شوارع المدن الغريبة، موسيقى تشي برحيلٍ كبيرٍ لكلّ الدهشات الصغيرة التي عشناها. فأول الشغفِ بالماء، بالكنائس، بالشوق الغائب، عشناه معاً، أنا وأنت. شاعرٌ يبحثُ في روحي عن قصائده التي عاث فيها الخراب بربيعٍ هشٍّ وتفّاحةٌ للزمان الرديء الذي فرّقنا قبل أن نلتقي. أنتَ تكتب عن الوعول في الغابة الموحشة، عن الحريّة التي أتعبتكَ بانتظارها، وتلك البلاد الجميلة كمدفأة في كانون، بينما ألاحقكَ كطفلة ما بين كل سطرين في القصيدة، نابشةً عن عطرِ امرأة سحبت الأوكسيجين من رئتيكَ ذات حبّ.
التقينا كثيراً. في الشوارع المصفّحة، في الزنازين المسدودة بالإسمنت، في المقاهي الشاغرة، وفي تلك الأرض القاحلة، برتقالة عمرنا الطري، حبرستان، فهناك ركضنا معاً كغزالين عجولين بحثاً عن قرّاءٍ للشعر، ولحريّةٍ لم نتنفّسها كما يجب.
في هذا الخريف الذي له وجهكَ، أكتب عنكَ وإليكَ، كأنّني عرفتكَ قبل ألف عام، واشتركنا بفناجين قهوة وأحلام هائلة عن "عصافير تقصف الطائرات"، في صباحات بلادنا التعيسة، التي لن تعرفها اليوم لو قرّرتَ أن تخرج ذات صباحٍ من عالمكَ الكائن في قلب غيمةٍ ما، وتزورها. أتُراكَ، تعرف شوارعها وأرصفتها والأزهار التي تنمو في خريفها!؟
أؤكّد لكَ، ستحوّل نظركَ عنها في اتجاه المقبرة. فأزهار الخريف تحوّلت رصاصات تستوطن فوّهات البنادق، وأرصفتها أصبحت حاضناتٍ للحواجز العسكريّة الكريهة. أتصدّق أنّكَ لن تجد بائع أزهار في شوارع حلب؟!
كم تموت المدن حينما تفتقد باعة الأزهار في شوارعها. مدينة تتجوّل فيها السكاكينُ والبنادق والطائرات والدبّابات، لن تشبهنا أبداً، ولن تمنحنا لحظة سلام واحدة.
كم من الخراب أرسلهُ إليكَ في رسالتي هذه. الكثير. الكثير. فالخراب تجاوز الدورة الدمويّة يا صاحبي، أيّها الوعل الوحيد في الغابة، التي مشت أشجارها في اتّجاه الحريق ونسيت وعودها بأن تبقى خضراء دائماً، لتسند أرواحنا بجفاف هذا الكون الهائل المقدم على الانتحار.
أنتَ الذي كتبتَ قبل عشرات الأعوام هذا الكلام: "لماذا أحلم دائماً/ بطفلٍ متطاير الأشلاء/ ودمية محطّمة ورصاصة تئزّ"، أكنتَ تُنبئنا بحدسِ الشاعر لكلّ هذا الموت الذي أتى على البلاد كطوفان، فأغرقنا في الخسارات؟! أتُراكَ، تراقبنا هناك من عالمك البعيد وتشاهدُ الأطفال الذين تطايرت أشلاؤهم في حلب وريف الشام وإدلب وحمص؟! أتراكَ بكيتَ لأنكَ تنبّأتَ لبلادكَ بكلّ هذا الخراب؟!
أتعرفُ كم رصاصة تئزّ في سماء سوريا منذ أعوام؟ كم رصاصة سرقت حياة السوريين على حين غفلة؟ أجزم أنّك تراقبنا من سمائكَ، وتبكي بصمت الوعل الوحيد في الغابة، وتمزّق قصائدكَ واحدةً واحدة، وتضع رأسكَ الجميل على غيمةٍ في آخر كلّ نهار، وتنام حالماً ببلاد جميلة، تقودها نحو الينابيع وتجفّفُ دمها بأصابعك الخضراء.
لهذا الخريف وجهكَ... أكتبها لكَ أنا الهاربةُ من جحيم البلاد إلى مرارة الغربة، أنا التي تتجهّز لزيارةٍ قريبة، حيث غيمتكَ وشغفكَ وروحكَ البسيطة كالماء، حيث أتحوّل زهرةً خريفية وأنام على كتفكَ المرهقة.
أنا التي تتساءل كلما قرأت لكَ قصيدة: أحقاً لم نلتقِ؟!
يا للحسرة التي كامتداد سماءٍ أخيرة!



التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads