دبليو. أج أودن في مئويته | فاطمة المحسن

Written By تروس on الاثنين، 11 يناير 2016 | يناير 11, 2016

دبليو. أج أودن في مئويته


فاطمة المحسن

    شاعر القرن العشرين الذي تخّفى خلف خطاياه

في الكثير من مصنفات الشعر العالمي، نجد اسم ويستان هيو أودن ( 1907- 1973) بين ندرة من الشعراء الذين يعّدون صنّاعا مهرة لذائقة القرن العشرين الشعرية،وفي نوفمبر القادم حيث يستكمل الشاعر مئويته،يبدو التمهيد لجعل السنة المقبلة سنة أودن، من بين مواضيع الجدل في بريطانيا وأميركا. ولكن الشاعر الذي حسب نفسه على هواه، بريطانياً في أميركا ونيويوركياً في بريطانيا،لو قيض له العودة إلى هذه الحياة، لخالف الأعراف،كما هي عادته،ولمضى إلى خلوده في مكان بين المكانين.

كتب أودن مرة : "إتبعوني أنا المارق، اتبعوني حيثما أكون." ولعل تلك الكلمات تلخص سيرة حياته الأدبية والشخصية، فاودن الطالب الجامعي في أكسفورد ودارس البيولوجي والشغوف بالفلسفة والعلوم السياسية والإقتصاد، كان متمردا على نحو يثير العجب، فاستطاع عبر حضوره الطاغي كمثقف وساخط على الأعراف الإجتماعية والأدبية، أن يصبح نجما مرموقا في الجامعة العريقة ومثالا يحتذى،مستقطبا مجموعة من الادباء الشباب الذين شكلوا لاحقا طليعة المثقفين في بلده.

أودن بهذا المعنى لا يمثل نفسه قدر ما يمثل جيل الشعراء البريطانيين المرموقين : ستيفن سبندر، سيسيل دي لويس،لويس ماكنيس،الذين حققوا مكانة مرموقة في الغرب مقابل أشهر شاعرين أميركيين: إليوت وعزرا باوند.

ولد أودن في يورك ونشأ في شمال بناين والمقاطعات المحاذية لاسكوتلندا، وهو يعتبر نفسه شماليا،حيث تظهر نزعته تلك في مجموعة من قصائده ومواضيعه النثرية وعلى وجه الخصوص دواوينه (رسائل نيويورك) 1940و(عصر القلق)1947،حيث يطل مزاج ابن الشمال حسبما يطلق على نفسه، الطبيعة المتوحشة والثلوج التي توحي بأبدية العالم.

في 1928نشر أودن أول عمل له (القصائد) التي اعاد نشرها ت. س. إليوت من مؤسسته فابر اند فابر العام 1930، وتوالت مجاميعه التي أبرزها (الخطباء)1932، وهي نصوص شعرية ونثرية،(أسبانيا) 1937عن الحرب الأهلية الاسبانية، (وقت آخر)1940، (الرجل المزدوج) 1941نصوص شعرية ونثرية،( لهذا الوقت) 1944وتحوي قصيدتين طويلتين: (البحر والمرآة) و(لهذا الوقت)، (عصر القلق) 1947الذي فاز بجائزة بوليتز، (تُرس آخيل) 1956،(مدينة بلا جدران) 1969الذي حصل على جائزة كتاب الشعر الوطني في بريطانيا .مجمل أعمله تقارب 300قصيدة قصيرة، وست قصائد طوال، ومجموعة من النصوص النثرية التي كتبها في أدب الرحلات مشاركا فيها كريستوفر اشروود، وسيسيل دي لويس وعدد من الكتاب الذين صاحبوه تلك الرحلات. وإضافة إلى مقالاته التي صدرت في مجلدين عن الشعر والأدب،كتب أودن النصوص المسرحية بالشراكة مع كتاب آخرين بينهم بريخت واشروود ووضع مجموعة من الأغاني الأوبرالية بالتعاون مع الشاعر البريطاني بنجامين برايتن ومؤلفين عالميين، فضلا عن ترجماته. غادر أودن الشاب أكسفورد في العام 1928وذهب مع صديقه الحميم في الجامعة كاتب الدراما كريستوفر اشروود في رحلة إلى برلين، وكانت برلين مجالا للحرية حيث هجا فيها بريطانيا المحافظة، ولعل أحد أهم أسباب هجائه، مثليته الجنسية التي وجد في بلده من يحاربها. في برلين تعّرف على الباحث الانكليزي جون ليرد الذي نشر دراسات انثربولوجية قيمة، فظهر تأثير هذا العالم في كتاباته. وفي الظن ان أهم تمردات اودن تتبدى في علاقته مع المدن، فهو قد جاب العالم وكانت رحلاته منذ الصبا هروبا من المكان وتمسكا بمعالمه. كان يحن إلى نيويورك وهو في اكسفورد والى اكسفور وهو في نيويورك.وقدر ما ينطوي موقفه عن ضيق بالوطن وبالاوطان البديلة،قدر ما يكشف عن حنين إلى الأماكن الأولى،فقد عاد في أخريات أيامه إلى اكسفور واستقر في بيت قديم من بقايا قرنين منصرمين، جوار الكنيسة التي عاد إلى رحمها بعد تمردات عليها. وفي الاشهر الخمسة الاخيرة من حياته غادر إلى النمسا، حيث مات في فندق متواضع. ولعل أوصاف الإنتماء لا تنطبق على أون إلاّ على نحو نسبي، فقد كان ماركسيا ثم عاد مسيحيا، ثم مر بهرطقات تنّكر فيها لكل شيء، ولكنه كان يحيا الشعر تجربة حياة ووجود.

كانت سنوات أودن الاخيرة في أكسفورد قد جلبت له عداوات كثيرة، وخاصة بين الشعراء الشباب الذين ضاقوا ذرعا بتحوله إلى شيخ محافظ ورقيب على الشعر واللغة لا يرضيه العجب. أراؤه المتطرفة العدوانية ونضوب موهبته عجّلتا في أفول نجمه، وتحوله من معّلم ومرشد ومؤثر في الحياة الأدبية إلى شيخ وحيد يعاني الوحشة والغربة، ولكن الغريب ان تلك الفترة بقيت تلاحقه إلى يومنا.

سنوات أودن المزهرة هي ثلاثينات وأربعينات القرن المنصرم، حيث عده النقاد من أفضل الشعراء الذين أعادوا الاعتبار إلى الانكلوسكسونية، عبر لغة تتبدى فيها خصوصية النبرة الإنكليزية، ومفردات الحياة البريطانية. وقصائده التي تدل على سعة ثقافته، تجمع بين أغاني الحانات ولغط الناس في الشوارع إلى اللغة الاكاديمية والفلسفية العميقة.وهو قبل هذا،انسكلوبيديا تطل على الأساطير والشعر الهزلي والهجاء المضحك والمشهد الاجتماعي في الغرب. ولعه بالتجريب جعل شعره لا يثبت على نمط واحد يحد تضاريسه، فهو يهتم بفن الخطابه وإيقاع الكلمة،ويستخدمهما على نحو مختلف سواء في التأكيد على الحضور القوي لهما او المجازي. ولكن أودن المدقق في شعره وشعر أقرانه، كان يراهن على قدراته تحويل أي موضوع إلى حالة شعرية،فهو يتنقل بين تخوم الشعر العامي والكلاسيكيات دون عوائق،ولعل إهتمامه بالثقافة الشفاهية وحضوره الملتقيات والفعاليات الشعبية التي تستخدم فيها العامية،ساعد قصائده على استيعاب وتطويع الاختلاف دون تناشز. أودن حسبما كتب مرات، ضد أي شكل يحجز القصيدة ضمن قواعد محددة، لذا جرب في كل الانواع،فقصائده سجّل للحياة اليومية، مثلما هي تاريخ ثقافي ترد فيها بورتريهات للشعراء والكتاب وموتيفات الثقافة العليا،ولكنه كان يبحث في شخصيات المشاهير عن جوانب تخصه هو وتخص الطريقة التي يشتغل فيها تناصه مع كتاباتهم فهو يستبدل أقنعتهم بقناعه الشخصي. السخرية الخفية التي تظهر في قصيدته (whoسs who) من الطريقة التي تدون فيها سيرة المشاهير تؤكد بحثه عن الجوانب الانسانية في حياة البشر. ولكن وساوس أودن في الشعر، وحسه النقدي، اجهزت على مجموعة من القصائد والمقاطع الشعرية التي حذفها من مختاراته وأعلن قرفه منها، والغريب ان النقاد والناس أبقتها على رغم رفض الشاعر لها.

صلة أودن بالمدن التي ترد أسماء شوارعها في قصائده تحمل مزاجه الحسي الذي يلامس الواقع قدر ما يحاول تغريبه، وهو يتشارك مع إليوت وشعراء عصره في النظرة القيامية المتشائمة إلى العالم، ولكن إختلافه يبرز في نظام بلاغته الذي يرتبط بالتجارب الواقعية التي تتحول على يديه إلى مادة شعرية تبدأ بالقريب وتمضي إلى الكلي والشامل. فقصيدة (الأرض اليباب) لإليوت تقف مقابلها مجموعة من القصائد عن المدينة الحديثة، لعل أبرزها (بينما كنت أتمشى ذات مساء) وهي غنائية رقيقة عن الحب وعزلة الفرد في الأزمنة والأمكنة التي تعج بالناس والمحبين:

"بينما كنت اتمشى ذات مساء

أذرع شارع بريستول

الأرصفة المزدحمة

حقول قمح محصود

وبمحاذة النهر المزبد

سمعت أغنية العاشق

تحت قوس القطار

لن ينتهي الحب"

ستفر السنوات مثل الأرانب

من بين يديّ

زهور العمر

وأول حب في العالم

ولكن كل ساعات المدينة بدأت تدق وتأز

آه لاتدع الوقت يخدعك

انت لا تستطيع قهر الزمن"

مدينة أودن هي مكانه الشخصي، وشوارعها مرئية وموصوفة بعلاماتها،ولكنها ايضا مثل مدينة اليوت موحشة وأرض يباب. (التنويمة) قصيدة أودن الأشهر التي قيل انها تمثل الانسان المعاصر واحساسه بالخطيئة، كانت عن تجربة شخصية،كما قال هو، فالطفل الغافي بين يديه في القصيدة (أرخ رأسك الغافي)

ياحبي البشري

على ذراعي الغادرة

لم تكن تورية بهذا المعنى كما فسرها الكثير من النقاد، بل هي صورة الفتى الذي اغواه الشاعر وهو معلم في مدرسة للصبيان، ليفر به إلى مكان آخر، وتنطوي على احساس شخصي بالذنب، ولكنها خرجت عن حيزها هذا لتصبح في ذاكرة الشعر إقنوما تبدأ به حدود أودن الفنان.

مر أودن بتحولات فكرية مختلفة،عكست فردانيته ومزاجه القلق،ولكن أصداء التدين والشعور بالخطيئة وفكرة الإعتراف بقيت تلازمه، فهو في ايام تألقه في ثلاثينات القرن المنصرم،كان يعد يساريا أو ماركسيا على نحو ما، وبدأ تحوله عن يساريته بعد عودته من الحرب الأهلية الأسبانية التي شارك فيها،ولكنه أيضا كان مساهما في مجلة (أنكاونتر )التي حررها ستيفن سبندر، وكانت من بين أهم المجلات الادبية عالميا، وعلى رغم مستواها الرفيع ومحررها الشيوعي الأصل، عملت هذه المجلة ضد انتشار الفكر الشيوعي واتهمت بتمويل المخابرات الاميركية.وما كانت ماركسية أودن تؤخذ على محمل الجد، فهو مثقف نخبوي يعلن من خلال كتابته على ان ماركس وفرويد أعظم منظري عصرنا. ولا يمكن قياس مسيحية أودن ايضا التي عاد اليها في الستينات بما هو عليه التدين الرسمي، بل كانت الكنيسة مكان دفء ورحمة وغفران للشاعر الذي كان جداه من خدّامها.وعلى مستوى الابداع، الطقس الديني بما فيه التراتيل والصلوات والأعياد، هي ذاكرة حياة ومعايشة يومية، ولعل تحولاته المذهبية في مسيحيته تشير إلى مزاجه الشاعري.

تبدت شكوك أودن السياسية، بعد عودته من إسبانيا التي ذهب اليها مع جمع من مثقفي اليسار في العالم الذين شاركوا في الحرب الأهلية،والتحق بكتيبة الدعم الصحي، ولكن مهمته في كتابة البرامج الإذاعية المحرّضة التي كُلف بها، كانت من أسباب نفوره من اسلوب الدعاية السياسية، ورأى ان الحرب كانت أكثر تعقيدا مما خيّل اليه، فصمت سنوات ليخرج بكراس شعري (أسبانيا) مناصرا للجمهوريين. ولم يعلن موقفا مضادا ولكنه بدأ تحوله عن اليسار في نفوره من الأنظمة الشمولية بما فيها النظام السوفيتي.

ولعل رحلات أودن في المدن المختلفة تسجل روح المغامرة وحب الإكتشاف الذي كان يسكنه، وقد ترجم كتاب جوته الشهير في رحلته إلى ايطاليا، وكانت تلك واحدة من ابداعات أودن اللغوية التي استطاع ان ينقل فيها من الألمانية سفرا من أدب الرحلات.

ذهب أودن إلى الصين في العام 1938ليكتب مع رفيقة اشرود تقارير صحافية عن الحرب اليابانية - الصينية، ومكثا هناك ستة اشهر، وعند عودتهم إلى نيويورك صمما البقاء لبعض الوقت، وبعد ثمانية اشهر من اندلاع الحرب العالمية الثانية استقرا في نيويورك.وأعتبر البريطانيون ذلك خيانة وطنية لأن أودن صرح وكتب معلنا كراهيته لبريطانيا. انتج خلال وجوده في نيورك قصيدته الطويلة عند اندلاع الحرب العالمية الثانية( 1سبتمبر 1939)التي استعادها الاميركان بعد أحداث سبتمبر الاخيرة، فهي تتحدث عن هذا العالم المجنون الذي يمضي إلى نسف الحضارة (موجات الغضب والخوف)

تستدير حول الضياء

وتكّفهر البسيطة

هوس خصوصياتنا

مالايقال عن رائحة الموت

بعيدا عن نهايات ليلة سبتمبر"

روح الشاعر الإنساني الذي يخشى الطغاة والحروب تهيمن على قصيدته، وقد رأى في إندفاعه الرجال وحماقاتهم خطرا يهدد العالم، لذا طالب بأن تتولى النساء العلاقات الخارجية بين الدول!، ولعل تمجيده للبيت والمرأة الدافئة التي تحقق الأمان محض ابتعاد عن حياته العبثية التي عاشها في شبابه، ولكن لم تغب عن قصيدة أودن إنشغاله بقضايا الفكر السياسي واحداث العالم، وهي تظهر في الكثير من قصائده. نصه (شاهدة على قبر طاغية)، من بين النصوص التي خلدته، وهي تؤرخ مرحلة صعد فيها هتلر وستالين وموسوليني وفرانكو:

"كان الكمال بعينه

ماذا يطلب أكثر من هذا

والشعر الذي إجترحه كان أسهل من أن يفهم (هو يعرف حماقات البشر كما يعرف ظاهر كفه) كان على ولع كبير بالجيوش والأساطيل - عندما يضحك، ينفجر الشيوخ من الضحك) وعندما يبكي يموت الأطفال الصغار في الشوارع". تنوّع أودن مدوّخ يلقي القاريء في متاهة ثراء لغته وعوالمه، ولكن واضع مقدمة مختاراته الشعرية وأبرز نقاده أدوارد مندلسن، يقول ان اعتقاد اودن بجدية الشعر وجدواه لا يقابله سوى رغبته في اتلاف أي قصيدة يشك في قيمتها، ولا تعنيه جماهيرية تلك القصيدة او حب الناس لها، فالشعر يصدر منه ويعود اليه


التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads