الرئيسية » , , , , , , , , » بول أوستر: الكثيرُ من الكتّاب في داخلي |ترجمة: أحمد بن عايدة

بول أوستر: الكثيرُ من الكتّاب في داخلي |ترجمة: أحمد بن عايدة

Written By هشام الصباحي on الأحد، 13 سبتمبر 2015 | سبتمبر 13, 2015


ترجمة: أحمد بن عايدة
لا تعنيني نتائج الكتابة وحدها، بل كذلك العملية ذاتها، عملية وضع الكلمات على الصفحة.

لا تعنيني نتائج الكتابة وحدها، بل كذلك العملية ذاتها، عملية وضع الكلمات على الصفحة.

بعد أن تم رفض رواية «مدينة الزجاج» في سنة ١٩٨٥ من قِبل سبعة عشرة دار نشر، قامت دار سان آند مون بنشرها. تعتبر رواية «مدينة الزجاج» الأولى في «ثلاثية نيويورك». بعد عام، تم نشر الروايتين اللاحقتين «الأشباح» و «الحجرة المقفلة»، حيث كان بول أوستر في الثالثة والثمانين من عمره. بالرغم من أنه كان يراجع ويترجم بشكل دائم، ويملك قصيدة نثرية «فراغات بيضاء» قد نشرها في ١٩٨٠، إلا أن الثلاثية كانت البداية الحقيقية لمسيرته الأدبية.

نشر أوستر في ١٩٨٠ أول كتاب فكري له، «اختراع العزلة»، مذكّرات وتأملات في الأبوّة شرع في كتابتها بعد وفاة والده بوقت قصير.

الصحفي: لنستفتح الحوار بالحديث عن طريقتك في أداء العمل. كيف تكتب؟

أوستر: أكتب دومًا بالقلم. ومعظم الوقت بقلم الريشة، وقلم الرصاص أحيانًا من أجل التصحيح. ليتني كنت أستطيع الكتابة مباشرة على الآلة كاتبة أو الحاسب الآلي. غير أني أفقد قدرتي على التفكير عندما تكون أصابعي في تلك الوضعية. علاوة على ذلك، ما زالت لوحات المفاتيح تُرهبني. أما القلم فإنه أداة أكثر بدائيّة. يجعلك تشعر بخروج الكلمات من جسدك لتحفر نفسها على وجه الصفحة. فالكتابة بالنسبة لي تحمل هذه الخاصية الحسيّة. إنها تجربة بدينة.

الصحفي: إنك تستخدم الدفتر للكتابة وليس الكراسة ذات الصفحات الصفراء، أو طيات الأوراق المنفصلة.

أوستر: نعم، أكتب دائمًا في الدفاتر. ولدي ولع تجاه الدفاتر ذات المربّعات الدقيقة.

الصحفي: وماذا عن آلة الكتابة الأولمبية الشهيرة؟ إننا نعرف بعض الأمور عن علاقتك بتلك الآلة. ففي العام الماضي قمت بنشر كتاب رائع مع الرسّام سام ميسر: حكاية آلتي الكاتبة.

أوستر: لقد احتفظت بالآلة الكاتبة تلك منذ ١٩٧٤، أكثر من نصف عمري. وكنت قد اشتريتها مستعملة من زميلي في الجامعة. فلا بد من أنها الآن في عامها الأربعين. إنها قطعة أثرية آتية من عصر بعيد، ولكنها بحالة جيدة، ولم تتعطّل قط. كل ما عليّ فعله هو تغيير شريطة الآلة من فترة إلى أخرى. وأخشى أن يأتي يوم لا يبقى فيه شرائط للبيع. حينها سيكون عليّ القفز نحو العالم الرقميّ والانضمام إلى القرن الواحد والعشرين.

 الصحفي: رائع! إنها قصة أوستريّة من الطراز الأول؛ عن اليوم الذي ستخرج فيه لتشتري لآلتك الكاتبة آخر شريطة موجودة على وجه الأرض.

أوستر: قمت بالاستعداد لهذا اليوم. لقد أمّنت مخزونًا كافيًا من الشرائط. لدي ما يقارب الستّين أو السبعون شريطة في غرفتي. ويبدو أنني سوف ألزم آلة الكتابة حتى النهاية، رغم أنه في بعض الأحيان تعتريني رغبة موجعة بهجرها. فهي عبء ثقيل وغير مريح، غير أنها تقيني من الكسل.

الصحفي: كيف ذلك؟

أوستر: تجبرني الآلة الكاتبة على البدء من جديد كلما انتهيت من الكتابة. أما الحاسب الآلي، فإنك تجري التعديلات على الفور، ومن ثم تطبع النسخة المنقّحة. لا يمكنك الحصول على مسوّدة منقّحة باستخدام الآلة الكاتبة إلا إذا بدأت من جديد. إنها عملية متعبة للغاية. تكون قد انتهيت من كتابك، عليك من بعد ذلك أن تقضي الأسابيع في عملية ميكانيكية محضة في نسخ ما قد كتبته سلفًا. وهذا يضرّ رقبتك، وظهرك. وحتى لو تمكنت من كتابة عشرين أو ثلاثين صفحة في اليوم، فإن مجموع الصفحات المنجزة يتزايد ببطءٍ مبرح. وهذه اللحظات التي تولّد فيّ رغبة الانتقال إلى الحاسب الآلي. لكن كلما دفعت نفسي إلى نهاية هذه المرحلة الشاقة من الكتابة، أكتشف من جديد أهمية الآلة الكاتبة. الطباعة تتيح لي تجربة الكتاب على نحو مختلف. إنها تجعلني أنغمس في السرد فأحسّ بكيفية سيره بوضوح شديد. أطلق على هذه التجربة “القراءة من خلال أصابعي”. سوف تُذهل من كم الأخطاء التي تجدها أصابعك ولم تلحظها عيناك. الكلمات المكررة، التراكيب الخرقاء، السقطات المضطربة. لن تخذلك هذه العملية. دائمًا أعتقد بأني أتممت الكتاب، حتى أبدأ بطباعته، وأدرك مدى حاجتي إلى المزيد من العمل.

الصحفي: لنعود إلى الدفاتر لبرهة. شخصية كوين، في «مدينة الزجاج» يدوّن ملاحظاته في دفترٍ أحمر اللون. آنا بلوم، الشخصية الراوية في «في بلاد الأشياء الأخيرة» تكتب رسائلها في دفتر أزرق. وفي رواية «السيد المترنّح» يقوم والت بكتابة سيرته الذاتية في ثلاثة عشر مجلّد مدرسيّ. أما ويلي ج. كريسماس، البطل المجنون في رواية «تيمبكتو» فقد جرجر جميع أعماله التي كتبها خلال حياته إلى مدينة بالتيمور ليعطيها أستاذه في الثانوية قبل أن يموت: أربعة وسبعون دفتر من القصائد والقصص والمقالات والمذكرات، والقصائد القصيرة، وتأملات حياته، والسطور الـ 800 الأولى لملحمته غير المكتملة “زمن التشرد”. وتظهر الدفاتر كذلك في رواياتك الحديثة، «كتاب الأوهام» و«ليلة الوحي». ناهيك عن مجموعتك القصصية «الدفتر الأحمر». ماذا عسانا أن نفهم من ذلك كله؟

أوستر: ذلك لأني أظن أن الدفتر عبارة عن سرداب الكلمات، مكان سري للفكرة والتوغّل الذاتي. لا تعنيني نتائج الكتابة وحدها، بل كذلك العملية ذاتها، عملية وضع الكلمات على الصفحة. لا تستفسرني عن السبب. ربما يعود ذلك إلى تشويش حصل لي في فترة مبكّرة من حياتي؛ جهلي تجاه حقيقة القصص. كنت أتساءل دائمًا في صغري، من أين تأتي تلك الكلمات؟ من الذي يقول هذا كله؟ إن استخدام الصوت الثالث كما في الرواية الكلاسيكية لأمر غريب. لقد اعتدنا عليه الآن. إننا نتقبّله، ولم نعد نسائله. غير أنك إذا فكّرت بالأمر، تجد أن في ذلك الصوت غرابة روحية. كما لو أنه يجيء من اللا شيء، وقد وجدتُ ذلك مخيفًا. دائمًا تجذبني الكتب التي تسحبك إلى عالمها. حتى لو كانت غاية الكتاب هي دفعك إلى العالم. إن النص ذاته هو البطل. «مرتفعات وذرينغ» رواية مثالية لهذا النوع من الكتب. وكذلك رواية «الرسالة الحمراء». الإطار الذي يحوي تلك الأعمال مختلق بكل تأكيد، غير أنه يؤسّسها، ويمنحها مصداقية لم أجدها في الروايات الأخرى. إنهم يعرضون العمل في إطار خيالي، إطار كانت تفتقده أشكال السرد الأكثر تقليدية، حتى إذا بدأتَ بتصديق هذا الخيال، تتجلى بشكل متناقض حقيقة الواقع. لم تُكتب الكلمات من قِبل إله مخفي. هذه الأعمال تعكس جهد منبثق من لحم ودم، وإن ذلك مثير للدهشة. فالقارئ يصبح جزء من تقدّم الحبكة، وليس متفرّجًا فحسب.

الصحفي: متى أدركت أنك تريد أن تصبح كاتبًا؟

أوستر: بعد سنة من إدراكي بأني لن أصبح لاعب بيسبول محترف. كانت لعبة البيسبول أهم شيء في حياتي، حتى بلغت سن السادسة عشر.

الصحفي: من البيسبول إلى الكتابة، إنها نقلة غير اعتيادية. ذلك أن الكتابة عملٌ يتطلب عزلة تامة.

أوستر: كنت ألعبُ البيسبول في الربيع والصيف، غير أني كنت أقرأ طوال العام. كان شغفًا صغيرًا، وقد كبر معي. لا يمكنني تخيل كاتبٍ لم يكن قارئا شرسًا في شبابه. القارئ الحقيقي يفهم أن الكتب عالمٌ بحد ذاته، وأنه أكثر سعةً وتشويقًا من أي عالم آخر سافرنا إليه. أظن أن ذلك ما يجعل اليافعين واليافعات يتحوّلون إلى كتّاب. إنها السعادة التي تكتشفها فيما أنت تعيش الكتب. ربما لا تكون قد عشت لزمنٍ كافٍ لتمتلك شيئًا تكتب عنه، غير أن اللحظة آتية وحينها ستدرك أن ذلك ما قد وُلدتَّ لأجله.

الصحفي: ماذا عن الذين تأثّرت بهم في البداية؟ لمن كنت تقرأ في مرحلة الثانوية؟

أوستر: غالبًا الكتّاب الأمريكيون الاعتياديون. فيتزجيرالد، همنغواي، فوكنر، دوس باسوس، سالينجر. غير أنني في سنة التخرج بدأت أكتشف الأوروبيين من الكتّاب. الروس والفرنسيين. تولستوي، دوستوفيسكي، تورجينيف. ألبير كامو وأندريه جيد. جيمس جويس وتوماس مان كذلك. خصوصًا جويس. فقد كان على رأس الجميع عندما كنت في الثامنة عشرة.

الصحفي: هل كان له التأثير الأكبر عليك؟

أوستر: نعم، لفترة قصيرة. حاولت أكثر من مرة تقليد كل من الروائيين الذين كنت أقرأ لهم. كل شيء يؤثر فيك عندما تكون يافعًا وأفكارك تتغير كل بضعة شهور. إنها أشبه بتجريب القبعات. إنك لا تملك أسلوبًا يخصّك بعد، فتقوم بغير وعي بتقليد كتّابك المفضّلين.

الصحفي: لقد ذكرتَ على مر السنين بعض الكتّاب الذين أثّروا على كتاباتك. ميغيل سيرفانتس وتشارلز ديكنز. كافكا وصامويل بيكيت. ومايكل مونتاين.

أوستر: إن جميعهم بداخلي. الكثير من الكتّاب في داخلي، غير أني لا أظن أن كتاباتي تشبه أي أحد. فأنا لا أقوم بكتابة كتبهم. إنني أكتب تلك الخاصة بي.

الصحفي: يبدو أيضًا أنك تميل إلى أدباء القرن الثامن عشر الأمريكيين. فإن أسماءهم تظهر في رواياتك بشكل ملحوظ. إدغار ألان بو على سبيل المثال، ومليڤيل، ووالت ويتمان، ديڤيد ثورو، وناثانيال هاوثرون. وعلى وجه الخصوص هاوثرون. فانشاو، اسم إحدى الشخصيات في روايتك «الحجرة المقفلة» مستلهم من هاوثرون. وتبدأ روايتك «في بلاد الأشياء الأخيرة» بإقتباس لهاوثورون. ولقد اصبحت قصة هاوثورون «وايكفيلد» جزءًا من عملك «الأشباح». وقصة «الوحمة» تجدها موضوع حوار بين زيمير وألما في عملك «كتاب الأوهام». ولقد كتبتَ مقالة طويلة عن هاوثرون في شهر مايو السابق. هل يمكنك تفسير اهتمامك العميق بهاوثرون؟

أوستر: من بين جميع أولئك الكتّاب، هو الأقرب إليّ، والأعمق وصولًا إلى قلبي. هناك شيئًا في صدى خياله يرنّ فيّ. إنني أعود إليه دائمًا، وعلى الدوام أتعلم منه. إنه كاتب لا يخاف الأفكار. وهو أيضًا عالم سيكولوجي عظيم، قارئ عميق للنفس البشرية. كانت كتاباته ثورية بلا شك، لم يسبقها مثيل في أمريكا. أعلم أن همنغواي قال بأن الأدب الأمريكي بأكمله قد خرج من مغامرات هاكلبيري فن. غير أني لا أوافقه. لقد بدأ كل شيء بـ «الرسالة الحمراء».

الكثير من الكتّاب في داخلي، غير أني لا أظن أن كتاباتي تشبه أي أحد. فأنا لا أقوم بكتابة كتبهم. إنني أكتب تلك الخاصة بي.

الكثير من الكتّاب في داخلي، غير أني لا أظن أن كتاباتي تشبه أي أحد. فأنا لا أقوم بكتابة كتبهم. إنني أكتب تلك الخاصة بي.

هناك المزيد في جعبة هاوثرون خارج قصصه ورواياته. إنني شغوفٌ بمذكّراته، لأنها تحتوي على أبلغ وأذكى كتاباته. لذلك رغبت بشدة في نشر مذكّرات «عشرون يومًا» في كتاب مستقل. فلقد كانت لسنوات عديدة متوفّرة ضمن كتاب «المذكّرات الأمريكية» في نسخة أكاديمية باهظة الثمن قلة قليلة ترغب بقراءتها. إن مذكراته حول اعتنائه بولده ذي الخمسة سنوات عملٌ بحد ذاته. عملٌ يأسرك ويضفي عليك البهجة بطريقته الميتة، والذي يعطينا صورة مختلفة تمامًا لهاوثورون. لم يكن كما يعتقده الناس، بهيئته الحزينة والمعذبة. بل كان أبًا وزوجًا عطوفًا، ورجلًا مكتفيًا بسيجار جيد وكأس أو كأسين من الويسكي. وقد كان مرحًا، كريمًا، وطيب القلب. ورغم خجله المفرط، فإنه رجل يحب مسرات الحياة البسيطة.

الصحفي: لقد كتبتَ في مجالات عديدة، الشعر والقصص، وحتى نصوص سينمائية، وسير ذاتية، ونقد وترجمة. هل تشعر بأنها أنشطة مختلفة، أو كلها بطريقةٍ ما موصولة ببعضها البعض؟

أوستر: إنها أقرب إلى الترابط من أي شيء آخر، غير أن هناك اختلافات مهمة. وهناك التطوّر الداخلي. لم أقم بأية ترجمة أو كتابة نقدية لسنوات عديدة. لقد كانت شغلي الشاغل الذي ابتلعني تمامًا عندما كنت شابًا، من مراهقتي المتأخرة تقريبًا حتى آخر عشرينياتي. وكلا العملين كانا يتيحان لي اكتشاف كتّاب جدد، ومعرفة كيف أصبح كاتبًا. يمكنك اعتبارها تلَمَذَتي الأدبية. لدي بعض المحاولات في الترجمة والنقد منذ ذلك الحين، غير إنها ليست مادة كافية للنشر. وسنة ١٩٧٩ شهدت آخر قصيدة قد كتبتها.

الصحفي: ماذا حدث؟ لماذا هجرت هذه الكتابات؟

أوستر: لأنني وصلت إلى جدار. ركّزت طاقتي لعشرة سنوات في الشعر ومن ثم أدركت أنه لا يمكنني كتابة المزيد، أدركت أني علقت. كانت فترة سوداء بالنسبة لي. لقد ظننت بأني متُ ككاتب.

الصحفي: لقد مُتَّ شاعرًا، وبعثَ روائيًا. كيف حدث هذا التحول برأيك؟

أوستر: أعتقد بأنه حدث في نفس اللحظة التي توقفت فيها عن الاكتراث؛ بعدما مات اهتمامي بصنع الأدب. يبدو هذا غريبًا. لكن منذ ذلك الحين، وبعد أن تمرّغت بشكل كافٍ في تربة الكآبة لعام كامل، بدأت أكتب من جديد. أصبحت الكتابة تجربة مختلفة. فلقد كانت الكلمات التي تخرج مني الآن على شكل نثر. أصبح كل ما يهم هو قول ما يجب قوله. دونما اهتمام بالعادات المغروسة مسبقًا. دونما اهتمام بالشكل الذي ستخرج عليه. كان ذلك في آخر السبعينيات، وقد استمريت في الكاتبة على هذا النحو.

 الصحفي: يعتبر كتاب «اختراع العزلة» أول عمل نثري وفكري لك، والذي قمتَ بكتابته بين سنة ١٩٧٩ و١٩٨١. بعد ذلك قمتَ بنشر ثلاثة روايات معروفة باسم ثلاثية نيويورك: مدينة الزجاج، الأشباح، الحجرة المقفلة. هل يمكنك تحديد أوجه الاختلاف بين كتابة قصص تخيّلية وكتابة نثر متجرد من الخيال؟

أوستر: إن المجهود هو ذاته في كلا الأمرين. والحاجة لإتقان كتابة جملة مستعصية نفسها موجودة كذلك. غير أن العمل التخيّلي يتيح لك حرية أكبر وحركة أوسع من العمل النثري الفكري. في أغلب الأحيان تصبح تلك الحرية شيئًا مخيفًا للغاية. ثم ماذا؟ كيف لي معرفة أن الجملة التالية لن تقودني للسقوط في الهاوية؟ أما بالنسبة للسيرة الذاتية، فإنك تعلم الحكاية سلفًا، وواجبك الرئيسي هو قول الحقيقة. ذلك لا يجعل الأمر بالضرورة أسهل. في مقدمة الجزء الأول من مذكّرات «اختراع العزلة»، بدأتُ بجملة لهيروقليطس. “في البحث عن الحقيقة، كُن مستعدًا للمفاجآت. فإنه يصعب العثور عليها، وإذا وجدتها، لم تفهمها.” في النهاية، الكتابة هي الكتابة. قد لا تكون “اختراع العزلة” رواية، غير أني أظن بأنها تناقش العديد من الأسئلة التي أطرحها عادة في أعمالي الروائية. إنها، بشكل أو بآخر، جوهر أعمالي كلها.

الصحفي: ماذا عن النصوص السينمائية؟ لقد شاركتَ في انتاج ثلاثة أفلام: الدخان، اللون الأزرق في الوجه، لولو على الجسر. كيف تختلف كتابة السيناريوهات عن الروايات؟

أوستر: من كل النواحي. باستثناء تشابه واحد جوهري: وهو أنّك تحاول سرد قصة. غير أن الأدوات المتاحة لك مختلفة تمامًا. الروايات عبارة عن سردٍ صرف. السيناريوهات تمثّل المسرح، الحوارات هي الأساس. بشكل عام لا تحمل رواياتي العديد من الحوارات. ولذا ما أحتاجه لأشتغل على انتاج فيلم هو تعلم طريقة كتابة جديدة تمامًا. أن أعلّم نفسي التفكير على نحو تصويري، ووضع الكلمات في فم كائنات بشرية حية. إن كتابة النصوص السينمائية أكثر تقييدًا من كتابة الروايات. على سبيل المثال، الزمن. في الرواية تستطيع اختزال دهر كامل في جملة واحدة “كنت في كل يوم لعشرين عام، أذهب إلى دكان الصحف في زاوية الشارع، وأشتري نسخة من صحيفة البوق اليومية.” يستحيل فعل ذلك في الأفلام. يمكنك تصوير رجل يذهب إلى دكان الصحف ليشتري صحيفة في يوم واحد محدد، لكن ليس كل يوم لعشرين سنة.

الصحفي: هناك عبارة في «اختراع العزلة» طالما أحببتها: “النوادر شكل من أشكال المعرفة.” أعتقد بأنها تحمل فكرة مهمة للغاية. وهي أن المعرفة لا تأتي بالضرورة عبر التصريحات، أو البيانات والشروحات. يمكن للمعرفة أن تتشكل على صورة قصة. وإن ذلك يذكّرني بالروح التي تحرّك كتابك «المذكرة الحمراء».

أوستر: أوافقك. تلك القصص تشبه المناهج التي تعلّمك كتابة الشعر، دون النظريات ودون الفلسفة. لقد حدث لي الكثير من الأمور الغريبة في حياتي، أحداث غير متوقعة وبعيدة الاحتمال، واصبحت غير واثقٍ من معرفتي للواقع. كل ما يمكنني فعله هو الحديث حول هندسة الواقع، وتجميع الأدلة من خلال تسجيل ما يحدث في العالم بأكبر قدر من الإخلاص. لقد كتبت رواياتي من هذا المنطلق. لا أعتبر ذلك منهجًا أكثر من كونه عملية صادقة في عرض الواقع كما هو، وليس كما يجب أن يكون أو كما نرغب له أن يكون. نعم، الروايات عملٌ تخيّلي، ويعني ذلك بالطبع أنها تقول الأكاذيب. غير أن كل روائي يحاول تصوير حقيقة العالم من خلال تلك الأكاذيب. تصوّر القصص الصغيرة في «المذكرة الحمراء» رؤيتي الخاصة للعالم. الحقيقة العارية حول عدم مقدرتنا في تنبؤ الحياة. لا توجد نطفة خيال في تلك القصص. إنه من غير الممكن أن يوجد خيال فيها. فلقد عاهدت نفسك على قول الحقيقة، وإنك لتفضّل بتر ذراعك على ألا توفي بوعدك. وما يثير الاهتمام خلال كتابتي لتلك القصص هو أنني كنت أخطط في ذهني باستخدام أسلوب ساخر. الأسلوب الساخر هو أنقى وأهم شكل للسرد. يجب أن تكون كل كلمة في مكانها الصحيح.

الصحفي: حكاية البرق بلا شك القصة الأكثر نفوذًا من بين مجموعة «المذكرة الحمراء». وهي تدور حول شلة من الفتيان كنتَ من بينهم، حيث كنتم تقومون بالتنزّه في الغابة. كان عمرك أربعة عشر عام آنذاك. وفجأة اجتاحتكم عاصفة رعدية رهيبة. صُعق فتى كان يقف بجانبك ومات. إذا كنا نريد الحديث عن رؤيتك للعالم وللكتابة، فلا بد أن تكون تلك الحادثة نقطة تحول جوهرية.

أوستر: لقد غيّرت تلك الحادثة حياتي، لا مجال للشك في ذلك. في لحظة كان الفتى حيًا ولحظة أخرى فإذا هو ميت. كنت أقف على بعد إنشات منه. كانت تجربتي الأولى في الخوض بمسألة الموت العشوائي، والإحساس المحير بهشاشة الأشياء. تظن بأنك تقف على أرض يابسة، وبعد لحظة، تفغر الأرض أسفل قدميك فاهها، وتختفي.

الصحفي: أكثر ما هو جريء في روايتك الأولى «مدينة الزجاج» هو أنك استخدمت نفسك كشخصية في القصة. بل أيضًا زوجتك وابنك. لقد ذكرنا مسبقًا أنك كتبت بعض السير الذاتية، لكن ماذا عن رواياتك؟ هل تستعير بعض الأشياء من السير الذاتية التي تكتبها؟

أوستر: أجل، إلى حد معين. لكن أقل بكثير مما تظن. فبعد «مدينة الزجاج» كانت هناك رواية «الأشباح». وقد ذكرتَ أن الرواية تبدأ في ٣ فبراير ١٩٤٧- يوم ميلادي- فيما عدا ذلك لا يوجد هناك أي إشارات شخصية أخرى. أما في «الحجرة المقفلة» فإن العديد من الأحداث قد استمدتها مباشرة من حياتي.

الصحفي: تحمل الشخصية الراوية في «لڤايثن» حروف أسمك الأولى، بيتر آرون. المتزوج من آيرس، وهو أسم زوجتك معكوسًا.

أوستر: نعم، غير أن بيتر ليس متزوجًا من امرأتي سيري. بل متزوج من بطلة روايتها الأولى «معصوب العينين».

الصحفي: إذن هي علاقة رومانسية أدبية؟

أوستر: بالضبط.

الصحفي: لم تذكر شيئًا عن «قصر القمر» والذي يبدو أقرب إلى السيرة الذاتية من أي رواياتك الأخرى. فإن شخصية فوغ بنفس عمرك، وقد غادر إلى كولومبيا بنفس الوقت الذي رحلتَ فيه أنت إلى كولومبيا.

أوستر: أجل، أعلم أن الكتاب يبدو شخصيًا للغاية، غير أن تقريبًا لا شيء فيه يعكس حياتي. سوى أمرين مهمين. يتعلق الأمر الأول بوالدي. وهو عبارة عن العودة من الموت للانتقام، لتسوية أمر قديم بالنيابة عن أبي. إن تيسلا شخصية ثانوية في الرواية، وقد خصصت صفحتين لجدال دار بين إديسون وتيسلا في تسعينيات القارن التاسع عشر. إيفنغ، الرجل الذي يخبر فوغ الحكاية، يحقّر من شخص إديسون. فلقد اتضح لي أنه عندما تخرج والدي من الثانوية في ١٩٢٩، اشتغل عند إديسون مساعدًا في مختبر مينلو بارك. فلقد كان أبي بارعًا مع الإلكترونيات. غير أن بعد أسبوعين من العمل، اكتشف إديسون أن والدي كان يهوديًا، فطرده. لم يخترع أبي الكرسي الكهربائي وحسب، بل كان أيضًا معاديًا شرسًا لليهود. فرغبت بأن أنتقم لأجل والدي، لتسوية الأمر.

الصحفي: وما هو الأمر الآخر؟

أوستر: الأمر الآخر يتمثل في الليلة التي يقوم بها إيفينغ بإعطاء مالًا لغرباءٍ في الشارع. لقد استلهمت ذلك المشهد مباشرةً من أمر قد حدث لي في سنة ١٩٦٩، خلال لقائي بهارولد لويس هيومز، المعروف بالدكتور هيومز، أحد مؤسسي مجلة باريس ريفيو. لقد كان حدثًا جنونيًا، لا أعتقد بأني قادرًا على خلق أمرًا كهذا.

الصحفي: لقد كتبتَ بعض الصفحات الخالدة حول الدكتور هيومز في مذكرات «قوت اليوم» التي تعتبر إحدى سيرك الذاتية. الكتاب بشكل عام يتحدث حول معاناة شبابك في محاولة النجاة من الغرق، ويحمل عنوان ثانوي مثير للاهتمام «يوميَات فشل مبكّر». ما الذي دفعك للكتابة حول ذلك الموضوع؟

أوستر: لطالما رغبتُ بالكتابة عن المال. ليس من منظور تمويلي أو تجاري، بل عن عدم امتلاك المال الكافي، عن الفقر. درستُ مشروع ذلك الكتاب لسنوات عديدة، وكان دائمًا يحمل عنوان «مقال عن العوز». كان عملًا لوكييني من الطراز الأول، على نمط القرن السابع عشر، فقد كان جافًا للغاية. كنت أخطط لكتابة عمل فلسفيًا جادً. لكن كل شيء تغير عندما بدأت أكتبه. تحول الكتاب إلى نقاش مشاكلي المالية الخاصة. وبرغم كآبة الموضوع، انتهيت إلى كتابتها بروح هزلية. ومع ذلك، لم يكن الكتاب يتمحور حولي وحسب. فلقد وجدتها فرصةً للكتابة عن بعض الشخوص المرحة التي قابلتها في صغري، لكي أوفّي لهم حقهم. وقد قبلت أولئك الأصحاب لأنه لم يكن لدي أدنى اهتمام في العمل على مكتب أو المحافظة على وظيفة رتيبة. وجدت أن الفكرة وحدها منفرة. وكنت منجذبًا نحو الأعمال الأكثر بساطة، أعمال تتيح لي بقضاء وقت مع شخوص لا يشابهونني. أشخاص لم يدرسوا في الجامعات، لم يقرؤوا الكثير من الكتب. نحن نقلل من قدر ذكاء الطبقة العاملة في هذا البلد. استنادًا على تجربة شخصية، اكتشفت أن أغلبهم أذكياء بقدر أولئك الذين يديرون العالم. إنهم بكل بساطة ليسوا طموحين، وهذا كل ما في الأمر. غير أن الحديث معهم أكثر متعة. فهم فكاهيون. عانيتُ في محاولتي لمواكبتهم. كنت أجد أحاديثهم غير مفهومة. لقد قضيت الكثير من الوقت مدفونًا بين الكتب.

الصحفي: شخصية هيكتور مان، الكوميديان الصامت، في رواية «كتاب الأوهام»، من أين استلهمتها؟

أوستر: قبل عشرة سنوات ظهر هيكتور في رأسي ذات يوم. وقد ماشيته لمدةٍ طويلة قبل البدء بالكتاب. لقد كان هيكتور متكاملًا منذ البداية. ليس فقط باسمه، وأنه وُلد في الأرجنتين، بل أيضًا ببذلته البيضاء وشاربه الأسود ووجهه الجميل. كان كل شيء فيه على أتم وجه.

الصحفي: يحكي «كتاب الأوهام» قصة معقّدة للغاية، لكني أظنها في الجوهر تستكشف حالة الأسى. كيف عسانا أن نمضي بعد خسارة جسيمة؟ كيف نعيد إحياء أنفسنا بعد موت عزيز؟ من منظور مختلف جدًا كان محور رواية «تيمبكتو» يدور حول الأمر ذاته، أليس كذلك؟ دعني أعيد صياغة السؤال: هل تعتقد بأنك كنت ستكتب أي من هاتين الروايتين قبل عشرة أو خمسة عشرة سنة؟

أوستر: أشك في ذلك. إنني في خمسينيات عمري، والأمور تتغير للمرء فيما هو يكبر. يبدأ الوقت بالتبدد، وعملية حسابية بسيطة تقول بأن السنوات التي تلاشت خلفك أكثر بكثير من تلك الآتية. جسدك يأخذ بالتهالك، تصبح لديك أوجاع لم تكن موجودة من قبل، وشيئًا فشيئًا، يبدأ الموت بانتشال أعزاءك. معظم الذين يصلون للخمسين محاطين بالأشباح. إنها تعيش داخلنا. نصبح نتحدث مع الموتى بقدر ما نتحدث مع الأحياء. إنه لمن العسير لليافع أن يدرك ذلك. لا أقصد أن العشريني لا يدرك أنه سوف يموت، بل تجربة فقد الآخرين، فهو أعمق لدى الكبار. ولستَ تدرك مدى تأثير ذلك الفقد حتى تجربه بنفسك. الحياة قصيرة، وهشّة، ومحيّرة. وفي النهاية، كم عدد الذين نحبّهم في حياتنا كلها؟ عدد قليل، قليل جدًا. عندما يختفي معظمهم، تتغير خريطة عالمك الداخلي. كما قال لي جورج أوبين ذات مرة: أن تشيخ، يا له من أمرٍ غريب يحصل للطفل.

الصحفي: لقد اقتبست تلك العبارة في كتابك «اختراع العزلة».

أوستر: إنها أفضل عبارة سمعتها عن الشيخوخة.

الصحفي: تقول الشخصية الروائية في «ليڤايثن» “لا يمكن لأحد معرفة من أين جاء الكتاب، على الأقل ليس الكاتب نفسه. تولد الكتب من الجهل، وإذا ما استمرّت تلك الكتب في العيش بعد ما كُتبت، فذلك لأنها لم تُفهم بعد.” إلى أي حد تؤمن بهذه العبارة؟

أوستر: إنه ليندر أن أتحدّث مباشرةً من خلال شخصياتي. قد تقوم بعكس ملامحي في بعض الأحيان، أو تستعير من حياتي، غير أني أعتبرهم كائنات قائمة بذاتها، بآرائها، وطريقتها الخاصة بالتعبير عن أنفسها. وعلى ما أظن جاء رأي آرون في هذه الحالة مطابقًا لرأيي.

الصحفي: عندما تشرع في كتابة رواية، ما هي درجة وعيك بالأشياء التي تقوم بها؟ هل تعمل بحسب خطة ما؟ هل تعرف الحبكة مسبقًا؟

أوستر: جميع الكتب التي قمت بكتابتها بدأت بما أسميه وخزة في الرأس. موسيقى من نوع ما، أو إيقاع، أو نبرة. قدر كبير من الجهد الذي أبذله في كتابة الرواية هو في البقاء صادقًا لتلك الوخزة، تلك الموسيقى. إنها عملية حدسية للغاية. ليس بإمكانك إثباتها أو الدفاع عنها بطريقة عقلانية. غير أنك ستدرك متى عزفت على الوتر الخطأ، وغالبًا ما تكون متيقّنًا إذا وقّعتها بالطريقة الصحيحة.

الصحفي: هل تنتقل عبر الحبكة جيئة وذهابًا بينما تقوم بكتابتها؟

لا يمكن لأحد معرفة من أين جاء الكتاب، على الأقل ليس الكاتب نفسه. تولد الكتب من الجهل، وإذا ما استمرّت تلك الكتب في العيش بعد ما كُتبت، فذلك لأنها لم تُفهم بعد

لا يمكن لأحد معرفة من أين جاء الكتاب، على الأقل ليس الكاتب نفسه. تولد الكتب من الجهل، وإذا ما استمرّت تلك الكتب في العيش بعد ما كُتبت، فذلك لأنها لم تُفهم بعد

أوستر: كلا. جميع كتبي بدأت بالجملة الأولى، بعد ذلك أقوم بشق طريقي حتى الجملة الأخيرة. على نحو متتابع، الفقرة تلو الأخرى. إنني أملك حدسًا عن مسار القصة، وغالبًا الجملة الأخيرة والأولى قبل البدء بالكتابة. لكن كل شيء يتغير فيما أنا أكتب. كل الكتب التي نشرتها لم تكن بالصورة التي صوّرتها عليها في البدء. شخصيات وأحداث تختفي، وأخرى تتشكّل فيما أمضي. إنك تعثر على الكتاب خلال عملية كتابته. تلك هي مغامرة. لو كان كل شيء معروفًا من قبل، لن تكون كتابته بالأمر المثير.

الصحفي: رغم ذلك تبدو كتبك مبنية برشاقة عالية. إنها إحدى ميّزاتك المستحسنة لدى الجميع.

أوستر: لقد مرّ «كتاب الأوهام» عبر عدد من التغييرات الجذرية خلال كتابته، ولقد كنت أعيد التفكير في الحبكة حتى آخر صفحة.  كانت رواية «تيمبكتو» القصيرة أطول مما انتهت إليه. فلم يكن من المفترض أن تحصل الشخصيتان ويلي والسيد بونز سوى على أدوار صغيرة وزائلة، لكن بعد أن بدأت بكتابة الفصل الأول، وقعت في حبهما وقررت شطب خطتي بأكملها. فتحوّل المشروع إلى كتاب شعري قصير يدور حول هاتين الشخصيتين وحسب، لذلك بالكاد توجد أي حبكة. أما مع رواية «السيد المترنّح» فقد ظننت في البداية أنني أكتب قصة قصيرة من ٣٠ أو ٤٠ صفحة، غير أنها انطلقت تفتش طالبةً حياة كاملة تخصّها. لطالما كانت الكتابة على هذا النحو بالنسبة لي. أتخبّط ببطء نحو الصواب.

الصحفي: هل يمكننا العودة لعبارتك “الفقرة تلو الأخرى”؟

أوستر: بالنسبة لي، الفقرة هي الوحدة الطبيعية للإنشاء. السطر هو وحدة تكوين القصيدة، كذلك هي الفقرة للنثر. أعيد كتابة الفقرة حتى أتقبّلها على نحو مرضي، أكتب وأعيد كتابتها إلى أن يصير لها الشكل الصحيح، الوزن الصحيح، النغمة الصحيحة، حتى تبدو شفافة وعذبة، حتى تبدو بأنها لم تُكتب. قد يتطلب إتمام الفقرة يوم بأكمله أو نصف يوم، أو ساعة واحدة، أو ثلاثة أيام. وحالما أظن بأني أتممت كتابتها، أقوم بطباعتها لأتفحّصها بشكل جيد. ولذا فإن لكل كتاب مسوّدة إلى جانب نسخة مطبوعة على الآلة الكاتبة. بعد الانتهاء من كل شيء أقوم بمهاجمة الصفحات المطبوعة لإجراء المزيد من التعديلات.

الصحفي: وشيئًا فشيئًا، تتزايد عدد الصفحات.

أوستر: نعم، ببطء شديد.

 الصحفي: هل تعرض عملك على أحد قبل أن تنشره؟

أوستر: أجل، إن زوجتي سيري أول قرائي، ولدي إيمانًا مطلقًا بأحكامها. في كل مرة أكتب فيها رواية، أقرأ بعضًا منها عليها كل شهر، أو متى أصبح لدي عشرين أو ثلاثين صفحة جديدة. القراءة بصوت مسموع يساعد في بلورة الكتاب، لأستمع إلى أخطائي وإلى إخفاقاتي في التعبير عما أردت قوله. ومن ثم تأتي تعليقات سيري. إنها تقوم بذلك منذ 22 سنة، وكل ما تتفوّه به يكون ثاقبًا بشكل مدهش. لا يمكنني تذكّر متى لم أتبع نصيحتها.

الصحفي: وهل تقرأ أعمالها؟

أوستر: نعم. ما تفعله لأجلي، أحاول فعله لأجلها. كل كاتب يحتاج إلى قارئ يثق به. شخص يتعاطف مع ما تقوم به ويرغب بجعل العمل على أفضل نحو ممكن. غير أنه يجب أن تكون صادقًا. وهذا أساس واجب وجوده. المسألة لا تحتمل كذب، أو تربيتة على الكتف، أو مدح شيئًا لا تؤمن به.

الصحفي: قمت بإهداء «ليڤايثن» إلى دون ديليلو في ١٩٩٢. بعد إحدى عشرة سنة، أهدى إليك روايته «كوزموبوليس». من الواضح أن هناك صداقة قديمة تربطكما. لمن تقرأ في الوقت الحالي من الروائيين المعاصرين؟

أوستر: عدد لا بأس به، ربما أكثر مما استطيع عدّه. بيتر كيري، راسل بانكس، فيليب روث، إدغار لورينس دوكتورو، تشارلز باكستر، جون ماكسويل كوتسيه، ديفيد غروسمان، أورهان باموق، سلمان رشدي، مايكل أوندارتشي، وسيري هوزتفت… تلك هي الأسماء التي تقفز إلى ذهني. أنا واثق إذا قمت بسؤالي غدًا، فسأعطيك لائحة مختلفة. على عكس ما يظنه أغلب الناس، إن الرواية بحالة جيدة في زمننا، سليمة ومفعمة بالحيوية كما هو حالها عبر العصور. إن الرواية قالبٌ لا ينفد. أيًا كانت زعائم المتشائمين، فإن الرواية باقية بقاء الأبد.

الصحفي: كيف لك ان تكون واثقًا إلى هذا الحد؟

أوستر: لأن الرواية هي المكان الوحيد في العالم حيث يلتقي الغريبان، ولا شيء يجمعهما سوى الألفة المحضة. القارئ والكاتب يخلقان الرواية سويًا. ذلك ما لا تمتلكه أي من الفنون الأخرى. لا يوجد فن آخر قادر على قبس جوهر الحياة الإنسانية.

الصحفي: سوف تنشر روايتك الجديدة «ليلة الوحي» في أواخر هذا العام. خمسة أشهر منذ نشرك «كتاب الأوهام». لقد عرف عنك بسرعة إنتاجيتك الأدبية، لكن هذه المرة يبدو أنك حطّمت كل الأرقام.

أوستر: في الواقع، بدأت بكتابة «ليلة الوحي» قبل «كتاب الأوهام». توقفت بعد كتابة عشرين صفحة، أو ما يقارب ذلك. فقد أدركت بأنني لست واثقًا مما أنا بصدد فعله. أخذ مني كتاب الأوهام تقريبًا ثلاث سنوات لكتابته. كان فكري يحوم حول ليلة الوحي على الدوام خلال تلك المدة. ولما عدتُ إليها أخيرًا، انتهيت منها بسرعة مدهشة. أشعر كما لو كنت قد كتبتها في غيبوبة.

الصحفي: هل كانت كتابتها سهلة ورشيقة حتى النهاية؟ أو قد صادفت بعض الصعوبات؟

أوستر: نعم، عانيت في الصفحات العشرين الأخيرة. فقد كنت أمتلك نهاية مختلفة عندما شرعت في كتابتها. لكن بعدما كتبتها متبعًا الخطة كما ينبغي، شعرت بعدم الرضى. كانت مفرطة بالوحشية وحساسة لدرجة أنها أضعفت نبرة الكتاب. صُعقت، وبقيت لأسابيع مشوشًا، ظننتُ بأنه ينبغي عليّ هجر الكتاب. إن الأمر يشبه قصة سيدني تمامًا في الرواية ذاتها. إنه كما لو حلّت عليّ لعنة كانت من صنعي، وجعلتني بالفعل أعايش معاناة بطلي. نزلت عليّ الرحمة، ونزلت معها النهاية المناسبة للكتاب، واستطعت أخيرًا كتابة الصفحات العشرين الأخيرة.

إنك تعثر على الكتاب خلال عملية كتابته. تلك هي مغامرة. لو كان كل شيء معروفًا من قبل، لن تكون كتابته بالأمر المثير.

إنك تعثر على الكتاب خلال عملية كتابته. تلك هي مغامرة. لو كان كل شيء معروفًا من قبل، لن تكون كتابته بالأمر المثير.

الصحفي: قبل قليل استخدمت كلمة “الألفة”. وهذه أول كلمة تأتي لذهني كلما فكّرت في «ليلة الوحي». إنها رواية آسرة إلى حد بعيد، ربما الأشد أسرًا من بين ما كتبت.

أوستر: أرى هذه الرواية كعمل من فن الحجرة، حيث أن هناك عدد قليل من الشخصيات وجميع الأحداث تقوم بمكان واحد خلال أسبوعين. إنه عملٌ متراص جدًا، وملتفٌ على نفسه بإحكام؛ كائن حي صغير وغريب من الأجزاء المتشابكة.

الصحفي: لقد استخدمتَ عددًا من الأمور التي لم يسبق أن استخدمتها في كتبك. على سبيل المثال، الحواشي.

أوستر: في تلك القصة خصوصًا، شعرت بضرورة الحواشي. فإن الحبكة واقعة في الحاضر، والأحداث محصورة بين أسبوعين. ولم أرغب في قطع تدفّق القصة. وعلى ذلك فقد استخدمت الحواشي لعرض ما حدث في الماضي.

الصحفي: تعتبر «ليلة الوحي» روايتك الحادية عشرة. هل اصبحت الكتابة أسهل عبر تلك السنوات؟

أوستر: كلا، لا أعتقد ذلك. إن كل كتاب يعتبر كتابًا جديدًا لم أكتبه من قبل وأحتاج أن أعلّم نفسي كيف أكتبه فيما أقوم بكتابته. وحقيقة أنني كتبت أعمالًا في السابق لا تساعدني البتة. أشعر دائمًا بأنني مبتدئ، أواجه الصعوبات ذاتها باستمرار، العوائق ذاتها، اليأس ذاته. إنك تقترف العديد من الأخطاء ككاتب، تشطب جملًا وأفكارًا لا حصر لها، تتخلص من أوراق لا جدوى منها، وفي النهاية، تدرك حقيقة واحدة، وهي كم أنت غبي. إنها مهنة تقلل من قدرك.

الصحفي: إنه لمن الصعب تخيل أن روايتك الأولى «مدينة الزجاج» قد رفضتها سبعة عشرة دار نشر أمريكية. والآن، بعد عشرين عام، تتم ترجمة كتبك إلى ثلاثين لغة. ألا تتأمّل أحيانًا مسيرتك المهنية الغريبة؟ كل ذلك الجهد والصبر، وكل ذلك النجاح؟

أوستر: أحاول ألا أفعل ذلك. يصعب عليّ تفحّص نفسي من الخارج. إنني ببساطة لا أملك الوسيلة الذهنية لفعل ذلك، أو حتى أن أتفحّص الجزء المتعلّق بأعمالي. فإن الآخرين هم المعنيين بالحكم عليها، ولستُ أرغب بافتراض أنني أملك إجابة لذلك السؤال. أتمنى لو استطعت، غير أني ما زلت لا أتقن حيلة التواجد في مكانين مختلفين بنفس الوقت.

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads