الرئيسية » » عليّ | شيخة حسين حليوى

عليّ | شيخة حسين حليوى

Written By هشام الصباحي on الاثنين، 15 فبراير 2016 | فبراير 15, 2016


عليّ
  


العار لا يموت. الحبيب المجهول لا يموت. يبقى مجهولا.
في شرع البداوة أمور كثيرة لا تموت وإن دفنت تحت التراب.
يراقب وجوه الرجال المعزّين. يتفحّص نظراتهم ويستنبط ما أمكن من كلام لا يَرِدُ مع عبارات العزاء التقليديّة والتي يردُّ عليها بهزّة خفيفة من رأسه. يده تصافح الأيدي الممدودة وتتلمّس رعشة أو برودة. كم عليّا يعرفُ من طابور المعزّين؟ هل يكون "عليّهُ" بينهم؟ يده تتشنّج كلّما صافحت عليّا يعرفه وعليّا يفترضه.
كثيرون هم في قرية تنحصر الأسماء فيها بين الصحابة والتابعين. في كلّ بيت علي ومحمّد وحسن وحسين. لا يُتقن التخمين وربط نسيج الأرحام ببعضه.
وضحى وعليّ، عليّ ووضحى! أيُّ نارٍ يخلّفها الاسمان؟ الاسمان معا! وما كان اسمها إلاّ مقترنا باسمه. "وضحى المصطفى". هكذا اصطلحت النسوة تسميتها. ليس وضحى العبد( اسم أبيها) وليس وضحى الصالح (اسم عائلتها) بل وضحى المصطفى على اسم زوجها.
"من رضي عنها زوجها رضي عنها الله" تكاد الواحدة منهنّ تقول.
أمّه فقط كانت تتعمّد مناداتها باسمها مقرونا باسم عائلتها "وضحى الصالح" وكأنّها تؤكّد لكنّتها أنّها مهما فعلت ستبقى دخيلة على هذه الأسرة، لاجئة إلى حين. ووضحى لم تكن تزعجها هذه المناداة.
على عكس ما تقصده حماتها. 
عاتبته أمّه مرّة على تقصيره في زياراتها أو ما تظنّه تقصيرا.
"أمّك ولّا مرتك؟ قال لا والله، يلي تغنج تحتك".
ضحك يومها في سرّه:" وضحى جميلة وناعمة ولكنّها لا تغنج. ليتها تغنج".
يده تصافح المعزّين. يشعر بهم يطيلون المصافحة ويضغطون بقوّة على يده. عمّا يبحثون؟ عن بقايا دم؟ عن سرّ الموت ؟ أم هي الشماتة والشّفقة؟
والعزاء يمتدّ ويطول ولا ينتهي. لم يبق رجلٌ في قريته إلا وصافحه معزّيا: سلامة راسك!
العمّال الذين يقلّهم إلى عملهم في تل أبيب صافحوه دون أن ينطقوا بكلمة. اكتفوا بهزّة من رؤوسهم. كانت المرأة محور أحاديثهم في ساعات العمل والاستراحات وقبل النوم في سكنهم في تل أبيب. وهنا هي محور اجتماعهم الصامت.
كصمتهم وهم عائدون من عملهم الشاقّ.
 وأيّ عمل سيناسب تلك الرؤوس التي يحملونها؟ تبليط، دهان، بناء وإنسال النساء أطفالا كآبائهم. وحده أيقظه الطريق والشوق وقلقٌ لا يجد له تفسيرا. يدٌ على المقود وأخرى تعبث بمحطّات الراديو. كلّ الأغنيات في أمسيات الجمعة تشعل لهفته وشوقه لوضحاه. الليلة ليلة الجمعة.
"...يا ناعم العود يا سيد الملاح..." يحبُّ هذه الأغنية ولا يعرف كلّ كلماتها.
 كلّما خطرت وضحى بباله غمرته رائحة القهوة القويّة، وكلّما رشف من قهوة الصباح رشفة طويلة سرت في لسانه رعشة شهيّة. وضحى كحبوب القهوة. ترقص فوق النار، يُقلّبها بخفّة ومهارة خبير وهي تكتسبُ لونا بنيّا، تخترقُ رائحتها مسامه تتحمّص وتتحمّص، فيشتهيها ويشتهي وضحى. حبوب القهوة تحتاجُ خبيرا والمرأة كذلك. كان الرجال يضحكون ويتغامزون وهو يُباهي أمامهم بمهارته في تحضير القهوة. إنّها مهارة تتجاوز حدود الحبوب السمراء.
 بعد غياب أسبوع عن البيت سينعم بلقمة طيبة وامرأة طيّعة.
ترى هل يحلم هؤلاء النائمون مثله باللقمة الطيّبة والأنثى الطيّعة؟
" يا رجل، نبني لليهود فيلات يلتعن دينّا فيها، تسرح وتمرح فيها نسوان بيظ ناعمات، وتاليها شو؟؟؟ نرجع عبيوت مشحّرة ونسوان نص ميتات، وين العدل؟" يتذمّر محمود،  العامل النشيط صاحب العين الناعمة، كثيرا ما ورّطهم في مشاكل مع أرباب العمل بسبب عينه الناعمة.  لعابه يلمع على زاوية شفتيه النائمتيْن، بمن يحلم؟
" والله يا رجل مستعدّ أدفع نصّ عمري ويكون عندي مرة مثل "عِدْنا" زوجة هاظ المخنّث صاحب البيت" قالها محمود في إحدى استراحات العمل وهو ويتلمّظ ويمسحُ لعابه بطرف كفّه.
وضحاه أجمل من "عِدْنا". يقول في سرّه.
"يا ناعم العود يا سِيد الملاح.." يدندن هذا المقطع الذي لا يحفظ سواه. سيغنّيه لها غدا عند شجرة الكينا الّتي تحبُّ الجلوس تحت ظلّها، تترك شجرة البلوط الضخمة الوارفة وتلتصق بشجرة الكينا، أيُّ سرّ للكينا؟
ستترك مجلسها معه وأولادهم تحت شجرة البلوط بعد أن تعدَّ قطع اللحمة والسلطة ثمّ تنسحب وتجلس تحتَ شجرة الكينا ريثما ينتهي هو من شي اللحمة. يراقبها من بعيد وهي تتغيّر ملامحها، تدور حول الشجرة، تلمسها ثمّ تجلسُ على الصخرة المقابلة وعيناها لا تحيدان عن الشّجرة.
حينما تعود لمجلسها معهم سينظر إلى عينيها ويلمح فيهما ما يُفزعه:
" يلعن دين هالكينا! شو تعبديها إنتِ؟"
ستتحاشى النظر إلى عينيه، كما تتحاشى الردّ عليه.
سيوقف سيارته وهو عائد مع العمّال ويذهب مباشرة إلى شجرة الكينا. لن يسألوا، ونصفهم نائم ونصفهم لا يفكّر.
يدور حول الشجرة وتسقط روحه وهو يقرأ: وضحى وعليّ حبّ للأبد.
وقلوب محفورة في ساق الشجرة واسمان متلاصقان.
لم يسألها عن عليّ ولم تسأل عن الشرّ في عينيه. تقمّصت الموت بهدوء لا يليق بذبيحة.
في الوجوه المعزّية كان يبحث عن عليّ. 
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads