الرئيسية » , , » قصة | خوان مورانيا | خورخي لويس بورخيس | ترجمة مصطفى الرادقي

قصة | خوان مورانيا | خورخي لويس بورخيس | ترجمة مصطفى الرادقي

Written By هشام الصباحي on الأحد، 6 سبتمبر 2015 | سبتمبر 06, 2015

خوان مورانيا

خورخي لويس بورخيس

ترجمة مصطفى الرادقي


لقد قلتُ مِرارا منذ عدة سنوات بأنني قد نشأت بمدينة باليرمو. يتعلق الأمر،أدركت ذلك 

الآن، بتباهٍ أدبي بسيط . والحقيقة،هي أنني قد كبرتُ على الجانب الآخرمن سياج حديدي 

طويل، في بيت يتوفرعلى حديقة، وداخل مكتبة والدي وأجدادي.في باليرمو حيث المُدية 

والقيثارة،مثلما أكدوا لي ذلك،تجوب أطراف الأزقة.في عام 1930،خصّصتُ دراسة عن 

جارنا كارييغوالذي يغني ويهيّج سكان الضواحي بغنائه. وقادتني الصدفة،بعد زمن قليل،إلى 

التعرف على إميليو ترابّاني.كنتُ ذاهبا إلى مورون فناداني ترابّاني باسمي،وكان يجلس قرب 

نافذة عربة القطار. مرّ بعض الوقت قبل أن أتمكن من تعرّفي عليه.لقد انقضت عدة سنوات 

منذ الزمن الذي كنا نتقاسم فيه نفس المقعد بإحدى المدارس الواقعة بزقاق ثاميس.أكيد أن 

روبيرتو غوديل يذكرذلك.لم تجمع بيننا أبدا علاقة مودة.وفرّق بيننا الزمن، وأيـضا لامبالاتنا 

المتبادلة.وأتذكرالآن،أنه هو مَن علمني مبادىء لغة القاع.وتجاذبنا إحدى المحادثات العادية، 

التي انصبّتْ على استعادة أحداث غيرمجدية،والتي أطلعتنا على موت أحد زملاء الدراسة 

الذي لم يعد سوى مجرد إسم في ذكرياتنا.فجأة قال لي ترابّانيــ لقد أعاروني كتابكَ عن 

كارييغو.إنك تتحدث فيه طوال الوقت عن الأطفال المنحرفين.لكن،قل لي يا بورخيس،ماذا 

يمكنُكَ أن تعرف عنهم؟نظرإليّ في هيأة مُروّعة.ــ لديّ أبحاث عنهم،أجبتُه.لم يدعني أتابع،وقال 

ليــ أبحاث؟ هي ذي الكلمة.أنا،لستُ في حاجة إلى أبحاث؛ هؤلاء الناس أنا أعرفهم عن 

قرب.وبعد صمت، واصلَ كما لو أنه يبوح لي بِسرــ أنا ابن أخ خوان مورانيا.من بين 

المتعاركين الذين عاشوا في باليرمونهاية القرن الماضي،كان مورانيا هوأكثرهم شهرة.ثم أضاف 

قائلاــ فلورنتينا،خالتي،كانت زوجته.هذه الحكاية يمكنها أن تفيدك.نوع من النبرة التشدقية 

التي تعبق بالفصاحة،وبعض الجمل الطويلة جدا،جعلتني أرتاب بأنها ليست المرة الأولى التي 

يحكي فيها هذه القصة.لم يعجب أمي دائما بأن تتزوج أختها بخوان مورانيا،الذي كان بالنسبة 

لها رجلا فاقدا للعواطف، وبالنسبة لعمتي فلورنتينا رجلا عمليا.وقد حَكوْا أشياء كثيرة حول 

العم خوان،بأنه كان ثملا في إحدى الليالي،فسقط من فوق مقعد عربته عند زاوية زقاق 

كورونيل،وشُجّت جمجمته على الحصى. كما قالوا أيضا بأن الشرطة تبحث عنه،وبأنه هرب 

إلى الأورغواي. أمي التي لايمكنها أن تعذب صهرها لم تشرح لي أبدا حقيقة الأشياء. كنت 

شابا جدا،ولم أحتفظ بأية ذكرى عنه.حوالي سنة اليوبيل الماسي،كنا نقطن بممر روسيل،في منزل طويل وضيق.وكان الباب الخلفي الذي يغلق دائما بالمفتاح يطل على شارع سان سالفادور.وفي غرفة توجد بتسقيفة البيت كانت تعيش خالتي.كانت امرأة متقدمة في السن،وبدأت تفقد عقلها بعض الشيء.كانت نحيفة وعَظْميَة،وكانت،أو على الأقل كما كانت تبدو لي، كبيرة جدا،وقليلة الكلام.وكانت تخشى التيارات الهوائية،لاتخرج أبدا،ولا تسمح لنا بدخول غرفتها.وفاجأتها أكثر من مرة وهي تختلس أو تخفي الطعام. يتداول الناس في الحي بأن موت أو اختفاء مورانيا هوالذي سبب جنونها.كنت أراها دائما وهي ترتدي لباسا أسود. كما اعتادت أن تُكلم نفسها.كان المنزل في ملكية المسمى م . لوتشيسي، وهو حلاق بحي باراكاس. كانت أمي خياطة بالبيت. وظروف الحياة آنذاك صعبة.كنت أسمع كلمات تقال بهمس عون قضائي، حجز،أجَل الإستحقاقات، دون أن أفهم معناها. وكانت أمي تشعربحزن عميق، بينماخالتي كانت تردد بإصرار لن يسمح خوان لهذا الإيطالي بأن يطردنا. وذكّرتْ بقصةٍ ــ كنا نعرفهاعن ظهرقلب ــ لرجل وقح قدِم من جنوب البلاد، وتجرّأعلى التشكيك في شهامة زوجها.هذا الأخير،وعندعِلمه بالأمر،توجه إلى الطرف الآخرمن المدينة، وبحث عن غريمه،ثم سوّى مشكلته معه بطعنة سكين،ورماه في نهر ريّاكويلهو. لاأعرف فيما إذا كان هذا الحدث حقيقيا؛ ما يهم الآن، هوأن هذه الحكاية قد رُوِيَت، وتم تصديقها.كنتُ أرى نفسي نائما في الأراضي المهجورة بشارع سيرانو،متسولا أو بائعا لثمار الزليق في سلة.هذا الحل الأخيركان يغريني لأنه كان سيعفيني من الذهاب إلى المدرسة.لاأعرف كم من الوقت دام كدرُنا.قال لنا المرحوم أبوك يوما بأنه لايمكننا قياس الزمن بالأيام مثلما نُعد النقود بالسنتيمات أو البيسوس، لأن قطع البيسوس كلها متشابهة بينما كل يوم هومختلف، وربما كل ساعة.لم أفهم جيدا ما كان يقوله،لكن عبارته هذه ظلت منقوشة في ذاكرتي.في إحدى تلك الليالي حلمت حلما تَحوّل إلى كابوس.حلمت بالعم خوان. لم أكن أبدا أعرفه، ولكني كنت أتخيله هنديا خلاسيا، قويا، ذا شارب خفيف وشَعرطويل. كنا متجهين إلى الجنوب عبر المراعي الشاسعةوالأدغال،لكن هذه المراعي والأدغال كانت أيضا شارع ثاميس.في حلمي كانت الشمس عالية في السماء.وكان العم خوان يرتدي بدلة سوداء.وتوقف قرب بناء يشبه صقالة،في رواق ضيق.ثم وضع يده داخل سترته،عند مستوى قلبه،ليس كمن يريد أن يخرج سلاحا،ولكن كمن يريد إخفاءَه.بصوت حزين جدا قال لي لقد تغيرتَ كثيرا.أخرج يده فرأيتُ مخلب نسر.فاستيقظتُ وأنا أصرخ في الظلام.في الغد،أجبرتني أمي على مرافقتها عند لوتشيسي.كنت أعرف بأنها ستطلب منه مهلة؛ أتتْ بي دون شك لكي يتفهمَ دائنُها قلقها.لم تقلْ شيئا لشقيقتها بهذا الشأن، إذ كانت لن تسمح لها بأن تُهان على ذلك النحو.لم يسبق لي أبدا أن كنت في حي باراكاس؛إذ ظننتُ أن هناك سُكانا كثيرين،وحركة سير مكتظة،وقليلا من الأراضي المهجورة.لما انعطفنا عند زاوية الشارع، شاهدنا عدة وكلاء وتجمهُرا أمام الرقم الذي كنا نبحث عنه.كان أحد الجيران يردد من جَمْع إلى آخربأنه حوالي الساعة الثالثة صباحا استيقظ على وَقْع طَرَقات بباب لوتشيسي؛ لقد سمع الباب وهويُفتح،وأن أحداً ما يَدخل.لا أحد قام بإغلاق الباب؛وفي الفجر تمّ العثور على لوتشيسي مُمدّدا عند المدخل،نصفَ عارٍ. لقد قُتل بطعنات سكين. كان الرجل يعيش وحيدا؛ ولم تعثر الشرطة أبدا على القاتل.لم تتم سرقة أي شيء. أحدهم ذكّر بأن الفقيد، في الآونة الأخيرة،قد فقدَ تقريبا حاسة بصره. أحد آخر قال بنبرة حاسمة لقد حلّت ساعته. هذا الحُكم ونبرة الصوت أثاراني؛ ولاحظتُ فيما بعد، بأنه في كل مرة يموت فيها شخص ما،ه ناك دائما أحد ما ليقومَ باكتشاف ذلك.أهل الفقيد، أثناء تقديم العزاء، دعونا لشرب القهوة، فاحتسيتُ فنجانا. في الثابوت،كان ثمة وجه من الشمع مكان الميت. أبلغتُ أمي بالأمر.ضحك أحد موظفي شؤون الجنائزوشرح لي بأن هذا الشكل الملبّس بالسوادهولوتشيسي. نظرتُ إليه كالمذهول. وكان على أمي أن تجذبني من ذراعي.أثناء عدة شهورلم نكن نتحدث في أي موضوع آخر.كانت الجرائم آنذاك نادرة؛ فكّروا في الضوضاء التي أحدثتها قضية ميلينا،كامبانا وسيليتيرو. الشخص الوحيدفي بوينوس أيريس الذي لم تقف شعرة واحدة في رأسه كانت الخالة فلورنتينا. كانت تُردد بإلحاحِ كبارالسن لقد قلت لكم بأن خوان لن يسمح للإيطالي بأن يرمينا في الشارع.ذات يوم هطلت الأمطار بغزارة.وبما أنه لايمكنني الذهاب إلى المدرسة،قمتُ بتفقد أركان البيت. صعدتُ إلى التسقيفة.كانت خالتي واقفة هناك، ويداها مشبوكتان؛ أدركتُ أنها لاتفكرفي أي شيء. الغرفة بها رائحة الغَلْق. في إحدى الزواياسرير حديدي،ومسبحة معلقة على أحد القضبان. وفي زاوية أخرى صندوق خشبي خاص بالملابس. وعلى أحد الجدران المبيّضة بالجيرعلقتْ أيقونة العذراء كارمل. وفوق منضدة وُضع شمعدان.بدون أن ترفع عينيها،خاطبتني الخالة قائلةــ أعرف سبب مجيئك إلى هنا. إن أمك هي التي أرسلتك. وهي لاتريد أن تفهم أن خوان هو الذي أنقذنا.ــ خوان ــ جازفتُ بالقول. لقد مات خوان منذ عشر سنوات.ــ خوان موجود هنا، قالت لي. أتريد أن تراه؟فتحتْ دُرجَ المنضدة وأخرجتْ منه خنجرا.وتابعت بصوت هادئــ هو ذا.كنتُ أعرف بأنه لن يتخلى عني أبدا. لم يوجد فوق الأرض رجل مثله على الإطلاق.إنه لم يترك للإيطالي الوقت لكي يقول أوف.عندئذ فقط،أدركتُ بأن هذه الخرقاء البائسة هي مَن قتل لوتشيسي. مدفوعةً بالحقد،والجنون وربما، مَن يعلم، بالحب،تسلّلتْ من الباب الخلفي، واجتازتْ تحت جُنْح الليل شوارعَ وأزقة، عثرتْ أخيرا على البيت،وبأيديها العَظْمِيّة الكبيرة غرزَتْ الخنجر في جسم الرجل. كان الخنجر هو مورانيا، هو الرجل الميت الذي استمرتْ في حبه.لم أعرف أبدا فيما إذا كانت قد باحتْ بالحكاية إلى أمي. لقد فارقتْ الحياة قبل طردنا بقليل.إلى هنا انتهت رواية ترابّاني الذي لم أره قَط بعد ذلك.في حكاية هذه المرأة التي بقيتْ وحيدة، وخلطتْ بين زوجها،نَمِرها، وهذا السلاح القاتل الذي تركه لها، سلاح الجرائم،أعتقد أنني أستشف رمزا أو بالأحرىعدة رموز. كان خوان مورانيا رجلا يتسكع في الشوارع المألوفة عندي، هو الذي أحاطَ بما يَعرفُه الرجال،الذي جرّب طعم الموت،والذي صار لاحقا سِكينا،ثم ذكرى سِكين،والذي لن يُصبح غدا سوى نسيانا،النسيان الإعتيادي

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads