الرئيسية » , , , , , , , » تشارلز بوكوفسكي... المزحة القاتلة | محمد الخضيري | زياد عبد الله

تشارلز بوكوفسكي... المزحة القاتلة | محمد الخضيري | زياد عبد الله

Written By هشام الصباحي on الأحد، 6 سبتمبر 2015 | سبتمبر 06, 2015

لا يريدها قصائد تلك التي كتبها الشاعر الأميركي تشارلز بوكوفسكي (1920 ــــ 1994)، بل نداءات استغاثة لرجل يتمشى في الشارع، وقد قطع عضوه: «رجل لا مثيل له/ نشيد الحرية الذي لم يحشر بين مقالات عن الحفلات ونتائج البيسبول/ ليباركه الله أو أحدهم». إنها ترانيم أيضاً لكل السفلة في العالم «وأنا على رأسهم» كما يؤكد: «قصائد كتبت قبل القفز من نافذة الطابق الثامن» للعاهرات والراهبات، للممرضات ومصارعي الثيران، لمراهني الخيل وسائقي الشاحنات أصحاب العضلات المفتولة، وسائقي الدراجات النارية في «فالي و«يست» و«بيكرزفيلد»...



«الذين أخذوا شهرتي وخرقوها/ وجعلوني أمص وحدتهم وجنونهم/ وحلمهم بالروح البيضاء «الكاديلاك»/ والروح السوداء «الكاديلاك»/ وحشروه في مؤخرتي وفي منخريّ وفي أذنيّ/ وأنا أقول الشيوعية، الشيوعية/ فكشّروا وعلموا أني لم أكن أقصد».


ما من وصفات جاهزة لتتبع مسيرته الأدبية. هناك ما يمنع من اتباع نقد صارم. أدبه أشبه بمزحة قاتلة تقود إلى انغماس كامل للفن في الحياة، والحصيلة سجل هائل من الحيوات والمشاهدات، من القصص التي تمتزج بالشعر والعكس صحيح. معه تمسي الرداءة أجمل ما قامت به الإنسانية، والفشل معبراً أكيداً إلى الحقيقة. هو كما هوسه برهانات الخيل، يؤمن بأن عليك أن تراهن وتكسب لأن أي سافل قد يكون خاسراً جميلاً.
كُتب بوكوفسكي الخمسون ليست إلا حياته على دفعات. والده الذي كان يضربه ليل نهار، حاضر دوماً. حين مات، قال عنه «لقد مات شكراً لله». أمه لا تعني له شيئاً، وكل النساء لديه شبيهات بجين كوني أول امرأة وقع عليها، وكان ما إن يفارقها، حتى تكون في سرير رجل آخر. كتب عنها أجمل قصائده، وحين ماتت «منهوشة بالسرطان»، أراد إعادتها إلى الحياة كسمكة في حوض أسماك. أما زوجته الناشرة بربارا فراي، فقد كانت «من دون رقبة» ولقّبها «المليونيرة». وتحضر في النهاية ليندا لي آخر نسائه التي سدد لها ركلة لعينة أثناء لقاء تلفزيوني.


شاعر التستوستيرون المتأجج قادر على أن يكون برقّة فراشة. يحمل مرآة كبيرة ليعكس كل ما هو عابر فيمسي خالداً. ينجح ـــــ تحديداً في شعره ـــــ في تغييب الخطوط الفاصلة بين النقاوة والبذاءة، بين الرقة والقسوة، وكل شيء بإفراط، ودوافعه كامنة في «القرف والفرح» حسب تعبيره، و«الفرق بين شاعر جيد وشاعر رديء هو الحظ».
غياب الخطوط الفاصلة يمتد إلى ما بين الأصناف الأدبية التي كتبها. المحاولات المضنية التي تكبدها كتّاب سيرته، بدت لا شيء أمام أدبه الذي يأتي بيوغرافياً دوماً، لعلّ أهمها «تشارلز بوكوفسكي: محبوساً بين ذراعي حياة مجنونة» للإنكليزي هاورد سونس.
في روايته Ham On Rye المتأثرة برواية سالينجر «الحارس في حقل الشوفان»، نجده يتكلم عن عائلته: «لا يبدو أن هؤلاء الأشخاص سعداء سوية. كانت إيميلي جدتي أم أبي. اسم أبي كان هنري. أمي اسمها كاثرين. لم أخاطبهم بأسمائهم، كنت هنري الصغير. هؤلاء الأشخاص يتكلمون الألمانية معظم الوقت وأنا كذلك في بداية الأمر. أول ما أتذكره مما كانت جدتي تقوله كان «سأدفنكم جميعاً»».


تمرُّد بوكوفسكي وجنونه آتيان من مراهقة انطوائية محاصرة بحبّ شباب غزا وجهه. وجد في القراءة والاستمناء كل عالمه، ومكتبة لوس أنجليس العامة ملاذه حيث راح ينغمس بدوستويفسكي وهمنغواي وسيلين، ويلتهم كل ما يقع عليه، إلى أن قرأ رواية جون فانتي «اسأل الغبار» التي كانت نقطة تحول في حياته. وجد نفسه في بطلها ارتورو بانديني، بينما أحداثها تجري في «بانكر هيل»، وهو مجمع سكني لا يفصله سوى شارع عن المكتبة التي كان يقرأ فيها بوكوفسكي.
تتّبع حياة بوكوفسكي جنباً إلى جنب مع أدبه، هو المدرسة النقدية الوحيدة التي ينصح بها لدى تناوله، كالقول إنه واصل الكتابة لئلا ينتحر. هو لم يسمع «عواء» آلان غينسبيرغ، ولم يجد في «على الطريق» جاك كيرواك إلا ما يمتهنه، متنقلاً من ولاية إلى أخرى. مع ذلك، يمكن لطيف هنري ميللر أن يحوم في أرجاء أعماله من دون استسلام بوكوفسكي لأي غوايات فلسفية وتاريخية.
بوكوفسكي شاعر القنينة. كان الكحول بالنسبة إليه كالحليب للرضيع. كتب بوصفه ساعي بريد، أو عاملاً في مسلخ، أو سائق شاحنة وغيرها من مهن كثيرة عمل بها. وحين بلغ شهرته في الخمسين، راح يمضي خلف رفاهية هبطت عليه من حيث لا يدري. مع ذلك، بقي التكلف الفني عدوه بوصفه «السمة المضجرة التي أوشكت على تدمير الفن طوال قرون»... وإن كان والت ويتمان كتب «أغنية نفسي»، فإنّ كل ما كتبه بوكوفسكي هو أغنيةُ نفسِه المحبة والناقمة، الجامحة والمروضة في مواجهة عالم رديء كان صديقنا يجابهه باللكمات والعناق في في آن واحد.

زياد عبد الله



سيرة

في 16 آب (أغسطس) 1920، أبصر تشارلز بوكوفسكي النور في أندرناخ في ألمانيا. كتابه الأول «يوميات عجوز مقرف» (1969) كان عبارة عن قصص صغيرة ومذكرات، حقّق له الشهرة، فاستحقّ اعتراف جيل «البيتنيكس». مع ذلك، بقي الشاعر الأميركي يرفض تصنيفه ضمن هذا التيار. عام 1966، كان جون مارتن قد أسّس دار Black Sparrows Press بنية نشر الكتّاب الطليعيين، وأولهم بوكوفسكي. هكذا، ارتاح هذا الأخير من مهنة ساعي البريد، وكرّس وقته للكتابة. وكانت خلاصة تجربته تلك قد تجلّت في روايته «مكتب البريد» (1971) التي وصف فيها يوميات موظّفي البريد. تلاه عام 1977 كتاب «نساء»، رواية بورنوغرافية شبه أوتو ـــــ بيوغرافية تسرد علاقاته مع النساء. نال حفاوة كبيرة في فرنسا، ونقل ماركو فيريري روايته «قصص الجنون العادي» إلى السينما. منزله في لوس أنجليس تحوّل متحفاً عام 2008، بعد 14 عاماً على رحيله.



عاشق النساء ومغلوبهن
«لماذا تُسرف في الشراب؟ تسأله إحدى القنوات البلجيكية التي جاءت لوس أنجليس في الثمانينيات لإعداد بورتريه عن تشارلز بوكوفسكي. ينظر إلى الكاميرا وقنينة البيرة في يده: «أزهار الحديقة كانت من نصيب الجميع. وكان قدري الأعشاب الضارة» (يقصد النساء)، قبل أن يردف: «أشرب لأتحملهن». قد يبدو صاحب «الحب كلب من الجحيم» كارهاً كبيراً للنساء، لكنّها كذبة أخرى من أكاذيبه الشعرية. لقد كان عاشقاً كبيراً قدره أن يكتب عن الحبّ كأي خاسر كبير في حروبه. الدليل؟ خلال لقاء في إحدى جامعات كاليفورنيا، التقى مطولاً شعراء آخرين واطلع على أعمالهم لينتهي إلى «أنّني لا أرى حولي كُتّاباً لأنكم يا أصدقائي، لا تعرفون ما هو الحب». خبِرهن جميعهن. المومس، والطالبة، وامرأة الأعمال، الفنانة والشاعرة والسوقية. البدينة والنحيفة والعذراء والقديسة والداعرة. كتب عنهن أيضاً بأحشائه، وأبكينه. كان يؤلّه هذه المخلوقات ويحتقرها. يتعامل ببرودة وربما بكراهية للنساء حين تخبره حبيبته النحاتة ليندا كينغب أنّها أجهضت. ولا يجد سوى إجابتها بأنّه دعا باميلا إلى بيته من أجل ممارسة الحب وشرب الشمبانيا.

لكن ها هو يبكي كطفل صغير بعد وفاة حبيبته الأولى جين كوني. وتغزو رأسه الأفكار الانتحارية. يكتب عنها بألف طريقة. يسمّيها بيتي في رواية «مكتب البريد»، لورا في «فاكتوتوم». التقاها عام 1948. كان يبلغ 28 عاماً وهي 38. كان قد أصبح مدمن كحول، وهي كذلك. عاشا معاً حياة التشرد والإدمان. وحين توفيت، كاد يجن. كتب الكثير من القصائد عنها. وبعد عقود، ظلّ يتحدث عنها بالألم ذاته، وخصوصاً في الشريط الوثائقي «شرائط بوكوفسكي» (1987).
لنعد إلى باميلا. كانت صهباء وكانت بعدم اكتراثها بأدبه وإدمانها المخدرات عاصفة أخرى في حياته. عشق شعرها الأحمر الناري الذي ألهمه بعض النصوص. راقصة التعري كانت جافة معه. لم تظهر له مشاعرها، وكان هذا يغضبه. في أحد غياباتها المتكررة عنه، كتب قصيدة شبّه فيها نفسه بالجيوش النازية التي كانت قريبة من النصر قبل أن تُهزم. وحين رحلت، قال إنّ عليه أن يدخل الحداد.
مع جين، خبر التشرد والضياع. مع ليندا كينغ حاصرته بدايات الشهرة. كانت علاقة متوترة ومجنونة.
أما ليندا لي (تصغره بـ25 عاماً)، فقد غيّرت حياته. التقاها عام 1976، وهو في منتصف الخمسين. علم أنها ستغير الكثير في حياته العاصفة، وانطلق في حمى كتابة «نساء». في هذه الرواية، يحضرن كلهن. طيبات وغاضبات. يضعنه في مواقف حرجة وينقذنه في أخرى. كن ملائكته في مدينة الملائكة لوس أنجليس... وكن جحيمه أيضاً!

محمد الخضيري



■ (مختارات شعريّة مترجمة لبوكوفسكي 
* نعم نعم
عندما خلق الله الحب لم يساعدنا كثيراً
عندما خلق الله الكلاب لم يساعد الكلاب
عندما خلق الله البغض صار جمَّ الفائدة
عندما خلقني الله فقد خلقني
عندما خلق الله القرد كان نائماً
عندما خلق الزرافة كان ثملاً
عندما خلق الأفيون كان منتشياً
عندما خلق الانتحار كان مكتئباً.

عندما خلقكِ مستلقيةً على السرير
عرف ما الذي كان يفعله
كان ثملاً ومنتشياً
وفي الوقت نفسه
خلق الجبال والبحر والنار

ارتكب بعض الأخطاء
لكن عندما خلقكِ مستلقيةً على السرير
ساد على كونه المبارك.

=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-

* حديقة الحيوان

الفيلة متعبةٌ ومكسوةٌ بالطين
ووحيدو القرن لا يتحركون
الحُمُر الوحشية سويقات بلهاء ميتة
والأسود لا تزأر
الأسود لا تبالي
النسور متخمة
التماسيح لا تتحرك
وثمة قرد من نوعٍ غريب،
نسيت الاسم،
كان على رفٍ هناك، هذا الذكر،
اعتلى الأنثى وقذف واحداً،
انتهى،
ارتمى على ظهره مكشراً عن أسنانه،
ثم قلت لصديقتي،
لنمضِ، أخيراً حدث شيء.

في بيتي تحدثنا عنها

حديقة الحيوان مكانٌ كئيب، قلت،
نزعتُ ثيابي.

فقط هذان القردان بدوا سعيدين، قالت،
خرجت من ثيابها

هل رأيت النظرة تلك على وجه القرد؟
سألت.
عما قليل ستبدو مثله، قالت.
لاحقاً
رأيت قرداً من نوعٍ غريب
في المرآة. وتساءلت
عن الزرافات ووحيدي القرن،
والفيلة، خاصةً الفيلة.

علينا العودة إلى حديقة الحيوان مرةً أخرى.

=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=

حياة بورودين*

في المرة القادمة عندما تستمع لبورودين
تذكر أنه كان كيميائياً فحسب
ألّف الموسيقى ليرتاح،
كان بيته مكتظاً بالناس:
طلاباً، فنانين، سكيِّرين، معربدين،
ولم يتعلم أبداً كيف يقول:لا.
في المرة القادمة عندما تستمع لبورودين
تذكر زوجته التي استعملت مؤلفاته
لفرش علب القطط
أو لتغطية مرطبانات الحليب الفاسد
كانت تعاني من الربو والأرق
وتطعمه بيضاً نصف مسلوق
وعندما يود إخماد الأصوات في البيت
تسمح له فقط باستعمال الملاءة
إضافةً إلى كون أحدهم في سريره عادةً
(كان كلٌّ لوحده ينام هذا إن ناما)
وبما أن كل الكراسي استولي عليها
غالباً ما نام على الدرج
ملفوفاً بشالٍ مهترئ
كانت تخبره متى يقلِّم أظافره
وألا يغني أو يصفر
أو أن يضع الكثير من الليمون في الشاي
وألا يعصرها بملعقة.

السيمفونية الثانية، مينور B
الأمير إيغور
على أبواب آسيا الوسطى.

لم يكن بمقدوره النوم
ما لم يضع قطعةً من القماش الأسود على عينيه.
في عام 1887 حضر حفلةً راقصة
في الأكاديمية الطبية
مرتدياً زي مهرجٍ شعبي،
في النهاية بدا مرحاً على غير عادته
وعندما سقط على الأرض
ظنوا أنه يهرج.
في المرة القادمة عندما تستمع لبورودين
تذكر...

ترجمة:  زياد عبد الله

المصدر: الأخبار

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads