الرئيسية » » أرنالدو كالفيرا الأرجنتين ترجمة : صباح زوين

أرنالدو كالفيرا الأرجنتين ترجمة : صباح زوين

Written By هشام الصباحي on السبت، 15 أغسطس 2015 | أغسطس 15, 2015

حديقة ذات أجنحة

التقيت الشاعر الأرجنتيني أرنالدو كالفيرا في باريس سنة ،١٩٩٢ وكان موعدنا في ساحة سان سولبيس، كان الوقت ظهرا، والفصل صيفا أو ربيعاً، والشهر حزيراناً، والمناسبة احتفاءً بالشعر كما جرت العادة والتقاليد، كل سنة، في هذه الساحة الباريسية. كنت قد تلفنت له من لاروشيل، واتفقنا على موعد. قلت له كيف سأعرفك، قال » إني متوسط القامة، شبه أصلع، أزرق العينين«. وصلت الى باريس في القطار السريع، وفي رأسي حيرة إذ هذا الوصف لا يكفي، لكني حدست به ولم أخطىء! هذا اللقاء كان الوحيد، اما المراسلة فكانت قائمة بيننا منذ النصف الثاني من الثمانينيات واستمرت حتى منتصف التسعينيات، على أساس اهتمامي بكتابته الجميلة، وقد بدأت أقرأه قبل أن اراه، ولا أزال. شدتني اليه لغته المختزلة، المقتضبة، الصلبة، الصعبة، ولكنها في كل الأحوال قائمة على جمالية خاصة ومفعمة شعراً.

وُلد كالفيرا سنة ١٩٢٩ في ولاية إنتري ريوس في الأرجنتين. سنة ١٩٤٤ نشر أول كتاب له تحت عنوان »وُلدَ رجل «، على نفقة والدته، لكنه لاحقا ألغى هذا الكتاب من أعماله. سنة ١٩٤٩ تعرف الى الشاعر كارلوس ماستروناردي الذي تحوّل في ما بعد الى الشخصية الأساسية في بلورة الكاتب الذي سيكونه كالفيرا لاحقاً. سنة ١٩٥٠ درس الأدب في كلية العلوم الإنسانية في جامعة بوينوس أيرس. سنة ١٩٥٩ قام بأول زيارة الى فرنسا حيث تسنى له التعرف الى الكاتب غايتان بيكون الذي كان يتولى، بعد أندريه مالرو، المنصب الثاني في وزارة الثقافة الفرنسية آنذاك. في السنة ذاتها نشر أول مجموعة »رسائل كي الفرح« حيث كتب »بلغة جريئة، أي تجريبية، غارفا الموسيقية الشعرية من عالم طفولته«، كما يقول نقاده. سنة ١٩٦٠ سافر الى باريس مرة ثانية بمنحة لكتابة أطروحة الدكتوراه عن موضوع التروبادور، ومنذ ذلك الحين استقر في باريس ولم يتركها الى اليوم. وفي السنة ذاتها سافر الى روما حيث تعرف على جيوزيبي أونغاريتي، أحد أهم الشعراء الإيطاليين في القرن العشرين. سنة ١٩٦١ التقى بخوليو كورتاثار ونشأت بينهما صداقة متينة ودائمة.

سنة ١٩٦٩ نشرت دار غاليمار عمله المسرحي »موكتيثوما«. سنة ١٩٧١ تعرف في بريطانيا على المخرج المسرحي بيتر برووك. سنة ١٩٨٣ و١٩٨٥ نشرت له دار أكت سود كلا من »رسائل كي الفرح« و»إيغوانا إيغوانا« ( وهو الكتاب الأول الذي قرأته له، سنة ١٩٨٨ ).

الباحثة الأرجنتينية كريستينا كامبو لاحظت أن من كان محظوظا مثل كالفيرا في أن يولد وينشأ في الريف، سوف يحمل طوال حياته ذلك الشعور بلغة سرية. ومما تقوله أيضا، إن هذا صحيح جدا أن كالفيرا لم يتخل إطلاقا عن مشهد إنتري ريوس مسقطه، تلك الأرض الأولى التي تخلق العلاقة العدنية التي تربطه باللغة. فكل ما يسميه يبدو وكأنه يُسمى لأول مرة. انها لغة آتية من بعيد جدا، من أقصى الداخل. وفي تعبير آخر، انها اللغة الممكنة الوحيدة بغية الوصول الى تكثيف شاعريته: في وقت متحرك ومفاجئ من هذا النوع، فكل كلمة تستعيد بحميمية وألم، ما لم يعد موجودا . الأمر يتعلق بحركة الذاكرة التي تنغلق كدائرة على الجذور، وتقبض للأبد، تلك الأشياء الهاربة جدا، والشبيهة جدا بالضوء.

أما الناقد ماتياس سييرا برادفورد، في »جريدة الشعر«، فيقول: »في كل عمل من أعمال كالفيرا، نرى ان الشاعر يتبع خيوط حبكةٍ ما، ويجول فيها حتى إنهاكها؛ من ناحية أخرى، ليس من تطور في كتبه، تماما كما ليس ثمة تطور من فيرجيل الى بينييرا. فالنوع الأدبي الذي ابتكرته كتب كالفيرا يبدو وكأنه طالع من سؤال الا وهو: أين تنتهي القصيدة وأين تبدأ الحكاية. ثم يأتي تفصيل صغير جدا بعد نهاية الكلمة الأخيرة ليتوضّح لنا اننا إزاء كتب كاملة متكاملة، تبدأ وتنتهي. ومع كتب من هذا النوع، أكثر من يلمع فيها هو القارئ«. هذه القصائد من كتابه:

»رجل لوكسمبورغ«

إنه يجهل لماذا ساعة العصر،
لماذا الجلوس،
لماذا الاندفاع الذي يحثنا على التركيز على الذات،
على التوقف، على الظهور امام الأوراق،
على التسكع، تقريبا الاختفاء، البروز ثانية، الإغماء، استعادة الوعي،
الصعود، الصعود مجددا عن طريق ثغرة النورـ مضيقٌ مُسالمٌ ـ
من حيث يمكننا تهشيم الغروب.

الضجر يتسلل بين الأوراق
المتناثرة حول مرآة النبع،
التي داسها سرا هر او نمرٌ،
ومرة أخرى ثمة عنصر من عناصر الطبيعة في الجو،
قد نفتقده.

* * *

»إني نافورة الينبوع،
قبالة الغيوم المتسكعة،
مَنجَمُ فانتازيات في الهواء الطلق.
كما سكان القبور، مقابل باقةٍ،
وبلياقة الزهرة،
أسلّي الأحياء بمخيّلتي«.

حدائقٌ حرثناها للتو.
تنفسُ شجر الكستناء اللاهث.

« نافورة الينبوع، هي أنا.
مَنجَمُ فانتازيات.
امام حشد من الغيوم،
أسلّي،
سكان القبور،
مقابل باقةٍ،
من خلال هجمة الأعشاب«.

هذا ما همسَ به.

* * *

حديقة ذات أجنحة.

إنه يجهل قوانين المدينة
حيث أخذه القدر،
منبعٌ للأبدية المُخترَعة،
وكاد أن يكون ظلا نقدّمه
للسماء الأكثر وسعاً،
سماء الحديقة.
ينبوعٌ اصطناعي، اللحظة في دائرة،
شكلُ الدائرة يرتفع، يرتفع ويهبط مجدداً،
الماء في كل هذا،
هكذا تكون المسودّة،
ويفيض،
هذه طريقته في ذكر حدائق الجنوب،
تلك التي جمالها لا يكلّ.

في هكذا مشهد، وأكثر من مرة،
كمن يضع صدفة على أذنه
لكي يسمع همسها،
إلا انه في النهاية خلط بينه
وبين إيقاع قلبه،
ينبوع انبثق من أرض الزمن المديد،
أبواب عندما تُفتح تذكّرنا بشذى الغابات.

* * *

كم من مرة، بينما كان تائها
في أحلامه،
رأى نفسه أمام الكثافة ذاتها،
كثافة الغابة،
اندفاعٌ من الصعب لجمه،
هفوة تلغيه من النزهة،
وتأخذه الى النور،
عند حافة البئر

حيث يكتسب،
ينبوع يقظٌ،
عدمَ الرؤية إزاء بعض الأوراق

وقد وصل للتو، وقد يكون عائدا
من أقاصي الأزمنة.

يعود
سكان أحد القبور
المجاورة للنهر،
والليل يجمعهم،
يهرعون الى تفتح زهرة ،
الى مقتل العشبة.

أدوية قادمة من الطفولة.

* * *

عند الغروب، ما يتبقى من نور.
مع انخفاض الأصوات
يستعيد مجددا أجواء الحديقة،
حديقة انحنت على العتبة،
على زنبقة ،
وهذا،

عندما لا تكون المصابيح
قد اُشعِلت كلها بعد
على سقيفة الأشجار.

هدأت موجة الرشق،
فحصَ الغصنَ الذي
عبره سوف يتحتم عليه
الانحناء في عمق الليل
ـ هي لحظته السرديةـ،
كلماتٌ من دون مقاطع لفظية،
مقاطع الساعة،
وزنة صغيرة من المعنى
تنقص في الهواء.

الناس الذين كانوا يتحدثون يقفون،
يتبادلون كلمة الوداع »أو روفوار«.

* * *

هل هو قادر على أن يخبرنا
عما يراه؟
نور المرآة الذي قد لا يعكس
الأشياء المرصودة للضياع؟
بطريقة شحيحة؟
الشوادر التي يستعيرها من العتمة؟
خطواته التي تمحوه والتي تمحو كل شيء؟
آخر المارّين الذين يقتربون؟
تلك الضحكات الغزيرة التي تصلنا
من قمة شجرةٍ لتندثر من ثم على الفور؟

أن نسرد يوما حكاية
نور تلك الحديقة،
وإن كان هذا هو الوقت،
شعورٌ بالوقت؟

مصابيح تعلقها يدٌ،
تحضيرات أعياد الريف
الأخضر دائما ولا شك،
حكايات تتواعد في قعر الأيدي
الموضوعة على الركبتين!
هل هو قادر على تعداد الأشجار الكبيرة
الواحدة تلو الأخرى،
والمطالبة بها من أجل هذه الحفلة،
تلك الهائلة، العائدة ؟

* * *

شبيهٌ بالكل،

رجلٌ مختبئ في أجنحة خياله،
يروح ويضيع في قعر مرآة .
كمن يعود من قلب الشمس،
يجتاز، خفيفاً،
الباب.
جالسٌ على كرسيه الذي في غير زمانه،
تقريبا في الظل،
تقريباً الغرفة التي خرجوا منها
دون أن يشعلوا المصباح

جالسٌ امام المنظر الطبيعي،
تلميذ رشق المياه،
بانتظار أن يلبس يوما
الضوءَ

شخوصُ القصيدة
تُركوا لمصيرهم

حديقة جامدة. الصورة تكسوها
الأطياف ـ
الأبّهة في أن نفكر بأحد.

* * *

ذاكرة متسوّل

عند أحد أبواب كاتدرائية بورغوس،
مضايقا إياه ليفتحه
ويجعله ينزف
جرحاً
عند الكتف اليسرى.

إنسانٌ،
ناسٌ غارقون في تفكيرهم،
كل واحد فيهم ينزلق
كظل زائد،
لكل واحد فيهم أحدٌ ما
بين الصدغين،
حزينة عيونهم لكثرة
مرافقتــهم كل واحدة من خطواته
وهي رافضة الوهم الذي هو،
بينما يتقدم في مشيه،
لا يستطيع سوى أن يحميه
بيديه.

* * *

كلمة في وجه المغيب

رشق المياه يستند
أكثر فأكثر الى الحائط الخارجي
للينبوع،
وقادر على سرد قصة،
غرابة أن يكون ترك ينابيع
الجنوب الفائق الجمال
من أجل هذا المغيب
الواقع في الهندسة الخاطئة،
قصيدة بدأها في دائرةٍ أخرى

وفي مجاورةِ الناردين،
مقطع لفظيّ مرصود
للرجل الجالس،
المقطع مُهدىً
الى الرغبة الأبدية.



التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads