رباعيات
صيرَك الحسن أميرَ الوجودِ | والشعر من درّاته كلّلكْ |
مستلهماً منك معاني الخلود | فكل تاجٍ في العلى منك لكْ |
فَنَاهِبٌ برقَ الثنايا العذابْ | وسارقٌ ياقوتهً من فمكْ |
وكل تغريد الهوى والشبابْ | أغْنيةٌ حامت على مبسمكْ |
*** | *** |
وذلك الماس الرفيع السنا | والجوهر الغالي الذي صِدْتُهُ |
أرفع من فكر الورى مَعْدِنا | وكل فضلي أنني ضُغْتُهُ! |
لا فكر لي، عشتُ على فكرتكْ | أقبس ما آقبس من غُرَّتكْ |
ودمعتي تقتات من عبرتكْ | فانظر بمرآتي إلى صورتكْ |
أشقاني الحبُّ وقلبي سعيدْ | يَعُدُّ هذا الدمع من أنعمكْ |
أجزل ما كافأ هذا الشهيدْ | بلوغُه المجد على سُلَّمكْ |
*** | *** |
لا شيء من يوم النَّوى منقذي | إني امرؤٌ عنك وشيك المسيرْ |
وأنت باقٍ والجمال الذي | غنّى به شعري ليومي الأخيرْ |
انظر إلى آيات هذا الجمالْ | ترتدُّ عنها عاديات البلى |
عاجزةَ الباع ويأبى الزوالْ | لوردةٍ مت عَدْن أن تذبلا |
للأنفس الظمأى إليك التفاتْ | ولهفةٌ ملءَ اللّحاظ الجياعْ |
ولي التفاتٌ لسريّ الصّفات | واللؤلؤِ اللمّاح خلف القناعْ |
قلبي مع الناس وفكري شَرودْ | في عالَمٍ رَحْبٍ بعيد الشِّعابْ |
عيني على سرٍّ وراء الوجود | وبغيتي عرشٌ وراء السحابْ! |
*** | *** |
كم طرت بي واجتزت سور الضبابْ | والضوء ملءُ القلب ملءُ الرحابْ |
وعدت بي للأرض أرض السَّرابْ | والليلُ جهمٌ كجناح الغرابْ |
أريْتُني الغيبَ الذي لا يُرى | كشفتَ لي ما لا يراء البصرْ |
ثم انحدرنا نستشفُّ الثرى | علّ وراءَ التُّرب سرَّ السفرْ |
صدري وسادٌ زاخرٌ بالحنانْ | تصوُّري أعجب ما في الزمانْ |
موج على لُجَّته خافقان | قَرَّا على أرجوجةٍ من أمانْ |
كمركب في البحر يومَ اغتربْ | ما أبعد المحنة بعد اقترابْ |
هيهات يُنْجِي من شطوط العذابْ | إلاّ عبابٌ دافقٌ في عبابْ |
*** | *** |
ملأتُ كأسي وانتظرتُ النديم | فما لساقي الرُّوح لا يُقبلُ |
شوقي جحيمٌ وانتظاري جحيم | أقلُّ ما في لفْحِهِ يتقلُ |
أنت كريمُ الودِّ حُلوُ الوفاءْ | فما الذي عَاقَكَ هذا المساءْ؟ |
وما الذي أخَّر هذا اللقاءْ | وحرَّم النبع وصدَّ الظِماءْ؟ |
*** | *** |
أذمّ هذا الوقت في بُطْئِهِ | آخرهُ يعثرُ في بَدْئِهِ |
تدقُّ فيه ساعةٌ لا تدورْ | وإن تَدُرْ فهو صراعُ اللغوبْ |
رنينها يقلق صمَّ الصدورْ | وطَرْقُها يقرع بابَ القلوبْ |
يا ذاهباً لم يشْف مني الغليل | ما أسرع العقربَ عند الرحيلْ |
هتفتُ قف لم يبق إلاّ القليلْ | وكلُّ حيٍّ سائرٌ في سبيلْ! |
*** | *** |
يومٌ تولّى أو ظلامٌ سجا | كلاهما بالقرب منك انتصارْ |
أأحمد اليوم تلاه الدُّجى | أم أحمد الليل تلاه النهارْ؟ |
إنْ نَوَّر النجمُ به مرَّةً | فإن إشراقَكَ لي مرّتانْ |
وكيف يُبقي الشكُّ لي حيرةً | ولي على برج المنى نجمتانْ؟ |
فهذه تلمع في خاطري | مِلءُ دمي إشراقُها والبهاءْ |
وهذه تُومِئُ للساهرِ | والليل صافٍ وأديم السماءْ |
*** | *** |
وهذه تجلو كثيف الغيومْ | وهذه تَدْرَأُ عني الهمومْ |
وتَمحق الحزنَ وتَأسُو الكلومْ | فما الذي أَجْرى دموعَ النجومْ؟ |
هيهات أنسى دُرَّة الأنجمِ | إليَّ من آفاقها ترتمي |
وفي جريحٍ أعزلٍ تحتمي | من أي هولٍ؟ هي لم تعلمِ! |
إنَّ ضلوعاً تحتمي في ضلوعْ | مقادرٌ ليس بها من رجوعْ |
أخلدُ أصفاد الجوى والنزوعْ | هوى الحزاني وعناق الدموعْ |
رضيت بالدهر على ما جَنَى | وأُبْتُ بالحكمة بعد الجنونْ |
ومرَّ يومي هادئاً ساكنا | وأَيُّ شيءٍ خادع كالسكونْ |
*** | *** |
أرنو إلى الصحراءِ حيث الرمالْ | نامت كأنَّ اللفحَ فيها ظلالْ |
يا ليت لي والدهر حالٌ وحالْ | من وقدةِ الإحساسِ بعض الكلالْ |
فأقبلِ الدنيا على حالها | مسلِّماً بالغدرِ في آلها |
وراضياً عنها بأغلالها | محتملاً وطأة أثقالها |
الرُّعْبُ سيّان بها والأمانْ | والحسنُ زادٌ سائغٌ للزمانْ |
والوهمُ في حالاتها كالعِيان | والحبُّ والكرهُ بها توأمانْ |
وَدِدْتُ لو قلبي كهذي القفارْ | أصمُّ لا يسمع ما في الديارْ |
أعمى عن الليل بها والنهارْ | وددتُ لو قلبي كهذي القفارْ |
وددتُ لو عنديَ جهلُ الثرى | تَعْمُر أو تقفر هذي البيوتْ |
غفلان لا يعنيه أمرٌ جرى | أيُولدَ الحيُّ بها أم يموتْ |
*** | *** |
وليلةٍ تمضي وأخرى وما | جئتَ فهل ألهاك عني أحدْ؟ |
ما ضاء من ليلاتنا أظلما | والسبت خَدَّاعٌ بها كالأحدْ |
يمتلئُ السطحُ على ضيقهِ | أنا الذي لم أدْرِ طعمَ الحسدْ |
وذلك (الجاز) وهذا النغمْ | منتقلاً بين الرضا والألمْ |
يحمل لي طيفَ خيالٍ قَدِم | تراه عيني في ثنايا حُلُمْ |
*** | *** |
في واحةٍ يرسو عليها الغريبْ | فكلُّ ما فيها لديه غريبْ |
وهكذا الدنيا خداعٌ عجيبْ | إذا خلت أيامُها من حبيبْ |
وهكذا يومٌ ويومٌ سواه | ينكرها القلبُ الصَّبورُ الحمولْ |
وهكذا يذهب طِيبُ الحياهُ | بين التمني واعتذار الرسولْ |
*** | *** |
هنا مِهادُ الحبِّ هل تذكرينْ | وها هنا بالأمس طاب السمرْ |
وتلك الأحلامُ الهوى والسنينْ | يحملها التيَّارُ فوق النهرْ |
والقمرُ الفضيُّ بين الغيومْ | يخفق كالمنديل عند الوداعْ |
يا حسرتا! هل صوّرتهُ الهمومْ | كالزورقِ الغارقِ إلاّ شراعْ |
قد جللته غيمةٌ عابرهْ | تسحبُ أذيالَ الأسى والندمْ |
وأغرقتهُ موجةٌ غامرهْ | فأطبق الصمتُ وَرَانَ العدمْ |
*** | *** |
ضممت أضلاعي على نعشِهِ | فلم يزلْ فيها لهاوٍ شعاعْ |
لأيّ غورٍ زالَ عن عرشِهِ | وغاص في اللجِّ إلى أيِّ قاعْ |
أرثي لحظِّ الأفق وهو الذي | يرمقُني بالنظرة الساخرهْ |
وتهرب الأنجمُ هذي وَذي | ويجثم الليلُ على القاهرهْ |
ويزحف الكونُ على خاطري | كأنه في مقلة الساهر |
سَدٌّ من الرُّعبِ بلا آخرِ | يعبُّ عَبُّ الأبدِ الزاخرِ |
*** | *** |
وفي ظلالِ الموت موتِ الوجودْ | وخلفَ أطلال البلىِ والهمو |
وبين أنفاس الرّدى والخمودْ | وتحت سُحْبٍ عابساتٍ وسودْ |
تدفعني عاصفةٌ عاتيهْ | تقصف من خلفي وقُدّامِيَةْ |
قد مزّقت روحي وآماليَهْ | وقرّبتْ لي طرَفَ الهاويةْ! |
تلمع في الظلمة أحداقُها | قد رحّبَتْ باليأس أعماقُها |
شافية النفس وترياقُها | مشتاقةٌ أقبل مشتاقُها |
*** | *** |
قد كان لي عندك عزُّ الذليلْ | وكان للآمال ومضٌ ضئيلْ |
يلمع في ظَنِّي قبل الرحيلْ | فانطفأ النورُ ومات القليلْ |
فداك يا جاهلةً ما بيَهْ | قلبي وأنفاسي الظمّاء الحِرارْ |
وكيف أنسى ليلتي الداميَهْ | ولهفتي أَلْهَثُ خلف القطارْ؟ |
وعودتي أجرع كأسَ الحياه | مُعاقِراً سُمَّ الفناءِ البطيءْ |
أُنْكِرُ أو أفزعُ ممن أراه | سيان من يذهب أو من يجيءْ |
*** | *** |
وليلةٍ فاضت بوسواسها | تعجبُ من إلْفَين بين البَشَرْ |
ذلك يعدو خلف أنفاسها | وهذه تتبع سير القمرْ |
تتبعه بين الرُّبى والشِّعابْ | تتبعه يسري خلال الحسابْ |
كم هَلَّلَتْ وهو يضيء الرِّحابْ | والتفتَتْ محسورةً حين عابْ |
*** | *** |
وذلك الطفل اللهيف الغيورْ | في فَلَكِ من ضوء ليلى يدورْ |
يقفو خطاها وهي بين الطيورْ | لها جناحان مراحٌ ونورْ |
كزورق يعبرُ بحرَ الوجودْ | له شراعان ولحظٌ شَرُودْ |
كم شرّقا أو غرّبا في صعودْ | وارتفعا حتى كأن لن يعودْ |
*** | *** |
ليلى ارجعي إني شقيٌّ كئيبْ | أهتف مفقودَ الهُدى والقرارْ |
يا هاته الأوطان إني غريبْ | وعالمي ليس هنا يا ديارْ! |
تركتني وحدي وخلفتني | أرزح تحت المبْكيات الثقالْ |
أنكرتِ ميثاقي وأنكرتني | أكُلُّ ماضينا وليد الخيالْ؟ |
*** | *** |
فرغت من أحلامه وانطوى | بِمُرّهِ وارتحتُ من عذبهِ |
الأمرُ ما شئتِ فذنب الهوى | على الذي يكفر يوماً بهِ |
كان إلى الله سبيلي وما | كان إلى الإيمان دَرْبٌ سواهْ |
وكان في جُرح الهوى بلسما | وكان عندي منحة من إلهْ |
مهما تكن ناري فإنّ الجحيم | أرأفُ بي من ظلم هذا البعادْ |
وربّ همّ مُقْعِدٍ أو مقيمْ | قد لطّفَتْهُ نسماتُ الودادْ |
*** | *** |
فخفَّتِ النارُ وقرَّ الهشيمْ | وعاودتني الذِّكَرُ الغابرهْ |
والنيلُ يجري هادئاً والنَّسيمْ | معربدٌ في الخُصَل الثائرهْ |
كم تهتف الأيامُ: خانت فَخُنْ | ويح حياتي إنْ تَخُنْ أمسها |
إن هنتُ هذا عهدُها لم يَهُنْ | ولا لياليها وإن تنسها |
تُهيب بي الفرصةُ قبل الفواتْ | ويعرض الصَّيدُ فلا أقنصُ |
إني امرؤ زادي على الذكرياتْ | وما غلا عنديَ لا يرخصُ |
ومطلبٍ في العمر ولَّى وفات | وكان همِّي أنه لا يفوتْ |
كأن فجراً ضاحكاً فيّ ماتْ | وملءُ نفسي مغربٌ لا يموتْ |
*** | *** |
في السّام الحيِّ الذي لا يَبيدْ | والأملِ الطاغي بأن ترجعي |
أجدِّدْ العيش وما من جديدْ | وأدّعي السلْوان ما أدّعي! |
كم خانني الحظُّ ولا انثني | أقضي زماني كلَّهُ في لعلْ |
وتقسم المرآة لي أنني | رَقَعْتُ بالآمالِ ثوبَ الأجلْ |
قد فاتني الصيفُ وخان الربيعْ | وكان همّي كلُّه في الخريفْ |
وما شَكاتي حين شملي جميعْ | وانت لي أيكٌ وظلٌّ وريفْ |
*** | *** |
والآن قد مزّق عندي القناعْ | موتُ الأباطيل وزحف الشتاءْ |
وبدَّد الوهمَ وفضَّ الخداعْ | بَرْدُ المنايا وشحوبُ الفناءْ |
وأَسِفَ القلبُ لكنزي الذي | غَصّتْ به أفئدة الحُسَّدِ |
صحوت من وهمي ولا كنز لي | قد صَفِرَتْ منها ومنه يدي |
أين زمانٌ مُكتسٍ يومُهُ | بالحبِّ مَوْشِي بحُلْم الغدِ؟ |
وربما رقَّ زمانٌ قسا | فانعطف الجافي ولان الحديدْ |
محقق الآمال أو واعدٌ | بفرحةٍ يوم لقاء وعيدْ |
فإن يَعِدْني ثار شكّي به | كأنما وعد الليالي وعيدْ! |
*** | *** |
وا آسفا هذا سجلٌّ كُتِبْ | خَطَّتْهٌ كفُّ القدَرِ المحتجبْ |
ففيم عَوْدِي لقديم الحِقَبْ | وفيم تَسْآليَ عمّا ذهبْ؟ |
ضاقت بنا مصرُ وضقنا بها | وكلُّ سهلٍ فوقها اليوم ضاقْ |
وضاقتِ الدنيا على رحبِها | أين نداماي وأين الرفاقْ؟ |
كفٌّ تَلُمُّ العمرَ والعُمرُ راحْ | وقبضةٌ تجمع شملَ الرياحْ |
لا حَبَبٌ باقٍ ولا ظل راح | ليلٌ تولَّى وتولَّى صباحْ |
هذا نهارٌ مات يا للنَّهارْ | كل مساءٍ مصرعٌ وانهيارْ |
مال جدارُ النورِ بعد انحدارْ | وغابتِ الشمسُ وراءَ الجدارْ |
*** | *** |
وذا مساءٌ صبغتْهُ الهمومْ | بلونها القاني وهذي غيومْ |
تحوم والظلمةُ فيها تحومْ | تبسط مهداً ليّناً للنجومْ |
كأن ثوباً في السماء احتراقْ | فلم يزل حتى استحال الأفقْ |
ظلُّ دخانٍ أو بقايا رمقْ | ولمَ يعُد إلاَّ ذيولُ الشفقْ |
وتزحف الظلماءُ زحفَ المُغيرْ | حاجبةً ما دونها كالسِّتارْ |
وكل حيٍّ وادعٌ أو قريرْ | ما اختلف الشأن ولا الحظّ دارْ |
العيشُ أمرٌ تافهٌ والمنونْ | والحكمةُ الكبرى بها كالجنونْ |
وهكذا نمضي وتمضي السنونْ | وهكذا دارتْ رحاها الطحونْ |
في شَجِّهَا حيناً وفي طَعْنِها | سينقضي العمرُ وأين الفرار؟ |
وثورةُ الشاكين من طحنِها | نوحُ الشظايا وعتابُ الغُبارْ! |