الرئيسية » » رَقَّ الحبيب | شعر/ عاطف عبد العزيز

رَقَّ الحبيب | شعر/ عاطف عبد العزيز

Written By Unknown on الاثنين، 17 يوليو 2017 | يوليو 17, 2017

رَقَّ الحبيب
شعر/ عاطف عبد العزيز

يونيو إذن أقسى الشُّهور:
البُخارُ معلَّقٌ،
والقميصُ مفتوح، 
وبلادي العرقانةُ تتعثَّرُ في سربالِها. 

سألتُ، 
عن بنتٍ قابلتُها صُدْفَةً في الزِّحامِ:
كان الممرُّ بين بنايتيْنِ،
وكنا عائديْنِ توًّا من الهُتافِ منهكيْنِ
وروائحنا واضحة.
لا أذكرُ الآنَ، 
كيف وصلَ الكلامُ بنا إلى بورخيس حتى 
تبادلنا العناوينْ، 
تبادلناها وسطَ الضَّجيجِ حريصيْنِ 
على المسافة.
لا أذكرُ، كيف انخرطنا بعدَها في الفُتور. 
من يومِها، 
بقيَتْ فتاتي في الغيابِ تنتظرُ منِّي 
كتابًا لبورخيس، 
أما أنا..  
فبقيتُ أنتظرُ انتظارَها بقلبٍ 
نصفُهُ فارغٌ،
وثلثُهُ مملوء.

إلى هنا، 
لم أرَ في الأمرِ ما يُثيرُ مخاوفي، 
وقد بِتُّ بمنأًى عن تصاريفِ النِّساء:
شَعري شائبٌ،
في جيبي شَريطُ الضَّغطِ، 
نظري كليلٌ،
وأحملُ معي حزني الخصوصيَّ ونسياني. 

لم أرَ في الأمرِ ما يُثيرُ مخاوفي، 
وقد بِتُّ أملكُ مدينتي تلكَ كلَّها، 
أملكُها فحسبُ، 
حين تُفيقُ من السُّكْرِ، 
وتذكرُ سحنتي.
بمقدوري، طيُّها تحتَ وسادتي في الليل،
وبسطُها في النَّهارِ تحت أقدامِ أصحابي. 
بمقدوري،
محْوُ كلِّ ممرٍّ هنا بين بنايتيْن،
لأنجوَ وحدي،
ويتوهَ بورخيس.

يونيو أقسى الشُّهور.
فتحتُ قميصي، 
وحيَّرَني شرودُ الباعةِ في السِّكك،
وإطراقةُ الشُّرفات.
فأخبروني بأن العساكرَ يعبرونَ الآنَ 
من ضفةٍ في الميدانِ إلى أخرى،
وبأنهم،
مشغولونَ بإنقاذِ الهواءِ الطَّلقِ 
من الفوضى،
وبغسلِ الحيطانِ من هلاوسِ الجرافيتي،
ومن لُهاث الموتى
ووميضِ الصّحافيين.
..
لم يكن أمامي حينَها، 
غير أن ألوذَ على الفورِ بملابسي 
ونظَّارتي 
وعلبةِ السَّجائر.

تمشَّيتُ قليلاً،
حتى رأيتُ طائريْنِ يخبَّانِ في ازرقاقِهما، 
كانا يلقطانِ شيئًا من السَّاحةِ، ثم يطيران.
تحيَّرتُ، 
فقالوا: 
هما للرُّعاةِ الذين يدقُّونَ الآن أوتادًا 
على سفحِ الدِّوِيقةِ،
ويغرسُون أثْلاً هناكّ وغرقدًا،
وينشرون جلابيبَ مبلولةً على أسلاكِ 
البرق.
..
لم يكن أمامي حينَها، 
غير أن أجمعَ أوراقي التي انتثرتْ
فوق بلاطٍ مُتَّسخْ.


تمشَّيتُ، 
دون أن أدري خلفَ أيِّ ناصيةٍ يُقعِي مصيري،
ومن أيِّ بوَّابةٍ مواربةٍ سوف يفجؤني الجواب.
لم أكُ خائفًا، 
سوى على النَّغمِ الذي ربيتُه في الجوِّ 
من عهدِ الهوى،
ودأبتُ على استعادتِه، كلَّما رجعَ الفؤادُ 
من سَفَرْ.
كأني حينَها، 
أفتِّشُ عن ثُغرةٍ بين رغاءٍ تدحرجَ إلينا 
من الكُثبانِ القريبةِ،
وبين دبيبِ البيادةِ على الأسفلت،
لا لشيءٍ إلا لكي يمرَّ القصبجيُّ بعُودِهِ إلى الغُرَف،
ويُدَوْزِنَ الوَتَر.

غيَّرتُ اتجاهاتي،
فوَصَلَ إليَّ هسيسُ رِجالٍ غريبينَ تحلَّقوا طاولةً 
في فجوةِ مقهى.
كانوا بِيضًا، 
وممشوقينَ كعيدانٍ، 
لكنني، 
شممتُ فيهم ريحًا غامضةً تُذكِّرُ بشكلِ 
الشَّمسِ في طفولتِنا
حين كنا نزورُ الجَبَّانات.
تحيَّرتُ، 
فقالوا: همُ السَّماسرةُ الذين نزلوا بخانٍ يطلُّ 
على دربِ المَرْجُوشِيّْ.
ثم قالوا، 
إن الرعاةَ قريبونَ من هنا، 
الرعاة يقيسونَ فِناءَ الأزهرِ، 
ويُحصُونَ أقواسَه.
وسوف يعاينونَ في الظهيرةِ 
قُبَّةَ القضاءِ
وحزبَ التجمُّعِ
وضريحَ السِّتِّ
وزهرةَ البستان.
..
ولم يكن أمامي حينَها، 
غير أن أجتازَ سقيفةً مُدَّتْ من 
جَريدِ النَّخلِ،
يتفيَّأُ ظلَّها المجروحَ إسكافيٌّ. 

إنه يونيو الذي داهمَ مدينتي السكرانةَ: 
البُخارُ مُعلَّقٌ،
والقمصانُ مفتوحةٌ، 
وأنا، 
أحملُ كتابًا صغيرًا في مديحِ الظِّلّ،
خطَّهُ بورخيسُ –ربَّما- من أجل مدينةٍ بعيدةٍ، 
سيموتُ دونَ أن يراها. 
خطَّهُ –ربَّما- لبنتٍ أتَتْهُ في المنامِ 
واستعصتْ عليه،
ثم طارت بملامحِها في تداولِ الفصولِ
مخالبُ الطَّير،
لتستقرَّ على مجرى العُيون.
.. 
هنا، 
وفي ممرٍّ تزحمُهُ الموائدُ بين بنايتيْن، 
أنتظرُ القاهرةَ التي لم تصحُ بعدُ من النَّوم،
أنتظرُ، 
والهُتافاتُ في الهواءِ الطَّلقِ تُوزِّعُ نفسَها بالعَدْلِ 
على العاشقين،  
معي كتابٌ وحزنٌ
وتميمةٌ لم تقِ القلبَ مرَّةً تصاريفَ النساء. 
أنتظرُ، 
وكلَّما ارتابَ بصَّاصٌ في وقفتي، 
ثم دارَ من حَولي،
قلتُ له: 
«ما حِيلتي، إذا رَقَّ الحبيبُ يومًا، وواعدَني؟!».
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads