الرئيسية » , » رسائل سارة عابدين ومروة أبو ضيف

رسائل سارة عابدين ومروة أبو ضيف

Written By هشام الصباحي on الاثنين، 19 ديسمبر 2016 | ديسمبر 19, 2016



الأطباء حولي مثل أعمدة إنارةٍ تُحيطُ بقطرة ماءٍ على الطريق، أعمدةٌ بلا وجوهٍ أو أجسادٍ، فقط ملابس زرقاء وكمَّامات تتحرَّك حولي بمقصَّاتٍ ومشارطَ لامعةٍ.
أنتَ تعلم أنني أخاف دائمًا-كلما وقفتُ أمام المرآة- مِن أن أفقد وجهي،فتحمل رقبتي شَعرًا منكوشًا بلا وجهٍ، وها أنتَ تُرسل لي معاطف زرقاء بلا وجوهٍ أو أجسادٍ.
أكتبُ اسمي ورقم هاتفي وعنواني على وجهي مع رسالةٍ قصيرةٍ، أرجو فيها مَن يجد رأسي أن يرسله إلى العنوان المُرفَق.
مكرهةٌ على الابتسام، قَبِلَتْ صغيرتي التي وَضَعَتْهَا أكمامُ المعطف الأزرق بالقرب مِن وجهي، الصُّداع لم تُعجبْهُ ابتسامتي المنهكة، اندفع مِن جديدٍ مِن الثُّقْبِ الصَّغير الذي صنعوه أسفل عمودي الفقري لِيُسافر داخل رأسي صارخًا فيَّ لأنام مِن جديدٍ...
الصُّداع مُرْهَقٌ مِن محاولاتي المستمرة للتخلص منه، يبكي في ركنٍ بعيدٍ مِن رأسي؛ لأنَّ بعض وظائفه لم تعدْ تعمل؛ يبدأ مِن جديدٍ في محاولاتٍ لشحن نفْسه ذاتيًّا مِن الثُّقْبِ الصَّغير أسفل عمودي الفقري، الثقب الذي نسي المعطفُ المتحرِّكُ أن يغلقه.
المُخدِّرُ يُثقل ساقي.المعاطف والكمَّامات مازلتْ تتحرَّك أمامي. يدي لا تقوى على تحسُّس وجهي الذي أشعر أنني أفقدُهُ.
الحليبُ يتدفَّقُ مِن صدري؛ ليرسم خرائطَ مُتداخِلةً على ملابسي؛ ليجعلها أكثر حميميةً، يرسمُ لي وجوهًا مُتعدِّدةً، أختارُ منها ما أريد، يغلق الثُّقْبَ أسفل عمودي الفقري؛ ليحبس الصُّداع داخل محبسه القديم، ينحت وجوهًا ملائكيةً للمعاطف الشرسة.
الحليب المُتسرِّبُ مِن ثديي يعرفُ أنك تُعطيني فرصًا أُخرى؛ لأبني فراشًا افتراضيًّا مِن القُبَلِ الصَّغيرة؛ لِأرقد فيه دون ألمٍ...
على كلِّ حالٍ، منذُ فترةٍ طويلةٍ لم أشكرْكَ...
شكرًا.

إلى سارة؛
أُرتِّب كلَّ هذه الضوضاء في سُلَّمٍ مُوسيقيٍّ جديدٍ
يحتمل غوغاء رأسي الغاضب
ويحتمل رائحة العمليات الكريهة.

لو أنَّ للموت رائحةً،أُقسم أنَّها ستكون هذه بالتحديد
مع قليلٍ مِن عطر أُمِّي
هذا الذي وضعتْهُ في ليلتها الأخيرة

إنْ كُنَّا نلدُأُناسًا سيموتون يومًا ما
ما الفارق إِذَنْ بين الميلاد والموت؟
وبما نُقايضُ الوقت؛ لِيمنحنا المزيدَ؛
فسحةً مِن الأحلام المؤقتة،
وبعضًا مِن اليقين بالبقاء؟

أنا أكرهُ كلَّ ما هو مُؤقَّتٌ وزائلٌ
يُرسِّخ إحساسي بعدم الأمان
ويدفعُني إلى الإسراع بالمغادرة؛
رُبَّما لهذا حاولتُ الانتحار أكثر مِن مَرَّةٍ
وتعلَّمْتُ الخسارةَ في أيِّ مقامرةٍ
أحببتُ الخاسرينَ والراحلينَ والخفيفينَ
ولِأنَّ العداوة بيني وبين الحياة أصيلةٌ
فشلتْ كلُّ المحاولات.

أعبر البوَّابة الفاصلة بقدمٍ واحدةٍ
وأتلقَّى صفعةً مجهولةً على مؤخرتي، وأعودُ
في كلِّ مَرَّةٍأكون مُدجَّنةًأكثرَ
وأكتسبُ مزيدًا مِن الصَّمت والتَّجاعيد
أخسر أليفًا آخرَ، وأُفسح مكانًا جديدًا في صفحة المفقودين

صدِّقيني؛أنا لا أُزاحمُكِ في رسائلِكِإلى اللهِ؛
أناأكتبُإليكِأنتِ
أنتِ لا تشبهينني في شيءٍ
لكنَّك تعرفينَ نفْس الأشباح
وتستنشقينَ نفْس الرائحة
لكنَّكِ مازلتِ تكتبينَ الرسائل وتنتظرينَ الإجاباتِ
أنا أسألُ؛ لأقتلَ الوقت
ولإضفاء شيءٍ مِن العمق على تفاهتي الباقية

نحنُ الأُمَّهات الوحيدات
الخائفات على ملائكةٍ صغيرةٍ تكبر بين أيدينا
مُحمَّلونَ بأرثٍ مِن الإرهاق والإخفاقات المُبكِّرة
ودروسٍ في قتل الأحلام والمساومات الظالمة
ماذا لدينا لنعطيهم الآن؟
وكيف نثقُ في البهجة ونحنُ على يقينٍ تامٍّ
أنَّ ما نراه في المرآة الآن
وجهٌ وضعوه لنا في غرفة العمليات عن طريق الخطأ.

إلى مروة؛
رسائلي ليست مُهمِّةً.إنها محاولاتٌ للتحايل على صلوات أمي، وأدعية صاحب البقالة الكهل.
لا أهتمُّ لوصولها. أنا أكتبُهَا؛ لأقول له إنني كنتُ أذكرُهُ بطريقتي عندما تصبح
الحياة –ياعزيزتي- أخبارَ موتٍ متواصلٍ، وأكوابًا تنكسر، وبناياتٍ تتهدَّم، وقبورًا لا تتوقَّف عن الامتلاء.
لو فكَّرْتُ قليلًا، لَأخذتُ بناتي في سريرٍ دافئٍ، أحتضنُهُم، وأنتظرُ
أنتظرُ سقوط الحياة فوق رأسي ورأسهم؛ لِنتهدَّم، ونختفي معًا
وتتوقَّفُ كلُّ الأسئلة عن الأحلام والموسيقى والحياة
عن الله...
أنا لا أعرف الإجاباتِ، ولا أملكُ اليقينَ
لكنَّني أيضًا إلهة في هذا المنزل الصغير
ويجب أن أبدو بمظهر العارف
تمامًا كما يحاول الله أن يفعل.


إلى سارة؛
لو أنَّنا نقفُ هكذا
في موضع الثَّبات السَّعيد
في الكادر الحالم الذي تصوَّرناهُ صغارًا
لو أن سِكِّينًا ناعمًا يُنظِّفُ القلبَ مِن شرايينه الحزينة
أو نقطة المغرفة الداكنة في آخر الرَّأس
لو كانت الذاكرةُ غربالًا ذكيًّا
أو يكفُّ التلفازُ عن بثِّ الرُّعب بصورةٍ يوميةٍ
بإمكاننا أن نُغلقَ العَالَمَ
نختبئَ خلف عباءة الأُمومة
بذلة الموظَّف الزَّرقاء
بطِّيخة آخر العام الخضراء الكبيرة
ندسّ الصِّغار في تنوُّرات الحفلات المزركشة.

صدِّقيني أنا لا أودُّأَنْأراهم عرائس وعرسانًا وفرسانَ فضاءٍ.

في الواقع؛أنا لا أودُّ شيئًا على الإطلاق
فقط هذه اللحظة الدافئة
وقليلًا مِن النُّقصان في الذَّاكرة
ولا أعبأُ بجفاف المحبَّة
إن كان معه قليلٌمِن اللامبالاة بما سوف يجيءُ.



التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads