إشكالية الجديد تاريخياً "قصيدة النثر نموذجاً" | بشير عاني

Written By تروس on الجمعة، 11 مارس 2016 | مارس 11, 2016

إشكالية الجديد تاريخياً "قصيدة النثر نموذجاً"
بقلم الأديب:بشير عاني

لا أحد لوحده مالك الحقيقة..! 
أجل.. فهذا البحث المصنوع بعجالة يحاول قدر المستطاع أن يستثمر هذه العبارة مندسَّاً قدر المستطاع من خلال الشقوق الهائلة الحاصلة في جدران وعي الناس أفراداً وهيئات ومؤسسات. 
ولأنّ المجتمعات العربية تعيش تشوشها الحضاري واهتزازها التاريخي منذ دخول نابليون إلى مصر، فإنه من الطبيعي أن تبدأ أولى أعراض هذا الطارئ على الجانب الأكثر أهمية وحساسية في حياة العرب وأعني الشعر.. وكيف لا والشعر ديوان العرب..؟ وهم لم يبدعوا في أي من الفنون مثلما برعوا فيه. 
ولأن للشعر هذه الأهمية في حياة العرب سيكون من الطبيعي أن تبقى الحروب على أشدِّها بين الشعراء وأن تظلّ أبواب الصراع مفتوحة على مصاريعها بين تياراته المختلفة.. كما أن تجلّيات هذه الظاهرة (الصحيّة) ستبرز على أكمل أوجهها في المعارك الدائمة والتي لن ينقشع غبارها أبداً بين القديم والجديد.. الثابت والمتغير.. 
وبشجاعة أكثر يمكن القول بأن هذه الظاهرة الفذّة والخطيرة والقادرة على الانسحاب على مجمل أشكال الحياة هي خاصية طبيعية ومستمرة ولا نملك إلا إذكاءها (إذا كنّا أوفياء لمنطق التطور) حين نريد الرهان على الوجدان الشريف للحياة والضمير النقي للمستقبل، مدركين أن الحديث عن شروط تحقق هذه الآلية (آلية التطور) يظلّ ناقصاً إن لم تحدد مجالات فعله في احترام الرأي الآخر والموضوعية مع الذات ومع الآخر إضافة إلى السعي الحثيث لوضع اليد على الحقيقة أو مشارفها قدر الإمكان. 
أحياناً تنفلت الأمور عن هذه المجالات، ومع هذا تبقى في الحدود الطبيعية.. كأن نجد كتابات مبتعدة عن الثوابت الحقيقية للكتابة.. أو عن الوسع المطلوب لصد الحوار الذي يريد أن يؤسس حقاً.. متخلِّية عن روح النقد المخلصة.. نازّة بالحقد والتجديف.. شغلها الشاغل الحطّ من قيمة الجديد... ومع هذا لا نستطيع أن نُخرج هذه الكتابات من مجالات الطبيعية والمشروعية لأن في الحياة ثمة مجالات أو هوامش للارتياب والشك والخطأ وقد تكون مفيدة أحياناً كأن تثير مناخاً فكرياً أو أدبياً لمسائل ثقافية راكدة.. مثلما نحاول الآن في هذا البحث مدافعين فيه عن الشعر الجديد وقصيدة النثر خصوصاً غير مغفلين حقّ الآخرين (الرافضين للشعر الجديد) حرية التذوّق واختيار الرصيف الشعري الذي يرونه أكثر استقراراً وأماناً لتكوينهم الثقافي والنفسي والجمالي.. وحقّهم أيضاً في إيجاد المتنفّس الضروري لبثّ أفكارهم وقناعاتهم ونشرها بالأشكال الرسمية وغير الرسمية. 
ولأن قصيدة النثر هي المُدانة.. وهي الموضوعة في قفص الاتهام من محيط الشعر إلى خليجه قُمنا بتجميع وفرز كل ما خطر ببال رافضيها من اتهامات وعيوب ومسؤوليات تخريبية بغية مناقشتها ببعض التفصيل منوّهين في الوقت ذاته أننا لا نسعى من جراء كل هذا للردّ على أحد بذاته بالمعنى الشائع للردّ.. أي بالمعنى الذي يقتضي ردّ الكيد إلى النحر.. كما لا نبغي إلصاق التهم الجاهزة بنتاجاتهم وأفكارهم وصيرورتهم الفنية والشخصية.. على العكس.. إن هذا البحث سعي منا لإيجاد المدى الذي يتسع لاحتضان الأيادي الممدودة إلى بعضها –للمصافحة- وبلا قُفازات العداوات المبيتَّة. 
الآن وبعد هذه المقدمة (العاطفية) سنفرز ثلاثة اتجاهات متفقة جميعها على رفض قصيدة النثر أو عدم قبولها.. 
الاتجاه الأول: اتّهامي: يرى بأن قصيدة النثر تحمل قصدية التخريب وهي جزء من المؤامرة الكبيرة على المجتمع العربي. 
الاتجاه الثاني: استعلائي: ينطلق في رفضها من منطق التفوق ويعمل على نفيها فنياً وشعرياً. 
الاتجاه الثالث: متحفّظ: وهو أكثر مرونة من الاتجاهين السابقين ويرى أن في قصيدة النثر الكثير من جوانب الشعر ولكنها مليئة بنقاط الضعف والسلبيات ويتحدث كثيراً عن غياب العروض. 
أما الأفكار الأساسية لهذه الاتجاهات أو التيارات العريضة الرافضة لقصيدة النثر وخصوصاً للاتجاهين الأول والثاني فيمكن تفصيلها كما يلي: 
1-إنّ قصيدة النثر لا تنتمي إلى الشعر لغوياً وفكرياً وإيقاعياً. 
2-إن قصيدة النثر مشبوهة ومتهمة بالعمالة وأن كتّابها من الشعوبيين وأعداء الوطن "أفردنا لهذه النقطة تحديداً بحثاً آخر مستقلاً عن هذه الدراسة". 
3-إنها مقطوعة الصلات بالواقع العربي.. كما أنها دخيلة ومقاطعة جماهيرياً. 
4-إنها مخرّبة للذائقة الشعرية العربية ومساعدة على اختراق الأمن الثقافي العربي. 
5-إنها وضعت القارئ العربي في حيرة من أمره ودفعته إلى مقاطعة الشعر عموماً. 
6-إن وراء انتشارها أيادي أجنبية مشبوهة متضافرة مع جشع مقاولي النشر.. كما لا مستقبل لها في الثقافة العربية. 
7-غمغمة نقدية سريعة تطالب بإعادة النقد الأدبي وتياراته إلى نقطة الصفر مُدَّعية بأن الرائد الحقيقي للتجديد الشعري هو د. علي الناصر في ديوانه الصادر عام 1932 تحت اسم (الظمأ). 
-من سؤال معاكس لمضمون الأفكار السابقة سأبدأ: 
لماذا يجد البعض في الشعر الجديد ومن قصيدة النثر طاقة شعرية هائلة ومختلفة في حين يرفضها البعض الآخر ولا يستطيع هضمها..؟ 
الإجابة سأحيلها إلى د. خليل موسى الذي صنّف القراء في ثلاثة أنواع وذلك في مقالة منشورة له في جريدة الأسبوع الأدبي بتاريخ 11/1/1996 وتحمل عنوان الشعر المعاصر وإشكالية التلقي" يقول فيها: "القارئ القديم: متلق ثابت، فهم ووعى وأدرك ثقافته القومية العتيقة ولكنه عجز عن فهم ووعي وإدراك الثقافة الإنسانية الشاملة.. ثقافة العصر، لذا يرفضها رفضاً مطلقاً ولمّا واجهته الحياة الجديدة بتجربتها وجماليتها وجد نفسه بعيداً عنها أو غير قادر على اللحاق بها فعاد يعدو إلى الخلف ليلتجئ بالعصور الماضية والتجارب الماضية مدّعياً الحفاظ عليها والتمسك بها وبالأصالة". 
ولا يقف د. خليل موسى عند هذا الحد في تشريح القديم (شاعراً وقارئاً) ونبش داخله الفكري والجمالي حيث يتابع: "هو متلق اتهامي، فهو يصم الحداثة بعيوب فيها وفي خارجها فيتهم أصحابها بالعجز عن النظم الكلاسيكي ويتهم الشاعر الحداثي بالغموض والإبهام والهلوسات... أما العيوب الخارجية فهي اتهام شعراء الحداثة بالتعامل مع الأجنبي لضرب التراث العربي". 
إذاً لا نفاجأ اليوم إذا رأينا الكثير من المثقفين العرب يصدرون في أحكامهم على الشعر الجديد من خلال القياس مع الأصل أو النموذج الموروث الذي يعني بنظرهم المعرفة الكلية والمطلق الثقافي الذي قال كل شيء في كل شيء حتى في الذي سيأتي من حوادث... وكائنات وليس على الجديد إلاّ أن يكون تفريعاً عليه... هذا المثقف العربي هو الذي يحيا في مناخ مستقر ومطمئن وامتثالي ويشعر بالعجز والدّونية أمام إنجازات الماضي وما أسسه السلف الصالح... إنّه يحيا في المناخ الذي ترمز إليه كلمة عمر بن العلاء: "إنما نحن ممن مضى كبقل في أصول نخل طوال.." وعن هذا النموذج يكتب أدونيس في صدمة الحداثة "لا يصدر هذا النموذج في فهمه وأحكامه إلاّ عمّا تأسس واستقر سلفياً وهو يُشيع بفعل الطرق التفسيرية المحافظة مناخاً ثقافياً يعنى بالمعلوم لا بالمجهول وتسيطر عليه نزعة التلقّن لا نزعة الاكتشاف ونزعة القبول لا نزعة التجاوز...". أمّا لماذا انصرف الناس عن الشعر..؟! فيمكن لنا أن نرصد الكثير من الأسباب منها ما هو ذاتي من داخل الشعر والقارئ معاً... ومنها ما هو خارجي تماماً مع لفت النظر إلى أنّ الانصراف عام عن الكتاب والقراءة لكل ما يشمل الفكر والأدب تقريباً بفعل انتشار الثقافة السمعية والبصرية وخاصة الاستهلاكية منها إضافة إلى انتشار التسليات والألعاب والرياضيات المختلفة غير متجاهلين الأثر السلبي الكبير الذي تتركه الآن في أذهان الناس وأرواحهم صعوبات الحياة التي تتعقد يوماً بعد يوم وعلى الأخصّ المشقّة التي يعانونها في سبيل تأمين الرزق.. قد تكون هذه بعض الأسباب الموضوعية التي /شَلَخَتْ/ الطرف الأول /الروحي/ عن الطرف الثاني /المادي/ في قوام ما نطلق عليه اليوم اسم الحضارة... وقد أجد نفسي مضطراً وقبل التحدّث عن الأسباب الذاتية لعزوف الناس عن الشعر إلى طرح هذا التساؤل الحزين: مَنْ يقرأ الشعر الآن... حتى العمودي منه..؟! وأجيبُ: فقط الشعراء وبعض المهتميِّن..!! 
نعم.. لنكن شجعاناً مع أنفسنا ونعترف: فقط هؤلاء الذين يتابعون ويقرؤون للمجانين وأنصاف المجانين وللعقلاء أيضاً... وباعتقادي أنّ الأمور ستؤول إلى ما آلت إليه الآن حتى لو لم يظهر الشعر الجديد... أكثر من هذا فإن الشعر –ورغم إيماني بالمستقبل هو فَنٌّ مُنقرضٌ... فلماذا نحمِّل الأمور أكثر مما تحتمل ونبحث عن مشجب/ وقد وجده بعض الأذكياء في الشعر الجديد/ لنعلِّق عليه خيباتنا وهزائمنا... 
ومن المهم التذكير به في هذا المجال أنّ أزمة الشعر وأزمة التلقي لا تعيشها الحياة الثقافية العربية فقط... إنّما تكتوي بنارها جميع المناخات الثقافية العالمية بما فيها المجتمعات المتقدّمة التي تزدهر فيها القيم الوطنية والقومية ولا تشكو من التخلف والتجزئة ولا يقبع الأعداء على أبوابها متربِّصين.. وأعني أوربا وأمريكا.. ففي كتابه "بعيداً داخل الغابة" يذكر فاضل العزاوي إنه ذهب لحضور أمسية شعرية في إحدى المدن الألمانية وفوجئ كثيراً إذ لم يجد من الحضور سواه إضافة إلى الشاعر وصديقته. 
هل بعد هذا سنقول إن الشعر الجديد... وقصيدة النثر تحديداً – هو الذي طفّش الجمهور..؟! مهما تكن الإجابة على سؤالنا هذا فإن الحديث عن الأسباب الذاتية لانصراف الناس عن الشعر الجديد يبدو الآن مُلَّحاً وضرورياً لإلقاء الضوء على إشكالية تواصليِّه بين الشعر والمتلقي نابعة من اهتزازات حضارية تقع في قلب المجتمع العربي ولا ذنب للشعر وللشاعر فيها.... اللهم إلا في محاولة إذكاء هذي الاهتزازات والعمل على استمرارها أكثر... فأكثر لزلزلة الأرض تحت النموذج والمستقر والثابت والقديم واستيلاد الجديد مناخاً وثقافة وشعراً وشاعراً... 
يكتب د. خليل موسى في نفس المقالة السابقة: "أمّا القارئ الجديد فهو المتلقي المتحرك الذي وعى وفهم وأدرك ثقافة الأمس وقوميته ونهض بها لتجاري الثقافات الأخرى ويدرك القارئ الجديد أن الخطاب الشعري المعاصر الثريّ بحاجة إلى منهج جديد للقبض على مفاتيح الولوج إلى داخله واستنطاق آلياته وتفكيك استراتيجيته، ولذلك عليه أن يكون مُلّماً بالسياق الشعري الحديث وأن تكون أدواته المنهجية حداثية وصالحة لمثل هذه المقاربة فإذا كان القارئ ليس ملماً بالسياق الشعري الحديث فإنه يدور حول حدود النص ولكنه لا يستطيع الاقتراب منه... وقد يكون القارئ مُلّماً بسياق الشعر الحداثي ولكن أدواته المعرفية تقليدية... فالمقاربة لن تتم لأنّ الأدوات المعرفية عاجزة عن الفعل والفاعلية". 
إذاً يمتاز القارئ الجديد الذي سيقبض على الشعر الجديد ويفككه بـ: 
1-الإلمام بالسياق الشعري الحداثي. 
2-التسلح بأدوات معرفية حديثة... باختصار.. الشعر الجديد يحتاج حتماً لقارئ جديد. 
ثمة نوع آخر من القراء وهو يعنينا كثيراً لأنه الأخطر على ساحتنا الثقافية وأكثر حضوراً... هذا النموذج لا يمتلك ثقافة المتلقي القديم ولا مواقفه وهو غير قادر على امتلاك واستيعاب ثقافة المتلقي الجديد ولا رؤاه ولذلك وقف في الوسط أو في المقدمة أحياناً ليؤكد ويثبت أنه من أنصار الجديد... ولكنه قارئ انتهازي ومتذبذ ولا يحترم قضية... بل هو مخرب خطير.. 
حتى الآن ما زلنا ندور حول الموضوع، وقد حان الوقت لندلف إلى تجربة الشعر العربي لنقرأ خارطته المفرودة لكل مهتم مخلص وننقِّل العصا بعجالة على الطرق التي سار فيها الشعر العربي في رحلة التجديد الطويلة وصولاً إلى مملكة الحاضر... ووصولاً إلى بعضٍ من منطق هذا التطور- الرحلة الذي سينفي لنا أو يؤكّد المشروعية التاريخية- الحضارية للشعر الجديد بما فيه قصيدة النثر... 
بمعنى آخر هذا التطور –الرحلة سينفي أو يؤكد إذا كانت بذار الشعر الجديد قد انزرعت في تربتنا الثقافية بأياد مشبوهة حقاً... أم أنه جاء كانفراز حقيقي مثّل بشكل لائق الانتقالات الفكرية والنفسية والجمالية التي حدثت داخل المجتمعات العربية ونمَّ عن الخضخضة الثقافية التي حدثت في قلبها رغماً عن الروح التقليدية المهيمنة عليها طيلة خمسة عشر قرناً.... 
في الحقيقة يمكن رصد انتقالٍ مبكرٍ إلى النثر الشعري من خلال القرآن الكريم الذي يُعتبر النص الذي سجّل أهم تطور في الإبداع العربي والذي تقوم صياغته على إيقاعات النثر وليس على إيقاعات الشعر المعروفة ومع هذا فقد اعتبره بعض العرب شعراً كما اعتبروا محمداً بن عبد الله شاعراً... 
ولا بد من الإشارة إلى أن هذا الانتقال قد ارتبط بمرحلة فكرية جديدة في تاريخ تطور العرب تمّ قطفه مبكراً وحبس استمراريته بسبب إشكالية الطابع الديني المقدس التي جعلت من الصياغة القرآنية استثناءاً إلهياً كانت بمثابة الحاجز أمام أية إمكانية لتقليدها. 
من جهة أخرى لم يجد الشاعر العربي في هذه الصياغة بما يفيده لكونه شاعر قبيلة أو بلاط قبل كل شيء... لهذا تطلب الأمر وقتاً طويلاً لظهور شعراء ينظرون إلى العالم والحياة من خلال دور ثقافي جديد للشعر.. 
وإذا ما بحثنا أكثر في التراث العربي فسوف نعثر على نصوص نثرية كثيرة (من خطبة قس ابن ساعدة الأيادي وتأملات المأمون الحارثي وهو يراقب السماء والنجوم وحتى مناجيات المتصوفة وخروقاتهم الفكرية والفنية) ملاحظين أيضاً أن اتهام العرب محمداً بقول الشعر ليس إلا إشارة على أنهم لم يكونوا يستبعدون إمكانية تحول النثر إلى الشعر.. بل أنّ النقد العربي القديم قد أدرك ما فعلته الكتابة /النثر/ بعد عصر التدوين من زخرفة كبيرة للشعر وبعض النقاد أدان الكلام القديم خطابة وشعراً كما أدان الأساس الذي يقوم عليه/ الأمية- الفطرة- الارتجال-البداهة/ وفضلوا عليه النثر الجديد الناشئ الشّاقّ والروحاني واللا متناهي والمتصف بالعلم والإحاطة... 
حيث يكتب القلقشندي في صبح الأعشى: /الشعر محصور في وزن وقافية. يحتاج الشاعر معها إلى زيادة الألفاظ والتقديم فيها والتأخير وقصر الممدود ومدّ المقصور وصرف ما لا ينصرف ومنع ما ينصرف من الصرف واستعمال الكلمة المرفوضة وتبديل الفصيحة بغيرها وغير ذلك مما تُلجئ إليه ضرورة الشعر فتكون معاينة تابعة لألفاظه..". هكذا يصف القلقشندي الشعر... أما كيف يصف النثر، هذا الناشئ الجديد... فلنتابع "والكلام المنثور لا يحتاج إلى شيء من ذلك فتكون ألفاظه تابعة لمعانيه". 
الألفاظ تابعة للمعاني...!! هنا يكمن الجوهري في الموضوع حيث يعني أن الأمور قد انقلبت وصار الكلام الجديد يعني انبثاقاً جديداً لحريّة بدئيّة في اختيار الشكل/ الألفاظ والتراكيب والصيغ/ الملائم لمعنى مستجدّ وغير مسابق لأنه وليد الحوادث الناشئة.. وضمن هذا المنظور لا يقدر الكاتب /النثري/ أن يكتب إلا إذا كان في نفسه معنى خاص أي إلاّ إذا كان لديه ما يقوله... بينما الشاعر التقليدي – المكرِّر قادر في كل لحظة أن يملأ بألفاظ معينة قوالب معينة دون أن يكون لديه بالضرورة شيء يقوله أو يضيفه إلى ما سبقه.. ولعل قالبيّة الشعر التي تسهّل صناعته هي التي دفعت ناقداً كالعسكري ليقول في كتابه الصناعتين "والذي قصر بالشعر كثرته وتعاطي كل أحد له حتى العامّة.." 
في المحطة القياسية التي توقفت عندها مركبة الشعر صعد شعراء كبار هاربون من التبذّل والتكرار.. باحثون عن فضاءات جديدة أكثر رحابة لقصائدهم وكان بشار وأبو نواس وأبو تمام من أهم شعراء هذه الكوكبة الهاربة... ولن نقف طويلاً عندهم فقد أشبع النقد الأدبي القديم تجاربهم وأثار من الجدل حول شعرهم ما سُطّر في مجلدات منها "طبقات ابن المعتز- المبرد في كتابه الروضة- الصولي في أخبار أبي تمام)- الآمدي في كتاب الموازنة... وغيرها كثير...". أمّا النقد الأدبي الحديث فقد أشبع هذه التجارب الشعرية مدحاً وتقريظاً وأكتفي بما قاله أدونيس في /تأصيل الأصول/ في بشار الذي بدأ من عقيدة أولى ومن بحث فنّي أول... وفي أبي نواس الذي بدأ من تجربة أولى... وفي أبي تمام الذي بدأ من لغة أولى. 
في المحطة التالية ستتوقف مركبة الشعر عندما يسمى اليوم بعصر الانحطاط الذي يبدأ من سقوط بغداد على يد هولاكو سنة /1258/ وتنتهي عند غزو نابليون مصر /1798/.. هذا العصر قد يكون منحطّاً فعلاً بالمعنى السياسي والاقتصادي والاجتماعي ولكنّه قطعاً لم يكن كذلك من النواحي الأدبية –الشعرية- الثقافية بعامة حيث استمرت الحركة الفكرية ممثلة بابن خلدون /1332-1406/ الذي أنشأ علم الاجتماع وابن منظور /توفي 1311/ الذي وضع أكمل موسوعة في اللغة، وابن بطوطة /1304-1377/ الذي أسس أدب الرحلة. 
أمّا على الصعيد الشعري فقد صار ذا طابع مديني أكثر وذا طابع صنعي والمصنوع في رأي ابن رشيق /أفضل من المطبوع/ وأصبح الشاعر كصاحب الصوت المطرب يستميل الناس كما يعبر ابن وكيع التنيسي ونشأت القصيدة – الأغنية الخفيفة التي توفر لذّة الحواس- كما تطورت لغة القصيدة سواء من حيث بنيتها الشكلية /إيقاعات مختلفة ضمن بنية واحدة/ أو من حيث استخدام اللغة العامية وأنواع تعبيرية أخرى/ الموشح – الدوبيت- الكان كان- الزجل- الموليا/. 
بعد هذه الرحلة المضنية للشعر العربي بحثاً عن تجدّده الدائم سنراه واقفاً في أهمّ محطاته التاريخية التي أطلق عليها اسم عصر النهضة... في هذه المحطة طال وقوفه... كما طال تتابع صعود الشعراء إلى مركبه.. كل شاعر كان يبحث عن مدخل لم يسبقه أحد إلى الولوج منه... وفي هذه المحطة نتوقف طويلاً لننبُش حقائب الشعراء وجيوبهم تاركين /للبعض/ نبش الأرواح والضمائر لتحديد العملاء والمشبوهين.. 
أوّل الصاعدين تقريباً كان رزق الله حسون /1825-1880/ الذي يعتبر صاحب أول تجربة تجريدية في العصر الحديث حيث حاول أن يتخطى الشكل المطلق للقصيدة العربية من جهة /القافية/ التي تخلّى عنها ليكتب شعراً مُرسلاً اعتبره مدخلاً لكتابة الشعر الدرامي والقصصي والملحمي على غرار الشعر الغربي.. 
بعد هذا جاء دور أمين الريحاني /1876-1940/ ليتخطّى الشكل المطلق للقصيدة العربية من جبهتيها /الوزن والقافية/ حيث أرسل شعره خالياً منهما رغم محافظته على اللغة التقليدية وعلى الأساليب البيانية العربية والشكل المعهود لتقسيم الأبيات وبهذا يكون الريحاني قد أسس للشعر المنثور... 
ثم جاء الرجل الأبرز... الشاعر الأكثر أهمية... جبران خليل جبران... ومعه بدأت الثورة أكثر نضجاً وأوسم ملمحاً حيث ثار على اللغة التقليدية والعروض والأوزان والقوافي وعلى الأغراض القديمة... أي على شكل القصيدة الداخلي والخارجي معاً ليصبح رائياً لا يكْذب أهله... 
لقد أدرك جبران أن النعاس قد راودَ قوّة الابتكار في اللغة العربية فنامت وبنومها تحوّل الشعراء إلى ناظمين... وتبقى أهمية جبران كما يكتب عنها أدونيس في صدمة الحداثة: "أنه سلك طريقاً لم تعرفها الكتابة العربية... في أنه هدم الذاكرة وبنى الإشارة فكان في ذلك بداية... ولم تعد الكتابة العربية بدءاً، منه تتأمّل في المرايا اللفظية بل أصبحت تنغمس في العذاب والبحث والتطلّع ومن هنا امتلأت بالحيوية وأصبح القرّاء الذين كانوا يتغذّون بالألفاظ يتغذّون بقوة التجدّد والابتكار..". 
وها هو معروف الرصافي يحاول الاقتراب من مركب المجددين فيسعى لأن يُحدِّث موضوع القصيدة رافضاً تقليد أساليب الأقدمين انسجاماً مع دعوته إلى نقد الدين والحاضر والأخذ بالعلم ومنجزات العصر ومطابقة اللفظ للمعنى وتقريب الشعر من النثر... 
أما جماعة الديوان التي طال انتظارُها /العقاد- المازني- عبد الرحمن شكري/ فقد حملت معها الدعوة إلى إنسانية الأدب والانفتاح على الثقافات الأخرى كما امتلكوا شجاعة الاعتراف بتأثير الشعر المكتوب باللغة الإنكليزية على أعمالهم وكان لهم فضل إدخال الشخصية الأدبية على الشعر العربي/ أي أن للشاعر ذاتاً على الشعر أن يعبّر عنها وعن تجربتها الإبداعية/.. أما مأثرتهم الكبرى فكانت في النقد الصاخب واللاذع لأحمد شوقي وشعره. ومع جماعة أبولو يخطو الشعر خطوة هامة /خليل مطران- أبو شادي- إبراهيم ناجي- علي محمود طه- صالح جودت... وآخرون/ إذ رفضت هذه الجماعة أن يكون الشعر هو الكلام الموزون المقفى حسب التعريف القديم فنادت بحرية الشعر والشاعر... كما أكدت في أحد أعداد أبولو/ المجلد الأول- حزيران-1993/ على أنّ الشعر المنثور نوع من الشعر تعترف به جميع الأمم الراقية/ فتصوّروا كم كان هؤلاء أرحب صدراً من بعض شعراء ونقّاد اليوم/ أيضاً قامت هذه الجماعة بترجمة الشعر الغربي انطلاقاً من إحساسها ووعيها بضرورة تطعيم الأدب العربي بآداب الأمم الأخرى غير غافلين أيضاً عن دورهم في إدخال الرومانسية بمعناها الناضج فنياً على الشعر العربي. 
ومن جهة أخرى –وعلى صعيد الشعرية- السورية- كانت تتشكّل في هذه الفترة حركة شعرية هامة طليعية ومجرِّبة تابعت الرؤيا الجبرانية لتُحدث تبدلاً في الشعر في مستوياته/ علاقات اللغة –الشكل البنائي- الموقف من العالم/ ولتشكل حلقة طليعية من حلقات انتقال الشعر العربي من مرحلة /الشعر المنثور/ إلى القصيدة النثرية/ مُسجِّلة سبقاً تاريخياً على قصيدة التفعيلة التي أخذت بالتبلور والظهور منذ قصيدة الكوليرا لنازك الملائكة عام 1947، وفي الحقيقة هناك ديوانا شعرٍ يحملان سمات قصيدة التفعيلة صدرا قبل هذه القصيدة هما /الظمأ/ لعلي الناصر- 1932- و (بلوتولاند) للويس عوض الصادر 1938//... أما الشعراء الذين شكلوا هذه الحلقة الطليعة فهم: 
1-علي الناصر: حيث أصدر: 
أ-ديوان الظمأ: وفيه تتجاور الأشكال التعبيرية المختلفة /العمودي- التفعيلة- النثر/ على غرار /بلوتولاند/ لويس عوض... ونرى فعلاً أنّ هذا الديوان لم يأخذ حقه من النقد كما ينبغي لعمل رائد طليعي رغم أنّنا لا نتفق مع المطالبين بسحب ريادة قصيدة التفعيلة من البعض وتسليمها له لأنه بالأساس كان يصدر في قصائده التي جاءت على نمط التفعيلة من تأثّر واضح بالشعر المرسل الذي كان يكتبه أمين الريحاني وجبران خليل جبران... وبالمناسبة فإن أمين الريحاني قام بكتابة مقدمة نقدية لهذا الديوان/ إضافة إلى قصيدة التفعيلة بشكلها التي ظهرت عليه فيما بعد كانت أكثر بلورة ونضجاً مما حاوله علي الناصر في ديوان الظمأ... وسنحاول إثبات هذا من خلال القصيدة التي اختارها أحدهم لإثبات ريادة علي الناصر لقصيدة التفعيلة مطالباً في الوقت ذاته بإعادة النقد الشعري إلى نقطة الصفر (جريدة الثورة السورية- 23/5/1996- محمد مصطفى درويش): 
//الناس يبغون مني: مستفعلن فاعلاتن 
أن أترك الخمر عمري: مستفعلن فاعلاتن 
والشعر والهوى: مستفعلن فعلْ 
وأن أصُمَّ شعوري: مستفعلن فاعلاتن 
عن أنة الأسى..: مستفعلن فعلْ 
وأن أطيل ابتسامتي: متفعلن فاعلاتن 
أمام من بكى..//: متفعلن فعلْ... 
والآن لنرتب هذه الأشطر بطريقة أخرى: 
//الناس يبغون مني أن أترك الخمر عمري 
والشعر والهوى..  
وأن أصمَّ شعوري عن أنة الأسى.. 
وأن أطيل ابتسامتي أمام من بكى..// 
أليس هذا هو إيقاع /المجتث/ الخليلي مع بعض التصرف في /الضرب/ أي في التفعيلة الأخيرة من كل بيت والذي وزنه مستفعلن فاعلاتن-مستفعلن فاعلاتن/ إذاً نحن أمام قصيدة عمودية بنسبة أكثر من 90% لذا يجب أن لا يخدعنا شكل توزيع الأبيات ويدفعنا للاستعجال ومطالبة النقد الأدبي ومؤرّخيه بسحب جائزة الريادة من السياب والملائكة وتسليمها إلى /ظمأ/ علي الناصر الصادر عام /1932/. 
ب-البلدة المسحورة وموانا: وقد صدر الديوان عام 1935 وفيه بدا علي الناصر أكثر بحثاً عن فرادته الفنية وقد كتبها بأسلوب الشعر المنثور وعنها يكتب جمال باروت في كتابه /الشعر يكتب اسمه/: //منذ ديوان الظمأ كانت حياة علي الناصر الفنية ممارسة لا حدّ لها من التجديد والبحث عن المختلف لا عن النمطي... فبدءاً من البلدة المسحورة نجد تحولاً فنياً متداخلاً ما بين متابعته لآفاق جبران والريحاني ذات العوالم الرومانتيكية وما بين الانتقال بها إلى العوالم الملحمية//. 
جـ-سريال: وهو ديوان مشترك بين علي الناصر وأورخان ميسر صدر عام 1947 وسريال كتاب يدعو إلى قلب نظام القيم الشعرية الثابتة والبحث عن قيم شعرية بديلة وهو بهذا المعنى كان كتاباً هدمياً ذا أفق نظري /السوريالية/... وذا أفق إبداعي /قصيدة النثر/.. حيث يكتب أورخان ميسر في مقدمة /سريال/: "إن الكلام المنظوم المقفى في جميع اللغات على اختلاف أنواعها والمسمى شعراً ليس في الواقع العلمي إلا كلاماً جميلاً له اهتزازاته التوقيعية ولوحاته المغرية التي يستمتع بها الفرد استمتاعاً قوامه ميكانيكية السعادة... والسوريالية تعني ما يرسمه العقل الباطن باصطلاحاته الخاصة من صور يمثل بها واقعه الفردي ممزوجاً بحنين الأجيال التي تحيا فيه". 
2-خير الدين الأسدي: 
حيث أصدر عام 1950 ديوان /أغاني القبة/ وفيه كتب الأسدي أول بيان عربي للقصيدة النثرية حيث يربط التجديد الشعري بالمنظور الصوفي للرؤيا التي عمل على أن تكون إطاراً فلسفياً لتجربته، أراد من خلالها أن يؤسس توازنه الذاتي في عالم غريب عنه. 
إذاً حاولت هذه التجارب الشعرية أن تبثّ دفقة من الحيوية والحركة الداخلية في مناخ اللغة والتأليف الإيقاعي وأن تُحدث تحولات في علاقات اللغة لتغييرها ومنحها دلالات جديدة حالمة بإنجاز لغة جديدة وشعر جديد. ولا ننسى في الغمرة أن نتوقّف عند تجربة شعرية هامة بالمعنيين الفني والتاريخي وأعني /بلوتولاند/ لويس عوض الصادر عام 1947 والمكتوبة بين عامي 1938-1940 يقول د. غالي شكري في كتابه /شعرنا الحديث إلى أين/: لا تنبع أهمية بلوتولاند من ثورته الجارفة على القديم وإنما من أنّه أعطى الشاعر العربي لأول مرة حقّه في التجريب بمعناه الواسع..." 
لقد رفض لويس عوض في /بلوتولاند/ القيم النهائية في الشعر مؤكداً على أنّ العمود الخليلي ليس هو الجامع المانع لموسيقى الوجود فحاول استيلاد أوزان جديدة من بحور الشعر الإنجليزي. كما حاول ابتكار أوزان أخرى لم تكن من قبل وبذلك كان يقتلع مفهوم المطلق الموسيقي للشعر ومطلق الشكل والتراث... 
ويفسّر د. غالي شكري أهمية بلوتولاند فيقول: "ليست أهمية بلوتولاند ذات طابع تاريخي ولكنها ذات طابع موضوعي.. فلعلّها من حيث النماذج الشعرية للقصائد ومن حيث المستوى العلمي الأكاديمي لمقدمتها لا تقدّم أمثلة على درجة عالية من النضج والعمق ولكنها من حيث الفعالية الإيجابية المثمرة انعطفت بتاريخنا الشعري منعطفاً جديداً للغاية وفتحت باباً سرعان ما دخل منه الشعراء الموهوبون الذين راحوا يجدّدون لنا ألوان الحياة وألحانها كما أراد لها لويس عوض..". 
أنوّه إلى أن هذا التسلسل الشعري الذي حاولناه لتعقّب رحلة التجديد في الشعر العربي تقريبي ومتداخل أحياناً بعضه مع بعض زمنياً وفنياً.. إلا أنه بشكل عام يظلّ خريطة ما- صادقة إلى هذا الحد أو ذاك- تحاول رصد التحولات الجمالية الفنية للشعرية العربية. 
بعد هذه الحمولة الثقيلة من التجارب الشعرية كان على مركبة الشعر أن تنطلق بسرعة نحو محطتها التاريخية التالية فثمة جيل من الرواد كان يتلهّف وصولها ويتحرّق شوقاً لينضم إلى الركب... وكان أهم المنتظرين بدر شاكر السياب ونازك الملائكة اللذان خبّأا في الجيوب السرية لحقائبهما نماذج ناضجة من القصيدة التي أطلقت عليها الملائكة –خطأً- اسم القصيدة الحرة متأثرة بالتسمية الأوربية التي كانت تُطلق على أحد أشكال قصيدة النثر هناك ولم يك ما يخبئانه سوى قصيدة التفعيلة التي جاءت إلينا وبتأثّر واضح من التجربة الأوربية التي قامت بفرط /عمودها الخليلي/ منذ مئتي سنة تقريباً... فقد كان وزن بحر Hex 3metros أو إيقاع الساحرة الإغريقي وهو البحر الذي نظم به هوميروس ملحمتيه الإلياذة والأوديسة يتكون من أبيات يحتوي كل بيت منها على ستة إيقاعات وكل إيقاع منها يشتمل على ثلاث ضربات الأولى طويلة والثانية والثالثة قصيرة.. وقد دخل هذا البحر اللغات الجرمانية أيضاً وحين أراد كلوبتسوك المتوفي عام /1803/ استخدام هذا البحر عند كتابته أحد أهم أعماله /العاصفة والشِّدة/ وجد نفسه مضطراً إلى استخدامه بطريقة مختلفة محرراً إيّاه من إيقاعاته الستة وضرباته الثلاثية ضمن نظام حر جديد... وما فعله كلوتسوك في الشعر الألماني فعلته نازك الملائكة وبدر شاكر السياب في الشعر العربي ولو بعد مئتي عام في محاولة لامتلاك المزيد من الحرية في القول. 
ولم يطل الوقت لينخرط ما تبقى من جيل الرواد في القافلة وكان لمجلة الآداب البيروتية التي تأسست عام /1953/ شرف احتواء هذا التجمّع الثوري للأدب حيث حملت هذه المجلة لواء الدعوة القومية في الفكر العربي والدعوة الاجتماعية في الأدب والدعوة التحرّرية في الشعر فأبرزت تجارب شعرية حديثة إضافة إلى السياب والملائكة منها صلاح عبد الصبور ونزار قباني ومحمد الفيتوري وبلند الحيدري وغيرهم... وتجارب نقدية أدبية سيكون لها تأثيرها الكبير في تقويم سيرة الأدب الجديد كجبرا إبراهيم جبرا وسلامة موسى ورجاء النقاش ومحمود أمين العالم وغيرهم، ويبدو أنّ بيروت ستحمل مأثرة تشكيل التجمع الثوري الشعري الآخر حيث ستصدر منها المجلة الشعرية المتخصصة والرائدة /شعر/ في مستهل عام 1957 والتي تجمّع حولها يوسف الخال وأدونيس وأنسي الحاج ومحمد الماغوط وجبرا إبراهيم جبرا والسياب أيضاً وغيرهم... وهنا بدأت تسقط آخر رواسب الحس الكلاسيكي في حركة التجديد الحديثة في الشعر العربي، حيث ظهرت قصيدة النثر بشكلها الذي يؤكّد الثبات على جوهر الاتجاه نحو التجاوز والتخطي والالتحام العميق الحرّ مع أحدث منجزات التكنيك الشعري في أوزبا... وخصوصاً مع أنسي الحاج في /ماضي الأيام الآتية/ التي جاءت بعد /لن/ و /الرأس المقطوع/... وفي إطار هذا الاتجاه أيضاً كان شعر توفيق صايغ في /بضعة أسئلة لأطرحها على الكركدن /و/ معلّقة توفيق صايغ/ ثورة على المطلق السرمدي وإلغاءاً للشروط الموسيقية المسبقة حيث تفتحُ أرضُ الشعر فمها لتبتلع المسافة النفسية الهائلة بين الشاعر و /الآخر/ شرط أن يتلبَّسا لبوس الرؤيا الحديثة للعالم ومع جبرا إبراهيم جبرا في مجموعتيه /تموز في المدينة/ و /المدار المغلق/ سيتّضح الإحساس الحادّ بها مشية حياتنا الراهنة على الصعيد الحضاري منظوراً إليها من مستوى الحضارة الإنسانية الأرفع في ذروة تألّقها بأوربا ليجيء افتراض ردم هذه المسافة بالاستعانة بأحدث منجزات التكنيك الغربي. 
ثم يأتي محمد الماغوط الذي استطاع في غيبوبة الاندماج السحري القريبة من مادة الحلم أن يستدرج العالم الخارجي إلى داخله حيث استطاع أن يُشابك الحلم بالواقع منذ /حزن في ضوء القمر/ إلى/ غرفة بملايين الجدران/ ليخطّ لنفسه اتجاهاً خاصاً ضمن تيارات التجاوز والتخطي وهكذا سيتجلّى ميدان الصراع في الشعر العربي الحديث عن ذبول التقليدية الجديدة ممثلّة بقصيدة التفعيلة وانطواء الرومانسية الاشتراكية... وبروزٍ أكثر لشعراء قصيدة النثر شعراء التجاوز والتخطي... ففي سورية مثلاً كانت الأسماء الشعرية الأبرز في السبعينات هي من كتاب هذه القصيدة /محمد عمران- نزيه أبو عفش- بندر عبد الحميد- عادل محمود- محمود السيد/ علماً بأنّ عدداً قليلاً من الشعراء العرب استطاع خلال هذه الفترة أن يكتشف إلى جانب /التفعيلة/ إيقاعات غنية لا حدّ لها، مثل أدونيس ومحمود درويش وسعدي يوسف وسليم بركات وفايز خضّور بحيث تمَّ طمس الوزن الخارجي تقريباً ولم يتبقِّ إلا إيقاع اللغة المتدفقّة في تنامي الرؤيا.. 
وبما أننا لم ننه الحديث عن الريادة والرواد فأرى من الضروري مناقشة مفهوم الريادة.. فالمعركة التي دارت رَحَاهَا فيما مضى بين الملائكة والسيَّاب حول أولوية أحدهما على الآخر في ريادة الشعر الحديث هي معركة وهمية تماماً لا لأن الفرق الزمني بين قصيدتيهما لا يُعتدُّ به... 
بل لأن السمة التي يزهوان بها والتي يتوهّم كل منهما أنّه ينفرد بها هي إحدى السمات المشتركة في شعر جيل كامل ولا أهمية البتة للفروق الزمنية الضئيلة فنحن إذا أهملنا الفوارق على مستوى الأيام والشهور سوف نكتشف أنّ مرحلة زمنية واحدة هي التي أنبتت هذه الحركة الحديثة لأنّ ظروفاً تاريخية وحضارية واحدة هي التي أثمرتها... إذن فالريادة عامّة وهي حقّ مطلق شعراء الجيل بأكمله.. أمّا الريادة التي تخصّ اتجاهاً ما بدأه شاعر ما فهي الريادة التي يجب أن نميّزها كأن نقول: إنّ الملائكة قد نحت قبل غيرها في اتخاذ وحدة التفعيلة أساساً للبناء الشعري وإنَّ لويس عوض قد سبق غيره في إعادة الشعر للحياة كما يقول إليوت.. وإنّ عبد الرحمن الشرقاوي بَزَّ غيره في ربط الأيديولوجية بالشعر وإنَّ السياب كان رائداً في بلورة الأسطورة شعراً... أما يوسف الخال فهو السابق في إدخال الرؤيا الحديثة إلى الشعر العربي.. وهكذا يمكن الحديث عن جبرا إبراهيم جبرا وأدونيس وعبد الصبور والبياتي وأنسي الحاج والماغوط وتوفيق صايغ وآخرين... إذ أنّ لكلّ واحد منهم سماته وخصائصه التي تفرّد بها وطرَّز بها النسيج الشعري ليشكلوا مع بعضهم وحدة حيّة متكاملة في ريادة مفهوم الحداثة في الشعر.. 
وإذ نسوق الآن الكلام فلأن بعض المشكِّكين الجدد يجيئون اليوم وبعد مضي نصف قرن تقريباً ليعلنوا اكتشافاتهم الشعرية الجديدة /الموهومة/ مطالبين بإعادة النقد الشعري وتياراته إلى نقطة الصفر. 
وبما أنَّ الكلام يفتح بعضه بعضاً /كما يقول ابن رشيق فإن في النفس شهوة للحديث عن مكابدات الجديد عبر التاريخ دون محاولة مني لإخفاء نشوة خاصة نابعة من الإحساس بأنَّ ثمة جديداً حقاً في ما يكتب اليوم يدفع بعض السلفيين الجدد لأن يشنُّوا عليه حرباً ضروساً... بمعنى آخر أن هذا الجديد استطاع أن يدخل الخوف إلى قلوب أعدائه وهذا وحده مؤشّر صحيّ للغاية. 
وأسأل الآن هل هناك عربي واحد /وخاصة في أوساط المسلمين/ لا يتذكّر المعاناة التي تعرّض لها (محمد بن عبد الله) من قبل القرشيّين حين شعروا بأنّه يُزلزل استقرارهم وأمنهم واقتصادهم وقيمهم..؟ بل إنَّ شخصاً كأبي لهب سيدخل التاريخ من أوسع أبوابه ولن تستطيع ذاكرة المسلمين مَحْوَ اسمه وشخصيته لتفردّه في صُنع الأذى للرسول /الحامل للجديد/ حتى أنَّ سورة من سور القرآن الكريم قد أُفردت للحديث عنه. 
ومن قبل.. هل تُنسى التجربة الأليمة التي عاشها السيد المسيح.. حامل الجديد... أمّا على صعيد المجرّبين من الشعراء... فحدّث ولا حرج... وإلا فماذا يعني تأليب الفقهاء أصحاب القرار من الحكام على قتل الحلاج وبشار بن برد والسهروردي... وغيرهم؟ -هل كل هذا بلا قيمة معنوية أو فكرية...؟! وهل مرّ مشروع أبي تمام الشعري على القوم بهدوء وسلام..؟! 
الإجابة معروفة ويكفي أن نجد من يقول: "لئن كان ما يقوله أبو تمام شعراً فكلام العرب باطل" وفي بدايات عصر النهضة سيتعرّض جبران لهجوم من قبل ممثلي الثقافة القديمة حيث سيغدو كتاب "النبي" كتاباً عادي الآراء بعيداً عن المنطق وأنّ ما يكتبه جبران (احتقار للرجولة والإنسانية) كما يقول د. عمر فروخ في مجلة الأمالي... وهذه الشتائم تذكّرنا حتماً بما تعرّض له (وايت وايتمان) بعد أن أصدر ديوانه (أوراق العشب) عام 1885 ليسجّل بداية للشعر الحر (النثر) في أوربا وأمريكا.. لقد كتبت إحدى صحف بوسطن كما يسجلّها لنا جمال باروت في كتابه (الشعر يكتب اسمه): "يجب ألاّ يجد هذا الكتاب مكاناً بين قوم يتمسكّون بفضيلة احترام النفس... ويجب أن يُطرد المؤلف من كل مجتمع مهذّب كمن هو أحدٌ من البهائم...". 
هكذا تلحق الشتيمة بالمجددين في كل مكان من هذه القرية الصغيرة (العالم الأرضي) كما تُلصق الاتهامات بهم من كل حدب وصوب... ولعل الرواد منذ السيّاب وحتى الماغوط ومحمود السيد هم الأكثر تعرضاً للتهم الجاهزة والازدراء. 
والآن لنأت إلى القضية الأهم في بحثنا هذا.. أي إلى نقطة الضعف الكبيرة التي يراها بعضهم في قصيدة النثر والتي ينطلق معرضوها دائماً من دعوى لا تكاد تتغير وهي افتقارها إلى الموسيقى... 
في (الحرية والطوفان) يكتب جبرا إبراهيم جبرا عام 1960 عن ديوان توفيق صايغ (ثلاثون قصيدة) ما يلي //للشعر الحر (النثر) أصدقاء قلائل وأعداء كثيرون... وحتى الأستاذ مارون عبود وهو أشد النقاد اهتماماً باكتشاف المواهب الجديدة وتمحيصها، بعد أن جلل هذا الديوان بمقالين مسهبين قال إنه لا يستطيع أن يعدّ هذا الضرب من الكتابة شعراً... بيد أنه اعترف بأن كلام توفيق صايغ لو كان موزوناً مقفى... لوضعه في القمة من الشعر العربي//. 
إذاً الموزون المقفى...!! هكذا ظلّ حتى أفضل النقاد ينظرون إلى الشعر ويتعاملون معه رافضين أن يسمّوا كل كتابة منتهكة لهذه المحرمات شعراً... 
لكن جبرا لا يستكين حيث يتابع: "غير أن السنين القادمة التي سترى ولا شك تغلب الشعر الحر على تمنع النقاد، ستثبت أن هذا الديوان من أجرأ وأعمق ما صدر في العربية من شعر..". 
إذاً من يريد التجديد ويشعر أن لديه ما لا يمكن قوله إلا إذا جدّد فعليه أن يُدير ظهره لكل ما اعتاد عليه من أساليب الشعر مُلقياً عنه القديم إلقاءاً تاماً... هكذا فعل جبرا إبراهيم جبرا نفسه حيث كل واحد منهم كان محمولاً على لُجج من معانيه ومكتشفاته هو ومفجِّراً بطريقته أغواره ومحققاً قضيته.. بل قضيته ورؤياه.. 
هل يعني هذا أنّنا نرفض الشعر القديم من حيث هو شعر..؟! أبداً.. بل إننا نرفض أن نُبدع من ضمن أطره الفنية والثقافية التي صدر عنها... إنّ هوميروس أحد كبار الشعراء في العصور كلها... ومع ذلك ليس هناك أيّ شاعر أوروبي يقلّده الآن... وكذا الحال مع شكسبير وغوته ودانتي وغيرهم.. ألا يصحّ إذاً أن ينطبق الشيء نفسه على علاقتنا مع تراثنا الشعري... ومن هنا صار لزاماً على الشعر الجديد لكي يكون معبراً حقيقياً عن التجربة العربية الحديثة وشاهداً أميناً لعصره أن يختلف عما سبقه وقد يكون الإيقاع أحد أبرز عناصر الشعر التي طالها هذا الاختلاف وللذين لم يقرؤوا التاريخ جيداً نقول إنّ الهزة الأولى التي تلقاها العمود الخليلي لم تك بإيدي شعراء اليوم بل حدثت هناك في الأندلس وكانت نابعة من اللقاء الحضاري بين التراث العربي والشعر الأوربي ليتابع جبران وأمين الريحاني هذا الفعل وصولاً إلى روّاد قصيدة النثر المعاصرين الذين أسقطوا عمود الخليل تماماً.. 
إنّنا لسنا ضد الإيقاع الذي نجده ضرورياً حتى في النثر... ولكننا نريده إيقاعاً يعكس روح زمننا وضجيج أرواحنا... بل نؤكد أنّ الموسيقى تدخل كعنصر سري في صلب اللغة وليس في الشعر وحده فعلم المظاهر الحديث يولي اهتماماً كبيراً بالطريقة التي تلفظ بها الجملة (النبرة- التشديد- ارتفاع الصوت- هبوطه- الإيقاع الموسيقي للجملة) حيث ستصبح هذه الموسيقية جزءاً من المعنى الرمزي للجملة يدخل في بنيتها ولا يتحقق بدونها... ومن هذا الفهم لدور الموسيقى وأهميتها في اللغة على الشاعر أن يكون على دراية بالإيقاعات الشعرية وعلاقاتها وطرق تشكلها سواء في الشعر القديم أو الحديث حتى وإن أراد نفيها دون خوف من الوقوع في أسرها. 
إنّ أيِّ كشف لارتباط الشعر بالوزن في المراحل الأولى لتكوّن الحضارات يتطلّب عودة إلى البدايات التي نَجتْ من التحوير... وما من أدب يمكن أن يفيدنا في مسعانا هذا أكثر من أدب بلاد الرافدين (السومري والبابلي) باعتباره أقدم الآداب المعروفة في تاريخ البشرية... وفي كل هذه الآداب لم يكن في البداية سوى الشعر الذي ارتبط بالغناء والإنشاد... ويشير (طه باقر) في مقدمة ملحمة جلجامش التي نقلها إلى العربية إلى أنّ كلمة شعر الموجودة في كل اللغات القديمة تقريباً (ما يسمى بالسامية) تعني في اصل ما وضعت له الغناء والنشيد. 
إذاً فإنّ ارتباط الشعر بالغناء فرض الإيقاع الذي طبقاً للدراسات الحديثة لم ينحدر من الكلام نفسه وإنما جاء من الخارج ليدخل اللغة تدريجياً متّخذاً أشكالاً متنوعة كالأوزان... وفي هذا يكتب فاضل عزاوي في (بيان الحداثة): 
"إنّ الإطار الإيقاعي (الأوزان) وجد في البداية مستقلاً عن شكل تحققه اللغوي ولكنه ما إن دخل اللغة حتى صار نموذجاً لأشياء جديدة... وينبغي أن نفرّق بين الإطار الوزني للقصيدة وشكل تحقّقها اللغوي... فالوزن لا يصنع القصيدة وفي الشعر العربي أمثلة كثيرة على صياغات بعض العلوم (النحو مثلاً) شعراً ولكنها لا تمتّ إلى الشعر بصلة". 
في القصيدة العمودية يوجد البحر الشعري كوحدة موسيقية جاهزة وكشيء خارجي مسبق ومستقل عن القصيدة... صحيح أن في إمكان الشاعر أن يختار البحر الذي يريده ولكن ما أن يختاره حتى يصبح أسيره فهو إذ يكتب قصيدته سوف يكتشف أنّ هذه القصيدة تكتب نفسها أيضاً حين تفرض الموسيقى الخارجية كلمات القصيدة محدّدة حتى طريقة القول: "وبهذا فإن ما اعتبره العرب شيطاناً يلهم الشاعر قصائده ليس في الحقيقية إلاّ هذا الصوت الخارجي الموجود قبل القصيدة والذي هو صوت آلاف القصائد السابقة... ولذلك كانت النصيحة الذهبية التي يقدمها العرب إلى شعرائهم هي حفظ واستظهار أكبر قدر ممكن من الشعر كمؤونة لا بدّ منها لتمثل هذا الصوت" هكذا يتابع العزاوي حديثه في مكان آخر من (بيان الحداثة). 
إنّ ثبات وظيفية الشعر هي التي فرضت عليه ثبات إيقاعاته التقليدية طوال قرون، وإنّ الزحزحة التي حدثت بالانتقال إلى أوزان جديدة (أوزان المولدين) وظهور ما يسمى بالفنون السبعة قد ارتبطت بوظيفية جديدة للشعر أكثر إنسانية وطبيعية وحميمية أبرزت الشاعر كذات متفاعلة مع محيطها... ولكنها ظلت هامشية وعاجزة عن إزاحة الوظيفية القديمة التي لم تفقد بعد مبرّرات بقائها: 
يقول العزاوي في نفس المصدر السابق "ثمة من لا يزال ينظم الشعر على الطريقة العمودية حتى الآن وتجد قبولاً أيضاً وذلك لأنّ بعض العرب ما زال يعيش في الماضي أكثر مما يعيش في الحاضر.. إنّ أفضل شعرائنا العموديين الآن هم الأكثر ارتباطاً بتقاليد الشعر العربي حيث الشاعر مجرَّد مدّاح للملوك والأمراء بانتظار العطايا، وما يلفت النظر أنّ كل الشعر الذي يستهدف المديح والاستجداء قد نظم على النسق العمودي، وحتى الشعراء الذين يكتبون قصيدة حديثة يختارون الشكل العمودي عندما ينوون الحديث بعقل الماضي وعواطفه وليس في ذلك أيّ سرّ فالإيقاع المدوّي في الشعر العمودي هو إيقاع روح القبيلة عائداً إلينا من وراء القرون..". 
وهكذا... وبسبب هذه الخارجيّة الموسيقية التي وضعت كلّ القصائد العربية في عدد جاهز من القوالب (البحور) وأوصت ببحور معينة للحرب والمديح والهجاء عاكسة مستوى نفسياً وروحياً وفكرياً وجمالياً لبنية اجتماعية- تاريخية محددة انغلقت القصيدة على نفسها في مواجهة حاضر لم يعد قادراً على الاستماع إلى صوتها أو الاقتناع بمنطقها ورؤيتها إلى الحياة الجديدة، فإذا كان الشاعر العربي القديم قد استوحى بعض إيقاعاته من حركة خفّ الجمل أو النقر في سوق الضّارين فإنّنا مرغمون الآن على الاستماع إلى ما يسميه الشاعر الأمريكي (فيزلنفيتي) "التنافر الصوتي المطلق للآلات"... في مقابل الإيقاع الأحادي الذي يظل يتكرّر داخل القصيدة العمودية فإنّ الإيقاع الذي تقدمه قصيدة النثر هو أقرب إلى الموسيقى السمفونية التي تمتلك إيقاعات متعددة وانتقالات صوتية من مستوى إلى آخر ضمن العلاقات التأليفية للعمل كله. 
يكتب أدونيس في زمن الشعر: "شعرنا القديم يتكلم على العالم: شعرنا الجديد يتكلم العالم".. 
من هذا الفهم الجديد حاولت قصيدة النثر أن تضع نفسها ضد الغنائية المفرطة مقتربة من إيقاعات قادرة على عكس الحياة اليومية ومؤمنة بأن لكل شكل شعري موقفاً رؤيوياً من العالم وطريقة في النظر إليه والاقتراب منه... بمعنى أن لقصيدة النثر روحاً تقف وراءها مختلفة عن الروح التي تقف وراء القصيدة العمودية أو قصيدة التفعيلة، وأن لها آلية تحقّق معينة ومنطلقاً خاصاً هما ما يجعلان منها نثراً يختلف عن النثر الذي ينتمي إلى الأنماط التي نجدها في السياسة أو الصحافة بل يمكن القول إن قصيدة النثر تمتلك هي أيضاً أوزانها الخاصة وإن كانت غير عادية كما في قصيدة النظم حيث يكشف لنا الدخول إلى الحياة السرية للقصيدة النثرية كيفية تحققها الإيقاعي الداخلي... ولكن كيف..؟!. 
إنّ الأشكال التي تتّخذها اللغة الشعرية النثرية تقوم بخلق وزن لكل جملة معتمدة على النبرات والسكنات (الاتصال والانقطاع) غير العددية وهو نفس النظام الذي تقوم عليه القصيدة الموزونة (العروض) ولكن بوزن عددي مفترضاً وحدة زمنية (تقريبية) تتكرر في كل تفعيلة داخل القصيدة مقابل زمني نسبي بين النثر العادي والنثر الموزون كما انتبه إلى ذلك أيضاً ابن سينا في (النفس) / وفي/ الإشارات والتنبيهات/ الذي لاحظ ظاهرة وزن النثر في اللغة العربية وأوضح أن أشكال الوصل والفصل في الجملة هي أوزان الكلام مؤكداً أنّ النبرات تقرّب النثر من الشعر الموزون... ولعل أفضل مثال على الإيقاع العربي الذي يمكن أن يتحقّق في النثر هو في الصياغة القرآنية للآيات التي هي في الأغلب ليست جملاً كاملة ومع ذلك تنفصل عن غيرها من السور ثم تتصل بها بطريقة تعطي القارئ فرصة لكي يقرأها أو يرتلها بطرق إيقاعية مختلفة (القراءات السبع المعروفة) حيث يتحقق الزمن في كل مرة بشكل جديد. 
من جهة أخرى أنّ الميزان العروضي الذي وضعه الخليل بن أحمد واستند فيه إلى الوزن العددي أو الحركة أو السكون وهو نوع من اتصال الصوت وانفصاله هو ميزان غير دقيق وحول هذه الفكرة يتحدث فاضل العزاوي في (بيان الحداثة) بالتفصيل: "إن التوافق الموسيقي لا يتحقق في الشعر العمودي إلا بالطريقة التي يُلقى بها هذا الشعر... فالصوت هو الذي يتدخل لخلق الانسجام بحيلة خارجية مستقلة عن النص حيث يقوم الصوت بملء الفراغ الموسيقي وتقويم اضطرابه وهذا ما فرض الرتابة في طريقة إلقاء الشعر العمودي وأصبحت جزءاً عضوياً من حيث لا مناص من التنفّس بطريقة معينة لضبط حركة الشهيق والزفير ولكن حتى هذه الحيلة تعجز عن الوصول إلى ما اعتبره الفارابي قوام الشعر وجوهره "أي أن يكون مقسوماً إلى أجزاء يُنطق بها في أزمنة متساوية" كما في الموسيقى وقد أظهرت الدراسات المخبرية الحديثة للعروض استحالة ذلك لأن زمن النطق سوف يختلف بالضرورة في المقاطع الصوتية ما دام العروض العربي يعتبر مقاطع صوتية مغلقة مثل (لو- لم- يكن) مساوية لمقاطع صوتية مفتوحة مثل (ها-ذي-عدد) فالزمن في المقاطع الأولى هو أقصر كثيراً من الزمن في المقاطع الثانية..".. 
في الحقيقة أنّ الأوزان بعامة وليس في الشعر العربي وحده تقدّم مسافة تقريبية مُتخيَّلة للاستمرار الزمني للصوت في حين أنّ هذه المسافة الزمنية تظهر بدقة كاملة في الموسيقى، هذا الفارق الذي حلّله الباحث الألماني (أندرياس هوسلر) في دراسة له عن الوزن الشعري يتجلى عند مقارنته إشارات العروض بالسلم الموسيقي... وفيها وضّح أن ما يبرز في شعر الوزن فيما يتعلّق بالمسافات الزمنية هو تقسيمات طريقة إلقائه بعيداً عن أيّة إمكانية لاستخدام إشارات السلم الموسيقي.. يحدث هذا لأنّ الشاعر في إلقائه لقصيدته قد يطيل المقاطع الصوتية أو يقصرها... وقد يقرؤها بسرعة أو ببطء. 
أخيراً لا يسعنا إلا التذكير بنبوءة جبرا إبراهيم جبرا قبل أربعين عاماً حين استشرف المستقبل العظيم الذي ينتظر قصيدة النثر... مُذكرين في الوقت نفسه بأن إشكالية الاعتراف بقصيدة النثر كشعرٍ ما زالت قائمة ليس فقط في الأدب العربي فقط وإنّما في الآداب الأوربية أيضاً وخير مثال على ذلك الجدل الذي ثار حول هذا النمط من الكتابة حينما مُنحت مؤخراً جائزة بوليترز (وهي أكبر جائزة أميركية في الأدب) لمجموعة من قصائد النثر للشاعر تشارلز سيمنك
مجلة الموقف الأدبي - مجلة أدبية شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق - العدد 308 كانون الأول 1996

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads