الرئيسية » » رأسٌ حَليْق | خيسوس فيرنانديث سانتوس | الترجمة عن الإسبانية : كاميران حاج محمود

رأسٌ حَليْق | خيسوس فيرنانديث سانتوس | الترجمة عن الإسبانية : كاميران حاج محمود

Written By هشام الصباحي on الأربعاء، 12 أغسطس 2015 | أغسطس 12, 2015

خيسوس فيرنانديث سانتوس(1) 

الترجمة عن الإسبانية : كاميران حاج محمود



كانت ريحاً لطيفة. أوراق الأشجار تتطايرُ وتغطّي الشارع، تعلُو مُحلقةً فوق رؤوسِ الأشجار لتسقطَ من جديد. كان حليقَ الرأس تماماً، داكنَ الوجه بسبب العرق والشمس، وكان يرتدي سروالاً طويلاً من مُخمل. لم يكن قد أتمّ سنواته العشر بعد. كان صبياً صغيراً. كنّا نمشي عبر ذلك الطريق الواسع، متأرجحَيْن بتأثير حفيف أشجار الكينا المُورقة، ومحاطَيْن بدوّاماتٍ من الغبار والأوراق اليابسة التي كانت تجتاحُ كلّ شيء: زوايا المقاعد، والسياج،.. أوراقٌ صغيرة ضاربةٌ إلى الحُمرة أو تُرابيّة اللون من شجر الكستَناء القزم أو البَتُولا، كانت تملأ كلّ الفراغات مهما صغُرت، وتلتصقُ بنا التصاقَ الروح بالجسد.

كانت ظلالُ السيارات تعبرُ سوداءَ ومُضيئةً، ثم تشتدّ درجةُ لون مصابيحها الخلفيّة مُتحوّلةً من حمراءَ إلى أُرجُوانية. ومع أنّ الطقس لم يكن بارداً إلا أننا اقتربنا من نارٍ، كان حارسُ الأشغالِ في الطريق يُحرِق فيها أغصاناً من الكينا، فتُشيعُ في الهواء عبقَ ريفٍ أخضرَ فسيح. مكثنا هناك برهةً نملأُ رئاتنا من ذلك العبق؛ حتى بدأ الصبيّ بالسعال من جديد.

-«أتشعرُ بالألم؟»، سألتُه.

فأجاب:

-«قليلاً»، متكلّماً بمَشقّة.

-«بوسعِنا أن نبقى لوقتٍ أطول قليلاً، إن أردت».

أجاب بنعم، فجلسنا. كانت ضخمةً تلك الأشجار، تطفو من حولنا، وكانت هبّاتُ الريح تُحدِثُ في ذرواتها طنيناً متواصلاً يتصاعدُ من حين لآخر. وبعيداً، هناك وراء البِركة، حيث كان خيطُ النافورة يتدفّقُ نحو الأعلى، كان بالإمكان رؤيةُ الناس وهم يعبرون: الثيابُ ملتصقةٌ بالأجساد، والعُشاق متعانقون.

عاودَ الصبيُّ الشكوى مرّة أخرى.

-«أتتألّمُ الآن؟».

-«هُنا، قليلاً...».

أدخلَ يدهُ تحت قميصه. كان جلدُه أبيضَ دون أيّ أثرٍ للزغب، متشقّقاً كأيادي أولئك الذين يعملون في الماء في أثناء الشتاء. شعرَ بالخوف من جديد. وأنا أيضاً، لكنّني كنتُ أبذلُ ما بوسعي لتهدئته.

-«كُنْ صبوراً، سيزولُ كما في الأمس».

-«وإن لم يزُل؟».

-«أيؤلمكَ كثيراً؟».

كان الحارسُ ينظرُ إلينا في ريبةٍ، إلا أنه لم يقلْ شيئاً عندما استندنا إلى صندوق الأدوات. راح يقلي سرديناً في مقلاةٍ صغيرةٍ بدتْ مثل لُعبة. في ضوء اللهب البرتقاليّ، كانت رائحةُ الدّهن تختلطُ بأريجِ الخشبِ المُستعِر.

-«إنّ هذا الصبيّ ليس على ما يُرام».

-«ماذا تقول! إنّه البرد ليس إلّا».

لم يكنِ الصبيّ يتفوّهُ بأيّة كلمة. كان ينظرُ إلى النار بخَدرٍ، شِبه نائم.

-«ليس بحالٍ جيّدة...».

قال الحارسُ، ولم تعدْ ملامحهُ الآن عابسةً كثيراً. بصقَ الصبيّ في النار، وبقيَ صامتاً.

-«سيُصابُ بذاتِ الرئة وهو جالسٌ هنا»، أضاف.

وقفتُ وأمسكتهُ من ذراعه، نصف نائم كما كان.

-«هيّا، هيّا بنا»، قلتُ له.

قليلاً قليلاً، ابتعدتُ به عن النار وعن نظراتِ الحارس. بينما كنّا نمشي، ولأشجّعهُ قليلاً فركتُ بيدي رأسَهُ الأصلعَ الناعم، وفي الوقت نفسه رحتُ أقول له:

-«لا شيء، يا رجل!»، لكنّه لم يكن يجرؤُ على تصديق ذلك. وكما لو أنه لم يكن كافياً، أتى صوتُ الآخر من الخلف:

-«يجبُ أن يكشفَ عليه طبيب».

-«لقد فحصَهُ يوم أمس».

وهذا ما حصلَ عند الطبيب: لأننا لم نكن نعرف أحداً، ذهبنا إلى المستشفى. انضممنا إلى صف الانتظار خارج العيادة في غرفةٍ عاليةٍ وبيضاء، فيها كُوّةٌ من زجاجٍ غير مصقولٍ أعلى الجدار، وبابان في كِلا الطرفين كانا يُفتَحان بصورةٍ مستمرّة. كان الناسُ ينتظرون جالسين على مقاعدَ على طول الحائط الأماميّ، ويتحادثون؛ بعضهم انزوى إلى الصمت، كانت عيونهم ثابتةً كسولةً تُحدّقُ في الحائط المقابل. كانت الممرضةُ تفتحُ أحدَ البابين وتقول: «التالي»، وفي تلك اللحظة كان هناك من يخرجُ، مودّعاً الطبيب: «عمتَ صباحاً، دكتور».

إمرأةٌ كانت قد نسيت شيئاً في العيادة، فدخلت مرّة أخرى. خرجت على عجلٍ من دون أن تنظرَ أو تحيّي أحداً. راحت تصرخ: «إنه يموت، إنه يموت...». كان الجميعُ يحدّقُ في بلاط الأرضيّة، كما لو أنّ أحداً لم يكن قادراً على تحمُّلِ نظراتِ الآخرين؛ شابٌ هزيلُ الوجهِ راح يشتمُ عدّة مراتٍ لاعناً بصوتٍ منخفض.

كان الطبيب ينظرُ إليّ بينما كان يفحصُ الصبيّ بالسمّاعة. أعطانا ورقةً كَتبَ عليها عنواناً من أجل أن نقصدهُ في اليوم التالي.

-«أهُو أخوك؟».

-«لا».

في اليوم التالي، لم نذهب إلى العنوان المُدوّن في الورقة.

كان قد ازدادَ انحناءً، لا بدَّ أنه كان يُقاسي كثيراً من ذلك الوخز في جنبه. كان يتصبّبُ عرقاً بسبب الحمّى، وكان جبينُه يلتمعُ بقطراتٍ صغيرةٍ انْبجَست منه. رحتُ أفكّر: «إنه في صحّةٍ سيّئة، ليس لديه نقود. لن يتحسّن لأنه لا يملك نقوداً. صدرُهُ يُؤلمه، إنه مصابٌ بالسلّ. إنِ استجدى المارّةَ، فلن يجمعَ حتّى عشر بيسيتات. سيلقى حتفهُ بلا شك. لا يعرفُ أحداً. سيموت، فبسبب ذلك يموت الكثير من الناس. حتى وإن مرّ من هنا الرجلُ الأكثرُ سخاءً في العالم، فإنه سيموت».

جمعنا ثلاث بيسيتات، وقرّرنا أن نشربَ القهوةَ لنشعرَ بالدفء. 

-«سيزولُ الألمُ مع الدفء».

كان مقهىً خالياً سيّيء الإضاءة، الكراسي على الجوانب، ومنضدةُ الخدمة في العُمقِ تمتدُّ من الحائط إلى الحائط مُغلِقةً إحدى الزوايتين، والنادلُ العجوز الجالس، كان ينهضُ فقط ليخدم الزبائن دائِمي التردُّد، فقد كان يُعاني من مرضٍ في القلب. ثلاثةُ قَرويّين كانوا يلعبون الدومينو.كانت تُسمعُ أنغامُ التانغو بين نفخِ ماكينةِ القهوة، وضرباتِ أحجارِ الدومينو على الرخام.

جلسنا لبرهةٍ قصيرةٍ فقط، بالضبطِ لما استغرقَهُ تناولُ القهوة. وعند خروجنا كان كلُّ شيءٍ على حاله: العجوزُ خلف الطاولة يتأمّلُ قدميه المتورِّمتَين، الآخرون الذين كانوا يلعبون، والرجلُ الذي كان يُديرُ الراديو متحكّماً بأزراره. بدتِ الموسيقى والضوءُ وكأنّهما سيتلاشيان فجأة. ناظرين إليهم للمرّة الأخيرة، بدوا لنا كذكرى أليمة سوداءَ وحزينة.

في الطريق، تحت الأشجار، عادَ ليشكوَ مرّة أخرى، وأراد الجلوس. كنّا ندوسُ العشبِ في العتمة. وجدَ لنفسهِ شجرةً عريضةً ومُورقة، أسندَ ظهرهُ إليها، ثم انفجرَ باكياً. داعبتُ رأسَهُ المستديرَ من جديد؛ وحين أخفضتُ يدي، كانت قد انذرفتْ دمعةٌ من عيني. كان يبكي جاثياً على رُكبتَيهِ، على قبضتَي يديهِ المُغلقتَين فوقَ التراب.

-«لا تبكِ»، قلتُ له.

-«سوف أموت».

-«لن تموت، لا تمُتْ...».



(1) خيسوس فيرنانديث سانتوس (مدريد 1926 - 1988)، واحد من أهم الروائيين الإسبان في القرن العشرين. عمل في كتابة السيناريو والإخراج في المسرح والتلفزيون والسينما، لكن عمله الأكبر كان في الأدب. شكّلت روايته الأولى (الشجعان LOS BRAVOS ، 1957) إلى جانب أعمال مشابهة لكتّاب آخرين من الحقبة نفسها - إبّان مرحلة ما بعد الحرب الأهلية الإسبانية -

منعطفاً محوريّاً في الخمسينات نقلَ الرواية إلى تجديدٍ تأسّسَ على أرضيّة الواقعية الاجتماعية. حصلت أعمالٌ له على أهمّ الجوائز الأدبية، كرواية «رجل القديسيّين EL HOMBRE DE LOS SANTOS، 1969» التي نالت جائزة النقد الإسبانية في الأدب، و«خارج الأسوار EXTRAMUROS، 1978» التي نالت الجائزة الوطنية للآداب في إسبانيا، وغيرها العديد. وله عدة مجموعات قصصية، أشهرها «رأس حليق CABEZA RAPADA، 1985» التي فازت بجائزة النقد الأدبي أيضاً.


التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads