الرئيسية » » • كتاب الساعات المعدودة... خوسيه ماريا ميرينو | ترجمة: حمادة محجوب الوراقى

• كتاب الساعات المعدودة... خوسيه ماريا ميرينو | ترجمة: حمادة محجوب الوراقى

Written By هشام الصباحي on الأحد، 23 أغسطس 2015 | أغسطس 23, 2015

ترجمة: حمادة محجوب الوراقى

خوسيه ماريا ميرينو José María Merino، عضو بأكاديمية اللغة الإسبانية، من مواليد لا كورونيا 1941، أمضى سنوات عدة بمقاطعة ليون، ثم ارتحل إلى مدريد مع عائلته حيث أتم دراسته الجامعية فى الحقوق، وعمل بوزارة التعليم. ساهم فى مشروعات منظمة اليونيسكو فيما يتعلق باللغة الإسبانية بأمريكا اللاتينية. مثلت بعض القواميس والروايات التى كان يقتنيها والد خوسيه ماريا ميرينو فى مكتبته أول قراءات أديبنا، وقد زرعت الفضول فى شخصيته ونشأ بفضلها على حب الأدب.

بدأ حياته الأدبية بكتابة الشعر، ونشر أول أعماله سنة 1972، بعنوان Sitio de Tarifa "مكان التعريفة"، ثم عرف كروائى سنة 1976، مع نشر "رواية أندريس تشوث" التى حصل بها على جائزة الروايات والقصص. كما حصل على جائزة النقد سنة 1985، وجائزة الـ NH للكتب والحكايات والناشرين سنة 2003، وحصل أيضًا على جائزة السولومبو Solombó سنة 2008، وجائزة ميجيل ديليبيس للرواية Miguel Delibes عن رواية "الوريث" سنة 2003، وجائزة رامون جوميث Ramón Gómez للرواية عن "المكان بلا تهمة" سنة 2007، كما حصل أيضًا على جائزة جونثالو توررينتى باييستير Gonzalo Torrente Ballester.

تولى خوسيه ماريا ميرينو رئاسة مركز الآداب الإسبانية بوزارة الثقافة ما بين عامى 1987 و 1989، وتفرغ للأدب تمامًا اعتبارًا من سنة 1996. أسرة خوسيه ماريا ميرينو مرموقة فى الناحية العلمية والفنية، فزوجته الأستاذة كارمين موربيرتو لابوردا، أستاذة اقتصاد الشركات وإحصائيات التكاليف بجامعة كومبلوتينسى Complutense، وابنتاه الدكتورة ماريا ميرينو أستاذة القانون الدستورى بجامعة الملك خوان كارلوس بمدريد، والأستاذة أنًّا ميرينو، شاعرة وكاتبة مسرحية، بالإضافة إلى كونها أستاذة مشاركة بجامعة لوا بالولايات المتحدة الأمريكية.

خوسيه ماريا ميرينو راعى شرف بمؤسسة اللغة الإسبانية، وكان رئيسًا شرفيًّا لمؤسسة كتب الأطفال والشباب بمقاطعة ليون، كما تم اختياره ضمن أعضاء أكاديمية اللغة الإسبانية اعتبارًا من مارس 2008، وأُطلق عليه "ابن ليون بالتبنى". وهو أيضًا عضوٌ راعٍ بمؤسسة أليكساندر بوشكين فى 2005، وقد أطلقت عليه وزارة الثقافة الدنماركية لقب "سفير هانس كريستيان أنديرسين"، وأخيرًا حصل على لقب دكتور "هونوريس كاوسا" سنة 2014 من جامعة ليون. فيما يلى ترجمة لبعض القصص القصيرة ذات البعد الفلسفى، من كتاب "الساعات المعدودة" للأديب العبقرى خوسيه ماريا ميرينو.

 

ليلة الأرواح

كان الوقت ليلاً، وكان وحيدًا فى ذلك البيت الواسع المفقود –التائه- فى الجبل، فتح زجاجة الخمر، وقال هامسًا: "فى صحة الأوقات السعيد"، كان يحتسى الخمر من الكأس بالقرب من النار. وفجأة، ظهر الأصدقاء القدامى حوله، وكأن الأيام لمْ تمُر. صخبت الضحكات لدى تذكُّر حكاياتٍ مشتركةٍ، وترنَّم الجميع بأغانٍ حزينةٍ وأخرى سعيدة. تمتم قائلاً: "صديقى الخمر، شكرًا على صحبة أرواحك".

 

وحى

ذكَّرته تلك السيدة الشابة الجالسة أمامه فى عربة المترو، والتى لم تبدُ سعيدةً إلى حدٍّ ما، ينبت شعرها من جبهتها تقريبًا، وطريقة لبسها قديمة، بأدق تفاصيل صورة أمه قبل زواجها، تلك الصورة المحفوظة فى الألبوم الذى ورثه عنها بعد وفاتها. كانت ملامحها مطابقة لملامح أمه، حتى الطابع الحزين لعينيها ودوران شفتيها الضبابى. حتى حضور تلك السيدة كان يشبه نفس الطابع الهزلى للصورة الفوتوغرافية. بمجرد أن تعرف على هذا المحيا وربطه بتلك الشخصية، أدرك أنها لم تكن المرة الأولى أن يحدث مثل هذا الانطباع المألوف، على الرغم من أنه لم يركز اهتمامه كثيرًا على الهدف.

منذ ذلك الحين، وهو يتنقل بالمترو لا يهدف لغير ملاحظة الركاب، وخلال الشهر التالى، كان قد تعرف على ملامح أشخاص آخرين من أقربائه قد ماتوا: وجد ملامح أبيه فى شاب يشبهه حتى فى تلك الملابس العسكرية التى كان يرتديها فى صورة قديمة. وجد شبيهة لإيفانخلينا زوجته، وشبيها لجده أدولفو، وشبيهة لأخته تشون فى شابة شقراء نحيلة، ورجلاً أصلع ذا كتفين محملَيْن، وطفلة ذات عينين جاحظتين.

شيئًا فشيئًا، ظل يجد وجوهًا وأجسامًا تشبه العديد من الأموات الذين كان يراهم فى حياته، والذين كانت لهم صورٌ ذات طابع غامض فى ذلك الألبوم. ذات مساءٍ، صدمته صورة منعكسة على زجاج نافذة المترو حيث كان يجلس وحده فى ذلك المكان من العربة، بينما كان يعكس الزجاج صورة رجل ذى شعرٍ أسودَ، حليق اللحية بدلاً من أن تعكس صورة تلك الشخصية الآيلة للسقوط، ذات الرأس الأشيب واللحية، كانت هذه الصورة المنعكسة على الزجاج هى ذات صورته الفوتوغرافية منذ سنوات عدة مضت.

فى تلك المرة، عندما عاد إلى بيته، لم يتذكر جيدًا مسار الرحلة، كما لو كان بدلاً من أن يتجول بأماكن حقيقية، قد طاف فى ذاكرته برغبة فى التلاشى.

والآن، أصبح دومًا فى المترو ينسى كل ما حدث شيئًا فشيئًا. ربما يومًا ما يتأمل أولادُه صورةً، تُذكرهم بصورة ذلك المحامى المرتدى حُلة من الموضة الحديثة، والذى ظل رئيسًا لمكتبه حتى وفاته.

 

الأزواج التخيلية

حاصلة على جائزة ميتيوريتو الأولى للرواية

الفصل الأول: مونيكا وبيدرو وفران أصدقاء لا ينفصلون منذ أيام الكلية. عاشقان يحب أحدهما الآخر، ولكن فران لم يكن يحكى ذلك لأحد، حتى لا يعوق بيدرو، الذى ينتهى به الأمر إلى الزواج من مونيكا.

الفصل الثانى: ظل الثلاثة يلتقون كثيرًا، حتى إن فران كان يذهب للعشاء فى بيت الزوجين كل جمعة.

الفصل الثالث: بعد عودة فران من رحلة عمل، وجد أنه لا أحد من أصدقائه يرد على اتصالاته التليفونية. اتصل بمكتب بيدرو ففهم أنه قد وقع لهما حادث سيارة، وأن بيدرو قد مات ومونيكا طريحة بالمستشفى فى غيبوبة.

الفصل الرابع: تأخرت مونيكا عدة أشهر حتى خرجت من الغيبوبة. عندما أخبروها بأن زوجها قد مات، ظلت هادئة جدًّا.

الفصل الخامس: عادت مونيكا إلى بيتها وفران يفهـ...، ظلت مونيكا تستقبل فران فى بيتها أيام الجمع، وهو يتصرف كأن شيئا لم يكن، تمامًا كما لو كان بيدرو لا يزال حيا ويعيش معها.

الفصل السادس: هكذا مرت عدة سنوات. وذات يوم، قالت مونيكا إنها تنتظر ولادة طفل، بعد ذلك أعلنت أنها فقدته...

الفصل السابع: يظل فران يعشقها بِوَلهٍ، ولكنه لم يجترئ على إخلال توازن العالم الذى يعتقد أن مونيكا تعيش فيه. وبالإضافة إلى ذلك فإن مونيكا لم تَبد أية علامةٍ تدل على أنها غير طبيعية.

الفصل الثامن: ذات يوم اعترفت مونيكا لفران بأنها سوف تُطلَّق من بيدرو، لأنها لم تعد تحبه. استقبل فران الخبر بسعادة، واستعد لاحتلال مونيكا، رافقها، اصطحبها معه لحضور العروض والذهاب إلى المطاعم.

الفصل التاسع: ذات يوم، قالت مونيكا لفران أن بيدرو قد خرج من حياتها، دعته لتناول العشاء فى بيتها، وفران يستعد للاحتلال الذى قد قرره.

الفصل العاشر: على الرغم من أنه لم يكن هناك أحد فى الصالون، قدمته مونيكا لشخص مزعوم يدعى والتر، ومن الواضح أن والتر هذا كان صديقًا حميمًا لمونيكا، ومن الواضح أيضًا أنها كانت تعيش معه قصة حب.

الفصل الحادى عشر: فهم فران أن مونيكا لا تزال أسيرة الهذيان، ولكنه مادام الأمر لا علاقة له ببيدرو، فقد حاول منافسة والتر المزعوم، والذى يبدو أنه كثير السفر.

الفصل الثانى عشر: ذات ليلة، حلم به، طويل القامة ذا لحية حمراء، يعاتبه على تنافسه، ولكن فران ظل على تعهده باحتلال مونيكا، والتى فى النهاية تترك والتر وتدخل فى افتراضات فران.

الفصل الثالث عشر: يتزوج مونيكا وفران. منذ ذلك الحين، بدأ والتر فى الظهور فى أحلام فران، أحيانًا مهددًا وأحيانًا متضرعًا.

الفصل الرابع عشر: تَحْبَل مونيكا، وطوال مدة حملها، لم يكُفِ والتر عن الجوْس فى أحلام فران.

الفصل الخامس عشر: تنجب مونيكا طفلة، ويختفى والتر من أحلام فران، وتكتسب حياته طابع الأشياء الحقيقية.

انعكاس البريد

أجدادى الأعزاء، ها هو ذا النهر الذى يمر أمام البيت. يسمونه الكون، وهو هائل. كثيرًا ما نغوص فيه لنصطاد، فهو ملىء بقطع الأشياء، بعضها لذيذ الطعم. جميع الشموس تعرف نفس الشىء: تلسع بشدة؛ المذنبات، بأذيالها المفرطة الطول، تستمتع بالجذب، على الرغم من أنها تبدو لطيفة، ولكن الكواكب الزقاء، ذات المدارات الواسعة السوداء، غنية جدًا، متألقة بكثير من العصير. المؤسف فى الأمر أن الكثيرين...

سنقضى إجازة رائعة. قبلاتى إليكما، من حفيدتكما التى تحبكما.

 

عملية مبتورة

قشر برتقال، وقشر بيض، وقشر موز، وقشر كمِّثرى، وأغلفة جبن، وعظام دجاج، وأشواك ورءوس سمك، وبقايا حساء، وعُلب -حفظ أطعمة- فارغة بها بقايا زيت، وعُلب بها بقع زبادى، وعدة حفاضات متسخة. سيستمر غياب العائلة أسبوعًا، ودرجة حرارة المطبخ خمسة وعشرين درجة مئوية. تكاثر بيكتيرىٌ سريع، بوغات الفطريات منتشر. ظروف المكان ملائمة لاحتضان الحياة. ليلة اليوم الثالث، اتحد نشاط الكائنات الدقيقة مع مجىء الذبابات البنفسجية لوضع بيضها. ليلة اليوم السادس، بدأت تتجمع النُّقاعيَّات التى تتحرك فى السائل المنحسر فى قاع الإناء على شكل تلال. ولكن العائلة ستصل فى اليوم السابع، ما هذه القمامة المقرفة! كيف لم تتخلصوا منها، سيقومون بتهوية المطبخ، وسيحطمون الشنطة ذات الرائحة الكريهة، سيقطعون العملية التى جعلت سلالة النقاعيات بالكاد تتخيل: "أنا أفكر، إذن أنا موجود".

 

قمة شمَّاء

سلسلة الجبال تحميه منذ ملايين السنين، كحيوان ضخم فى القطيع. تمر الفصول، وتمر الغيوم، تنقضى حياة النباتات وحياة الحيوانات فى الوديان المعزولة. ننتهى نحن. أمر لا يتغير، بعيدًا عن هذه الظروف الزائلة، سيظل هو هنالك عندما نكون قد تلاشينا. لن يتوق لأن يكون قد سُمى باسم. أيمكن أن يكون هناك وجودًا أكثر روائية من هذا؟

 

الرشاشيات

تمر الساعات بطيئةً فى المستشفى، حيث يتسع الوقت لتناقل الأخبار فى العديد من الأماكن، يتسع أيضًا للتجول وإعادة للتجول فى نفس المكان، كما لو كانت أدق تفاصيل أحداث كل وردية، كالترمومتر والحفاضة وغيار الجروج وتغيير المحلول وزيارات الأطباء والممرضات والوجبات وتعاطى الحقن وأقراص البرشام لا يمكنها سحب الساعات إلى الخارج.

هنا بالداخل، أخبار كل وفاة تحظى –تقريبًا- بأقل قدر من الاهتمام. على الرغم من أن كل وفاة تتبعها أخرى، وعلى الرغم من أن تتالى حالات الوفاة يشكل خطًا ثابتًا يضع علامة القمة وسط الساعات، إشارة غير مفهومة، على الرغم من غموضها ودقتها، نفضل ألَّا نتأملها.

يتحدث خبر اليوم مرة أخرى عن الفطر اللعين، وعن أن غرف العمليات بهذا المستشفى غير مُعدة جيدًّا للتصدى لمثل هذا النوع من الفطريات. وفيما يبدو أن الأمر كان كذلك فى غرف عمليات المدن الأخرى.

نحن المرضى، لم نسأل الممرضات ولا الأطباء عن شىء، لأننا نعلم أن هذا يضايقهم، ولكن منذ أن أدركنا أن الفطرقد استفحل تهامسنا بما أٌذيع فى الراديو أو التليفزيون، المستشفى الذى ظهرت فيه حالات وفاة بسبب الفطر، سجلت أربع حالات وفاة هناك على الأقل، الدوامات السياسية التى بلغت مداها، تلقى بنفاياتها من رأس إلى آخر.

ذات يوم قام أحد الأشخاص بقص صورة الفطر التى نشرتها الصحف، وتأملناها، فكرنا فيها. يتخذ هذا الفطر شكلاً مفرَّعًا، يشبه باقةَ من الزهور المتجمعة فى ساق واحد. قال أحدهم إنه يبدو كباقةٍ من القرنبيط. زهورٌ صغيرةٌ لا يمكن رؤيتها لصغير حجمها، والتى ربما لها حدائقها الصغيرة هنالك، من يدرى أين؟! ولكنها تحمل الموت فى مجموع باقاتها الغير مرئية.

لو كُنا صغارًا مثلها، غيرَ مرئيين، ربما كان من المحتمل أن نُعجب بألوانها، بل ربما وصل الأمر إلى أن نجمع هذه الباقات لنُزيِّن بها ما قد تكونه أشياؤنا الصغيرة. من يدرى؟! لعل لها روائح ذكية، روائح تجذب الحشرات الصغيرة بالنسبة لها والتى ربما تطير حولها.

فكرنا فى أن كل شىء مترابط، حتى إننا لا ندرى إن كنا كبار الحجم أم صغارًا، ولذلك شعرنا بأننا ضعفاء جدًّا لجهلنا بهذا العالم الملىء بالأسرار التى لا يمكننا حتى مجرد فهمها.

 

شخص المرآة

هذا الشىء الظاهر فى المرآة ليس أنا. أنا ليست لدى هذه اللحية، ولا هذا العرف، ولا هذه الندبة الضخمة فى وجهى. فزعت بشدة لدرجة أنى هُرعت إلى المطبخ، لأقص على زوجتى هذا الأمر. ولكنها بمجرد رؤيتى، أطلقت صرخات هيستيرية:

- من أنت؟ وماذا تفعل هنا؟ أغثنى يا بيدرو، لقد دخل بيتَنا لصٌّ!!!

حيث إننى أدركت أنى لن أستطيع تهدئتها، عدت إلى الحمام، وحاولت التحدث إلى ذلك الشىء الذى ينظر إلىَّ من المرآة، طلبت منه أن ينصرف، وبينما لا أزال منهمكا فى محادثتى المستحيلة، وصل البوليس، وألقى القبض علىَّ، وأخذونى إلى قسم الشرطة.

هناك شخص آخر مقبوض عليه، نظرت إليه فى دهشة يملؤها الذعر: جسمه هو جسمى، بلا شك لا بد أن يكون جسمى هو جسمه، من طريقة التِفاتَتهِ نحوى كان يطالبنى بأن أرُدَّ إليه جسده. أىُّ القضاة يمكنه أن يفصل فى هذه القضية؟

 

الوباء

اعتاد الساسة أن يخيفونا عندما يظهر أى مرض قاتل. على مر السنين، وبعد العديد من التحذيرات والكميات الهائلة من اللقاح المختزن، تأكدنا من أن نتائج تلك الأمراض المعدية شديدة التهديد، لم تكن أسوأ من أية أمراض موسمية. إلا أنه فى تلك المرة، ظل الوباء ينتشر فى العالم ، يصطحب معه الموت العرم. رأيت والدىَّ يموتان، إخوتى يموتون، بقية عائلتى تموت، أصدقائى يموتون. رأيت الجيران يموتون.

وصلت أخبار تتحدث عن موت فى جميع أنحاء العالم، ولكنى كنت أعجب أنى لا أزال سالمًا. كنت أيضًا قانعًا على الرغم من حزنى الصريح، لأنى كنت لا أزال أخشى الموت. وصل الوباء لمرحلة مفجعة، حيث أصبح عدد الناجين فى كل مرة أقل من المرة التى تسبقها، وملأت الجثث التى لم تدفن بعدُ مدينتى برائحة النتن. وبعد أن لم يعُد هناك حىُّ بتلك المدينة، ذهبت أبحث عن ناجين فى أماكن أخرى، لكنى لم أجد أحدًا أبدًا. كنت الآدمىَّ الوحيد على ظهر الأرض، بين العديد من سلالات الحيوانات المختلفة.

اكتشفت أيضا أنه بالإضافة إلى أن الفيروس المدمر لم يصبنى بضرر، إلا أنه قد جعلنى خالدًا. بدأت أتمنى الموت، حاولت أن أموت، ولكن دون أدنى جدوى.

مر الزمن، وبدأت أفراد السلالات الأخرى تدرك الوعى. بمرور آلاف السنين، رأيتهم ينشئون مزارعهم ومساكنهم، رأيتهم يبدءون تصنيع أشياءهم. رأيتهم يكتبون. عندما يروننى، يقتربون منى بإيماءة احترام، يفركون بطونهم الضخمة كثيفة الشعر بركبتىَّ، يتمتمون هامسين بتحية الاحترام. فى هذه الحياة التى لا نهاية لها ولا هدف فيها، كانت هذه السلالات من الحيوانات هى سلواى الوحيد، إلا أنى أعتقد أنه يومًا ما سيأتى وباء ويقضى عليها.

 

أنَا

منذ كنت طفلاً وأنا أتخيل أن القمر ليس هناك فى الأعلى، وإنما هنا، بداخلى أنا، وأن نظرتى إلى السماء هى التى تطبعه عليها كما تطبع عدساتُ الماكيناتِ مشاهد الأفلامَ على شاشة السينما، بمرور السنوات، أدركت أنى كنت محقًّا: القمر بداخلى، والشمس بداخلى، بل ودرب التبانة، وهذه المجرات التى تبدو بعيدة وواسعة. و سأسعى لأن تظل هنا بالداخل قرون القرون. بمعنى آخر، ما دمت حيًّا.

 

غارقٌ

كنت ألاحظ الفنجان، باهتمام شديد، شكل المجرة الذى يتشكل على سطح القهوة، ذوبان حبيبات السكر. وفجأة، بدت الدائرة السوداء فى حجم هائل، سقطت فى الداخل، وظلت تسبح فى الكون الأسود، محاطة بعدد لا نهائى من نقاط اللمعان البعيدة. بدا وكأنه تند عنها استفهامات وكلمات إنذار، بعد ذلك تميَّز صوت صفارة لسيارة إسعاف، كلماتٌ جديدةٌ بدأت تدوى فى خارجٍ منتشر. لا تشعر بأىِّ ألم، بينما لا تزال تسبح فى هذا الفضاء الهائل، بين تألق النجوم السحيقة البعد. أنا نجم غارق، أفكر، ببهجة غامرة.

 

هوية

هذه الليلة، وقعت معارك بين النمل حول أشجار يسمونها البلوط، والأرض المزروعة فى العديد من النقاط، تتبعثر فيها عشرات الرءوس الصغيرة السوداء المفصولة عن أجسامها. عرض التليفزيون صورًا لأجسام آدمية غارقة فى دمائها، مشوهة بسبب قنابل الإرهابيين، أو بسبب القصف فى العديد من الأماكن. تأكد يقينى بأن هناك رابطًا عميقًا يربط جميع الكائنات الحية، بدءًا من النمل وانتهاءً بالإنسان، إلا أن الآدميين يظنون أنهم فوق كل سكان الكوكب. لكنى قررت أن أواصل البحث، قبل اتخاذ القرار الحاسم.

 

الصوت الصغير

تتحدثون عن الكون؟ الذرة هى الكون. تتحدثون عن الحياة؟ الخلية هى الحياة. تتحدثون عن الفضاء؟ الفضاء بكامله يمكنكم جمعه فى كف يدكم. تتحدثون عن الزمن؟ اللحظة الحالية هى عين الخلود.

ولكن صوته كان صغيرًا جدًّا، ولم يفهم أحدٌ.


التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads