الرئيسية » , » • وليم باتلر ييتس: أسوأ الشعراء الموتى |ترجمة وتقديم: أنطونيوس نبيل

• وليم باتلر ييتس: أسوأ الشعراء الموتى |ترجمة وتقديم: أنطونيوس نبيل

Written By هشام الصباحي on الأحد، 23 أغسطس 2015 | أغسطس 23, 2015

ترجمة وتقديم: أنطونيوس نبيل

 

توطئة هذيانيَّة

فلتكن هذى المحاورة الساذَجة سبيلى للهروب من صقيعِ التَّعاريفِ النَّمطيَّة المَقيتة، التى تبدو فى بَلادتِها خليطًا مِن شواهدِ القبور ومُلصَقَات السِّلَعِ الاستهلاكيَّة:

- مَن أنتَ يا سيد ييتس؟

- محضُ أحمق. لكن "الحمد لله؛ فالرجال جميعهم حمقى".

- هذا منتهى التواضع مِن شاعرٍ عظيمٍ حاصل على جائزة نوبل.

- كفى سخافةً؛ فحين هاتفنى صديقى صائحًا فى حماسٍ مُنتشٍ: لقد حصلتَ يا ييتس على جائزة نوبل المرموقة وهذا شرفٌ عظيمٌ لكَ ولأيرلندا"، أجبتُه متسائلاً" كم قيمتها الماليَّة؟".

- كنتَ فقيرًا يا سيدى؛ الفقرُ ديدنُ مَن يلاحقون الفراشاتِ التى ترفرفُ فقط فى أحلامِهم المحفوفة بالشَّكِّ، بينما الآخرون -الملعونون بداءِ اليقين- يهللون مهتاجين للعِقْبانِ الحديدية وهى تصبُّ شظايا الموتِ على رءوسِ البشر وتسلخُ بأظفارِها الصَدِئة جلودَ الأشجار الرضيعة.

- كفى ثرثرةً؛ لم أكن وفيًّا لذاك الفقرِ الذى تتغزَّل فيه بتعابير شائهة.
- ألم تقل لمعشوقتِك " لكننى فقيرٌ لا أملك سوى أحلامى لأنْشُرها تحت قدميكِ، خَفِّفِى الوطءَ فأنتِ تخطوين على أحلامى"؟.

- لم يكن الفقرُ ما حال بينى وبينها.

- هل كانت السياسة اللعينة إذن الحائل بينكما؟

- لا. بل، شعرى!

- كيف، لستُ أفهم؟

- هكذا قالتْ: إنَّكَ تصنعُ شعرًا جميلاً ممَّا تدعوه تعاستك وأنتَ سعيدٌ بهذا.

- سعيدٌ بتعاستِك!. لقد أصابتْ معشوقتُك؛ هذا القولُ ممَّا تكون صفتُه وقوعَ الحَافرِ على الحافر. لطالما كنتَ يا ييتس جعبةً نابضةً لكافةِ المتناقضات. يبدو أنها كانت أكثرَهن فهمًا لكَ، على الرغمِ مِن رفضها لكَ مرارًا.

- ربما رفضتنى مرارًا لأنها تفهمنى!

- لِمَ تجىءُ أجوبتُك مقتضبة؟

- لستُ أملك أى أجوبةٍ.

- أعلم هذا جيِّدًا، فليست قصائدُك سوى أسئلةٍ مكتظةٍ بالموسيقى، أو موسيقى مثخنةٍ بضبابِ الارتياب.
- ربما!

- قليلٌ من خمرِ الإسهاب يُصْلِحُ معدةَ الحوار يا سيدى.

- مَن قال أننى أريد المحاورة؟

- لكَ أن تستنكفَ عن محاورتى كما شئتَ.

- أنتَ تريد خطيبًا؛ والخطابةُ ليستْ مهنتى!

- أعلم هذا جيِّدًا؛ فأنتَ الذى قلتَ "نستخلصُ مِن شجارِنا مع الآخرين الخطابةَ، لكن الشعرَ نستخلصُهُ من شجارِنا مع أنفسنا".

- ربما!

- هل تعلم أن هنالك بيتًا مِن الشِّعر العربى لا أجدُّ شاعرًا غربيًّا سواكَ حقيقًا بِهِ أن ينتحلَهُ؟

- كيف لى أن أعلم!

- يا سيدى، لا أقصدُ الاستفهامَ حقيقةً، بل تحريضَك على أن تسألنى "ما هو البيت؟".

- فليكن. ما هو البيت؟

- "أنامُ ملءَ جفونى عن شواردِها ويسهرُ الخلقُ جرّاها ويختصِمُ" قاله المتنبى شاعرنا العظيم وجديرٌ بِكَ أن تنتحله.

- لم أنم قط ملءَ جفونى. وإياكَ أن تقول: أعلم هذا جيِّدًا!

- لكن الناسَ أعياهم فكُّ طلاسمَ قصائدِك. كنتَ كناسكٍ يجثو على ركبتيه قبالة صنمِ معبوده بعينين ذاهلتين ويتلو صلواتِهِ الهامِسَة ثم يغادرُ صامتًا وقد اكتسى الصنمُ باللُّعاب؛ فلا يدرى الناسُ: أكانت صلواتُ الناسكِ مصحوبةً برذاذِ الريقِ مِن فَرْطِ التحرُّقِ الصادقِ إلى الصنم، أم كانت صلواتُهُ محضَ حيلةٍ ماكرةٍ يتّوسَّلُ بها إلى البُصاق المُترع بالتَّجديف؟

- ما رأيُّك أنتَ أيها الثرثار؟

- كُلُّ صلاةٍ خالصة هى تجديفٌ صُرَاح، تصيرُ الصلاةُ نقيَّةً حين يشوبها البُصاق. كُلُّ بَصقةٍ خالصة هى تقديسٌ عقيم، تصيرُ البَصقةُ جسارةً حين تمازجها الصلاة. ما رأيُّكَ أنتَ يا سيدى؟

- لا راحة فى الصلاة، ولا راحة فى البُصاق، ولا راحة فى مزجهما معًا.

- أين الراحة إذن؟

- "أهناك سكينةٌ لكى نعثر عليها؟ المرءُ مجبولٌ على العشق وهو لا يعشق إلا ما هو زائل".

- نعم هناك سكينة.

- لا أظنُّ ذلك.

- أنتَ يا ييتس قلتَ خلافَ هذا.

- متى؟

- فى شيخوختِك كتبتَ قصيدةَ "رجل عجوز جامِح"، كان يجوبُ الآفاقَ رافضًا أن يموتَ مقرورًا على سريرٍ من القشِّ، كان يحاول إغواءَ فتاةٍ متباهيًا أمامها بأن الشيخوخةَ أسبغتْ عليه نعمةً ليستْ فى حوزةِ الشباب: الكلمات التى تخترق القلب.

- أين السكينة، ألم تنصرف عنه الفتاة؟

- أعلم هذا جيِّدًا. قالَ لها فى المقطع الأوَّل أنه لا يطلبُ مِن الإله سوى أن تُغلِقُ هى عينيه بيديها عندما يَحِلُّ المَوتُ أخيرًا، ثم تفاخرَ بقوةِ كلماتِهِ فى المقطع الثانى، ثُمَّ فى المقطع الثالث صدَّته قائلةً إنها لا تملك قلبها الذى ليس يسكنه غيرُ الإله، وأنها لن تُغلِق عينيه بيديها؛ لأنهما مشغولتان بالمِسبحة.

- كفى ثرثرة. أنا أدرى بمقاطع قصيدتى اللعينة. أين هى السكينة؟

- فى المقطع السابع. فى خاتمة القصيدة رفضَ الشيخُ الرجيم ترياقَ السماءِ: البروقُ التى تنسكبُ حارقةً كُلَّ عذاباتِ البشر، واختار عوضًا عنها أن  يكون خلاصُهُ مِن العذاباتِ على صدرِ امرأةٍ.

- لم يقل أى شيخٍ فى قصيدةٍ من قصائدى أن الخلاصَ على صدرِ امرأةٍ.

- بل قالها. أوَليسَ مِن الرائع يا ييتس أن تكون مساحةُ الفِرْدَوسِ صدرَ امرأةٍ؟.

- شيخى الرجيم لم يَجِدْ خلاصَه، بل قالَ إنه على صدر امرأةٍ قد ينسى المرءُ عذاباتِه لبُرهةٍ مِن الوقت.

- إن لم يكن "صدرُ امرأةٍ" هو الفِردَوس، فلا تمسخه إلى نُغبةِ خمرٍ ممزوجٍ بالخَلِّ.

- أوَليسَ هذا أفضلَ مِن أن أقول لكَ أنَّه يصيرُ فى كثيرٍ من الأحايين صليبًا مزمنًا وتاجًا مِن الشوكِ!

- أن تموتَ مصلوبًا على صدرٍ خافِقٍ لامرأةٍ هو القيامة بعينِها؛ فليست القيامةُ إلا معانقةَ الصليبِ.
- يسيرٌ هو الكلام.

- عانِقْ فيها صليبَك ثم حدِّق مليًّا فى عينيها: هأنتذا ترى القبرَ رَحِمًا مقلوبًا.

- يسيرٌ هو الكلام.

- فى أتُونِ المعانقةِ تنصهرُ المساميرُ والنِّصالُ؛ فتتحرَّر جُروحُكَ مِن أصفادِها؛ وتصيرُ الجروحُ عيونًا؛ وتصيرُ العيونُ صراخًا يحملقُ فى نورٍ لا يمحقُ الظِّلالَ العابسة، بل يكسوها باللحم والأغنيات النضيجة.

- يسيرٌ هو الكلام.

- أوَليسَ الكلامُ هو ما تباهى بِهِ شيخُك الرجيم؟ هل أنتَ إلا كلامٌ يا ييتس؟

- بدِّد زفيرَك كما تشاء. سئمتُ ثرثرتَك.

- يا سيدى، أتتذكَّر حين كنتَ فى شبابِك تصبغُ جواربَك؛ كى لا تنكشف الثقوبُ التى فى حذائك المهترئ؟

- نعم، أتذكَّرُ ذاك العهدِ على بُعدِهِ.

- يا سيدى، لو كانَ الحذاءُ المهترئ لرامبو لخلعَهُ وقذفَ بِهِ أحدَ المَارَّةِ ثم مشى عارى القدمين يطلقُ صفيرًا بهيجًا لاذعًا.

- ولو كانَ الحذاءُ المهترئ لكَ؟

- كنتُ سأتحسسُ ثقوبَهُ بأناملَ راجفةٍ كما لو كانت جروحًا غائرة أو عيونًا مقروحة، ثُمَّ أضمدها بالشاش الطبى منتحبًا فى صمتٍ جنائزىّ.

- عاطفة صبيانية رخيصة. لِمَ سألتنى عن حذائى المهترئ؟

- أظنُّ أنَّك صرفتَ ثمنًا للأصباغ ما يكفى لشراءِ حذاءٍ جديد.

- مُزحةٌ طريفة!

- لستُ أسخرُ منك يا سيدى، لكننى أظنُّ حقًّا أن حياتَك مُضْمَرَةٌ بكاملِها فى هذا المشهدِ الهامشىّ. تودُّ أن تحتفظ بالحذاءِ المهترئ: فغناؤك يتنفسُ عَبْرَ ثقوبِهِ حين تتأملها وحيدًا، وتودُّ أيضًا أن لا تحتفظ بِهِ: فغناؤك يختنقُ عَبْرَ ثقوبِهِ حين يتأملها الآخرون. ليس بمقدورِك أن تخلعَهُ وترمى بِهِ: فأنتَ لا تُجيد الغناء حافيًا، وليس بمقدورِك أيضًا أن تنتعلَهُ غيرَ مكترثٍ للتحقير: فأنتَ لا تُجيد الغناء مرذولاً. ربما كانَ غناؤك صراعًا عبثيًّا بين طواحينِ الثُّقوبِ ورماحِ الأصباغ، لذا جاءَ مُلتبسًا.

- أوجِزْ وقُلْ: أحمق.

- نعم يا سيدى أنتَ محض أحمق، لكن حماقتَك كانت "اختيارًا عسيرًا" يليقُ بفارسٍ، و"فشلاً مقدسًا" يستحقُّ أكاليلَ الغَارِ المُلطَّخة بالبُصاق. فلتضع ثرثرتى فى بابِ "هذيان الشجعان" الذى طالما قرَّظته. وليكن وداعى لكَ بكلماتِك: "أيها الظِّلُّ النحيل، كفاكَ ما عرفتَهُ مِن ألمٍ قبل موتِكَ، ابتعد ابتعد؛ فأنتَ أكثرُ أمانًا فى القبرِ".

 

فِصْح 1916

(1)

لقيتُهم فِى خاتمةِ النَّهار

قادِمينَ بوجوهٍ وَضِيئة

مِن وراءِ نُضدٍ أو طاولةٍ

فِى حنايا منازِلَ من القرنِ الثَّامِن عشر.

تجاوزتُهم بإيماءةٍ مِن الرَّأسِ

أو بكلماتٍ مِن الهُراءِ الدَّمِث،

أو تلبَّثتُ هُنيهةً ونبستُ

بكلماتٍ مِن الهُراءِ الدَّمِث،

وقبلما أنتهى فكَّرتُ

فِى قصةٍ ساخِرة أو مُزحةٍ

أُبهِجُ بها رفيقًا

بجوارِ النارِ فى النادى،

جازمًا بأننا -أنا وهم-

قد عِشْنَا حيثُ يُلتحفُ بأرديةِ المُهَرِّجين:

كُلُّ شىءٍ تغيَّرَ، تغيَّرَ تمامًا:

جمالٌ مُروِّع وُلدَ.

 

(2)

تلك المرأةُ استهلكتْ نهاراتِها

فى مودةٍ جَهول،

وأنهكتْ لياليها فى جدالٍ

إلى أن صارَ صوتُها صريرًا.

أى صوتٍ كان أعذبَ مِن صوتِها

حين انطلقتْ راكبةً -وهى شابةٌ جميلة-

صوبَ كلابِ الصيدِ الضَّارِية؟

وهذا الرجلُ كانَ يُديرُ مدرسةً

ويمتطى صهوةَ جوادِنا المُجنَّح،

وهذا الآخرُ -مساعدُه وصديقُه-

كادَ يبلغُ أوْجَ قوتِهِ؛

كانَ حريًّا بصيتِهِ أن يذيع،

إذ بدتْ فِطْرتُه رهيفةً

وأفكارُه جريئةً وعذبة.

وهذا الرجلُ الآخرُ ظننتُه

سِكِّيرًا، ومتغطرسًا وأخرقَ.

لقد ارتكبَ أشنعَ الكبائرِ المريرة

فى حَقِّ مَن يُلاصقون منِّى الشَّغاف،

لكننى فى هذه الأغنية أُقرُّ بِهِ؛

فهو أيضًا قد تنازلَ عَن دورِه

فى المَلهاةِ العارِضة؛

فهو أيضًا تغيَّرَ بدورِه

تبدَّل تمامًا:

جمالٌ مُروِّعٌ وُلدَ.

 

(3)

قلوبٌ لها بُغيةٌ واحدةٌ وحيدة

تبدو -عَبْرَ الصَّيفِ والشِّتاء-

كأنما أنامِلُ السِّحْرِ أحالتها حجرًا

يُقلقُ صفوَ التيار.

الحِصانُ الآتى من الطَّريق،

الراكِبُ، الطُّيورُ التى تتقافزُ

من سحابةٍ إلى سحابةٍ منحدرة،

كُلُّ هذى تتغيَّرُ دقيقةً فى إثْرِ دقيقة؛

ظِلُّ سحابةٍ على التَّيار

يتغيَّرُ دقيقةً فى إثْرِ دقيقة؛

حافِرُ الحِصانِ ينزلقُ على الحَافةِ،

والحِصانُ يغمرُه التيار؛

دجاجاتُ الماءِ ذوات السيقان الطويلة يَغُصْنَ،

ويُفتِّشنَ مُنقنقاتٍ على دِيكتِهُن؛

دقيقةً فى إثْرِ دقيقة يَعِشْنَ:

والحجرُ بينَ الجَميع.

 

(4)

التَّضحيةُ المُزمِنةُ

بمقدورِها أن تُحيلَ القلبَ حجرًا.

آه، متى تكفى؟

ذاك دورُ السَّماءِ، أمَّا دورُنا

فأن نُغمغمَ اسمًا بعدَ اسم،

كأُمٍّ تُهدهدُ طفلَها باسمِهِ

بينا السُّبَاتُ يزحفُ أخيرًا

إلى الأطرافِ التى أعياها الرَّكضُ.

أهذا إلا ليلٌ؟

لا، لا، ليسَ ليلاً بل موتًا؛

ألم يكن -بعدَ كُلِّ هذا- موتًا مَجَّانِيًّا؟

فإنجلترا قد تفى بعهدِها

جرَّاءَ كُلِّ ما حدثَ وكُلِّ ما قيلَ.

نحنُ نعرفُ أحلامَهم؛ يكفينا

أن نعرفَ أنهم حلموا وأنهم موتى؛

وماذا لو أن فَرْطَ العِشقِ

كانَ قد أذهلهم حتى ماتوا؟

إننى أكتبهم شعرًا-

ماكدونا وماكبرايد

وكونولِّى وبيرس

الآن وفى زمنٍ سيجىء،

حيثما يُلتحفُ بالأخضر،

قد تغيَّروا، تغيَّروا تمامًا:

جمالٌ مُروِّعٌ وُلدَ.

 

* الترجمة مهداة إلى شهداء مذبحة الدفاع الجوى: هنالك فِى قفصٍ مِن حديدِ الضَّغينةِ المَسْعُور، هنالك فِى قبرٍ شائِكٍ صنعَهُ كلابُ القنصِ خِلسةً؛ كى يغتالوا قلوبًا مُطهَّرةً مريضةً بـ"فَرْطِ العشقِ" ثمَّ يقولون قضوا نحبهم "فَرْطَ تدافع"، هنالك فِى بوابةِ الفَخِّ الخَسيس" وُلدَ جمالٌ مُروِّعٌ" ستظلُّ عيونُ أرواحِنا تُحدِّقُ راجِفةً فى مرايا بهائِهِ القُدسى؛ كيلا ننسى مذاقَ الحُلمِ ورائحةَ الغِناءِ ومجدَ الفشلِ المقدس، هنالك فِى قفصِ الغَدرِ صارتْ حشرجاتُكم الأخيرة نوافذَنا على الفِرْدَوسِ: حيثُ فَرْطُ العشقِ أقوى من الأقفاصِ الحديديَّة، بل أقوى من المَوتِ.

 

الطفل المسروق
(1)

حيث الهضبةُ الصخريَّةُ

للغابةِ السريَّةِ

تغمسُ أقدامَها فى البحيرةِ

هناك تمتدُّ جزيرةٌ مُورِقة

حيث طيورُ البَلَشُونِ الخَفَّاقةُ

تُوقظُ جُرَذانَ الماءِ الوَسنانةَ

هناك أضمَرنا جِرارَنا السِّحريَّةَ

الداهقةَ بالتوتِ

وبالكَرَزِ المسلوبِ قانى الحُمرةِ
أيها الطفلُ الإنسى هَلُمَّ بنا

بعيدًا إلى المَّاءِ والبَّريَّة

وجنيَّةٌ منا تُمسكُ بيدِكَ

فالعالمُ مُفعَمٌ بنُوَاحٍ

يجاوزُ ما فى مقدورِكَ

أن تستوعبَهُ

 

(2)

حيث أمواجٌ من نُورِ القمرِ

تكسُو بالرونقِ

قتامةَ الرمالِ الرماديَّة

هناك فى المُنتأى

محفوفينَ بالزهورِ القصيَّة

نرقصُ الليلَ بأكملِهِ

ننسجُ رقصاتٍ أزليَّة

تتعانقُ فيها الأبصارُ

كما تتعانقُ الأيدى

ريثما يلوذُ القمرُ بالفِرارِ

نتقافزُ مرحًا إقبالاً وإدبارًا

ونطاردُ الفُقَّاعاتِ الرغويَّة

بينما العالمُ مُترعٌ بالبلايا

يلعقُ النعاسَ مِن قبضةِ القلق
 

أيها الطفلُ الإنسى هَلُمَّ بنا

بعيدًا إلى المَّاءِ والبَّريَّة

وجنيَّةٌ منا تُمسكُ بيدِكَ

فالعالمُ مُفعَمٌ بنُوَاحٍ

يجاوزُ ما فى مقدورِكَ

أن تستوعبَهُ

 

(3)

حيث الماءُ الموَّار ينبجسُ

مِن تلالٍ تعلو جلينكار

صانعًا وسطَ الانصباباتِ بِرَكًا

تتحمّمُ فيها النجمةُ بشقِّ الأنفسِ

هناك نقتفى أثرَ

أسماكِ السَلَمون الغافية

ونهمسُ فى آذانِهم

لنمنحَهم أحلامًا مُشوَّشةً

لينسَلُّوا بنعومةٍ مِن السراخسِ

التى تذرفُ دموعَها

على الجداولِ الفتيَّة
 

أيها الطفلُ الإنسى هَلُمَّ بنا

بعيدًا إلى المَاءِ والبَّريَّة

وجنيَّةٌ منا تُمسكُ بيدِكَ

فالعالمُ مُفعَمٌ بنُوَاحٍ

يجاوزُ ما فى مقدورِكَ

أن تستوعبَهُ

 

(4)

ها هو يذهبُ معنا بعيدًا

ذو العينين الكئيبتين:

لن يسمع ثانيةً جُؤارَ العُجولِ

على سفحِ التلِّ الدافئ

ولا ترانيمَ الإبريقِ على الجمراتِ

التى تغمرُ صدرَه بالسكينةِ

لن يرى ثانيةً الفأرَ الكَستنائىِّ

يدورُ ويدورُ

كالعاشقِ حولَ خِزانةِ الشوفان

 

ها هو الطفلُ الإنسى يذهبُ معنا

بعيدًا إلى المَّاءِ والبَّريَّة

وجنيَّةٌ منا تُمسكُ بيدِهِ

فالعالمُ مُفعَمٌ بنُوَاحٍ

يجاوزُ ما فى مقدورِهِ

أن يستوعبَهُ

 

*الترجمة مهداة إلى الشهيد الطفل "عمر صلاح" بائع البطاطا: ستظلُّ ثورتُنا المستمرة جنيَّةً تُمسكُ بيدِكَ فى رفقٍ؛ كى تذهبَ بعيدًا آمِنًا إلى أغوارِ أرواحنا، دونَ أن تخشى قنابلَ الغازِ وطلقاتِ الخرطوشِ ورصاصاتِ الكلابِ النابحة.

 

مقطع من الصخرة الرماديَّة

قالتْ:

هَلُمُّوا خارجًا

لتنبشوا قبرَ رجلٍ ميِّت،

اتَّخذَ له وِجارًا

فى بقعةٍ ما مِن الأرض،

اصفَعُوا وجهَهُ

باستهزاءٍ فاحش

ثم بكلبٍ وجوادٍ طارِدُوه،

فهو أسوأُ الرجال الموتى جميعهم.

 

بين الفَلَقِ والغَسَقِ

صارَ جيشُ الدنماركيين

مدحُورًا،

أمرٌ كهذا ظلَّ الجميعُ

لزمنٍ مديدٍ فى مِريةٍ منه،

كانَ ملكُ أيرلندا

ونصفُ الملوكِ قد ماتوا،

لكن كُلَّ شىءٍ

قبلَ وقُوبِ الشَّمسِ

كانَ قد بلغَ تمامَهُ.

 

فى هذا النهار

كانَ مورا، ابنُ ملكِ أيرلندا،

يتقهقرُ مستبسلاً

خطوةً فى إثر خطوة،

هو وسُلافةٌ

من جنودِهِ الصناديد

هنالك اعتنقوا فَنَاءهم

وقد تلاصقتْ أظْهُرُهم،

لكن الدنماركيين فَرُّوا فازعين،

وقد رَوَّعتْ قلوبَهم

هَجْمةٌ مُبَاغِتة،

وصيحةٌ من رجلٍ خَفِىٍّ؛

أما مورا فقد اقتفى أثرَهُ

وذَهَبَ مَحفوزًا بالامتنانِ

-دامغًا الأرضَ ببصماتٍ دامية

لقدميِهِ الناقعتين بالدَّمِ-

إلى شجرةِ زُعرورٍ عتيقة

حيث احتجبَ الرجلُ الخَفِىُّ:

فى كافةِ الأنحِيَة حملقَ مورًا مليًّا،

فلم تَظفَرْ عيناه

إلا بشجرةِ الزُّعرور الشائكة،

وعلى الرَّغمِ من هذا صَاحَ

"مَن الصديق الذى يبدو لنا

جسدًا من الهواءِ

ومع ذلك يُنعِمُ علينا

بهذى البطشةِ البديعة؟"

حينها تجلَّى لناظريه

رجلٌ فى شَرْخِ شبابِهِ وهو يقول

"الإلهةُ الخالدة إيفا،

ذاتُ القلبِ المقدودِ من الصَّخرِ،

إذ إنها اشتهتْ أن تُبقينى

رهينَ أصفادِ حُبِّها،

إذ إنها أبَتْ أن ترى موتى،

تناولتْ دَبُّوسًا

وفى قميصى أغمدَتْهُ،

ووعدتنى أنه من جرَّاء الدَّبُّوسِ

لن يرانى أحدٌ فليُلحقَ بى أذىً؛

لكننى الآن قد اكتفيتُ؛

لن أستبقى حُظوةً صارتْ مَعَرَّتى

بينا أتأملُ، يا ابن الملك،

فى جِرَاحَاتٍ أدهقتْ جسدَك".

قالَ هذا بصراحةٍ صارمة،

لكن عندما أسبلَ الليلُ أستارَهُ

كان قد خاننى ومضى إلى قبرِهِ،

إذ هو وابنُ الملك كانا قد ماتا.

لقد وعدتُهُ بمائتى عامٍ من العُمر،

وحين لم يعبأ

بكُلِّ ما قلتُ وكُلِّ ما فعلتُ

ولم يكترثْ

بدموعٍ ذرفتها عيونى الخالدة

وأعلنَ أن حاجةَ وطنِهِ هى الأقدس،

أنقذتُ حياتِهِ، ولكنه من أجلِ

صديقٍ جديد استحالَ شبحًا.

ما يَعنِيه لو تصدَّعَ قلبى؟

أريدُ مِجرفةً وجوادًا وكلبًا

لكى نداهمه.


التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads