الرئيسية » » أتواطأ مع نفسي | يحيى الشيخ

أتواطأ مع نفسي | يحيى الشيخ

Written By Lyly on الاثنين، 16 فبراير 2015 | فبراير 16, 2015

يحيى الشيخ

أتواطأ مع نفسي

 

 

 

يحيى الشيخ

 

 

لما تبقّى لي من أيامي الحرّة أعلنُ عبوديّتي!

أنحتُ لي طوطماً من رفات الأشياء،

من نفاياتها،

أهابه وأسجدُ له.

 

أنا طوْطميّ بكلّ دلالات الكلمة.

أعبدُ أشياءَ لا أحيطُ بحقيقتها الكليّة،

لا أسبرُ أغوار شيئيتها،

لا أحزرُ نوايايها،

لا أعرفُ أسماءها،

أشمّ روائحها العبقة والعفنة.

أنا نكرة أمامها؛

لهذا أعبدُها.

 

 أعبدُ الحطبَ: سعف يابس، وكرب نخيل، وعاقول، وأغصان توت وتين ونبق بريّ،

وكل ما يحترقُ ويتشظّى.

أعبدُ ناره الصفراء، والحمراء ،والزرقاء، والبنفسجية،

والدخان الحارق،

والدمع الغزير ،

ورائحة الراتنج تتبخّر من عروقه.

 

أعبدُ الماء

بلا ضفاف تحدّ من حقيقته الأبدية، تدّعي حضانته.

أعبدُ التراب الموشوم بعري أقدامي،

الذي سيغمرني بصمته السريّ.

أنا أتدربُ، في أيامي الأخيرة،

على لغته المقدسة، 

وأحاولُ بقلب مكسور،

النطق بها مبكراً.

 

أعبدُ الهواء،

أتواطأ معه ليجتاحَ رئتي.

 

اليوم، أنا أكبر من الموت بسبعين عاماً.

غداً سأكون أكبر منه بيوم واحد.

إنّه يتراجعُ إلى الخلف،

فيما أتقدمُ أنا بعزيمة مهاجر خبر الأسلاك الشائكة،

يائساً من نجاته...

أتقدمُ أعزلَ ، وهو  يتراجعُ مسلّحاً ،

مدجّجاً ببديهياتة كلّها.

ليكنْ! فهذا من شأنه،

كذلك من شأن الصراع ونواميسه الأبدية.

أما أنا... فمن شأني أن أتواطأ.

 وهذي نواميسي:

أتواطأ مع الليل، أسرقُ بعضاً من نجوم أفتقدها.

أتواطأ مع النجم أنهبُ ساعات الليل.

أنا خائنٌ لكليهما:

خائنٌ لكلّ ولاء يحولُ دوني.

أتواطأ مع البحر،

 مع الساحل كي لا تسخرَ منّي القواقع،

مع القواقع لأعرفَ ساعات المد،

مع السرطانات لأعرفَ مواعيد الجَزْر،

مع الديدان الترابيّة لأعرفَ ذوق النوارس.

أتواطأ مع الأسماك لأصطادَ الوقت.

مع السنارة لتبقى عارية بلا طُعم،

ومع الطُعم ليفضحَ نواياها الجائرة.

اتواطأ مع النقيضين؛ لأثبتَ واحداً منهما؛

كي يُثبتَ الأخر...

وينفياني معاً.

أتواطأ مع كل ما يولد فيّ وينفيني جملة وتفصيلاً.

 

أيّتها الأنثى في داخلي،

التي يولدُ في رحمها كلّ هذا الفيض،

أنتِ أعظمُ منّي !

 

أتواطأ مع كلّ ما يتحرك،

وما لا يتحرك،

وما يُورقُ في الربيع،

وما يذبلُ في الخريف،

وما يرقدُ تحت الثلج،

أتواطأ مع كلّ ما يموت... وفي طريقه إلى الموت.

أتواطأ مع الحقول،

مع الفَراشات، نجمعُ الزعفران معاً،

مع الخنافس، ندحرجُ تراباً نضراً،

مع البذور، لأهتديَ إلى مسارب النمل،

إلى حدّادي المناجل: أجدادي المندائيين.

أتواطأ مع التبن، لأمسكَ بقرون ثيران الحراثة المجنّحة.

أتواطأ مع كلّ ما يوصلني إلى بساتيني،

إلى نهر ضاع في بلدان أجهلها يبحث عنّي،

أعرجَ يُشبه خطوتي.

أتواطأ مع أعذاق لم تُقطع بعد: هي من حصّتي.

وما يسقط منها لفرط حلاوته،

وخَلال مطبوخ  أدسّه بين الدفاتر.

أتواطأ مع الجمّار ليكشفَ  لي قلبَ النخلة البضّ.

أتواطأ مع النخيل ليحميَ أعشاشي.

اتواطأ مع جذوع أخاتلُ خلفها،

أتلصّصُ على أرداف نساء مكتنزات،

ونهود مراهقات في طور التكوين.

أتواطأ مع التكوين،

مع خطوط تفلتُ من نهاياتها وتعودُ الى حيثُ بدأت.

أتواطأ مع البداية....

 والنهاية معاً.

 

لستُ متواطئاً سراً،

بل جهاراً أتخلّى عن حريّة لا أطيقها،

حريّة تسوقني إلى موت لا أرغبُ فيه.

 

من منكم يبحثُ لي عن مبررات للجنون؟

 

نحن هكذا أبدا:

نخلقُ أفكارنا ونذهبُ أحراراً  إلى عبادتها.

أنا عبدٌ لما لم أخلقه،

لما أجهله،

لما أتخيّله.

أدركُ الآن، ولم يفت الأوان،

الأفكار تذبلُ كالدقائق،

أنا مملوكها،

تجرجرني بسلاسل العبوديّة التي أحبّها،

تجرحني، العقُ دمي وأقبّلُ زنجارها.

عبوديتي لا نظيرَ لها،

لأفكار أبديّة لم تتجسدْ بعد.

 

هل عرفتم رجلاً يُقاتلُ من أجل عبوديته؟

ــ نعم، أنا رأيتُ وجهه!

عندما ركعتُ على الماءِ وشربتُ.

 

بلا مبررات، أتواطأ مع الشمس.

أتواطأ مع الشجر في المساء،

أسمعُ نميمة العصافير،

أصدّقها على مضض،

لتسكتَ حتّى الفجر،

وأبقى خاليَ الذهن مثلَ حصاة يغسلها البحر،

تنتظرُ من يقشطها بوجه الماء.

أتواطأ مع الغربان،

أستعيرُ أجنحتها،

فأسقطُ مختالا بدونيّة جسدي.

أتواطأ مع النهر،

لأعرفَ سر الينابيع،

نمرّ معاً تحت القناطر،

نختلسُ النظر  الى بطونها الضامرة.

 

القناطرُ حدباءُ... مثلي،

تنحني على ما يجري إلى الأبد.

 

لا أعرفُ كيف أعيش،

لا صورةَ واحدة لي،

لا أعرفُ كيف أموت،

لا صورةَ واحدة لي.

 

أدركيني ايّتها الميتاتُ الكسولةُ ، المتأخّرةُ ،

فأنا في كلّ مكان.

أستلقي على جرف البحيرة التي وُلدتْ معي،

تزرفُ الأغصانُ المكسورةُ أضلعي

وأنا سعيدٌ بذلك... مادمتُ أحكّ ظهري.

 

أتواطأ معكِ...

ضدّ الأنثي في داخلي،

أمنحكِ فرصة أغتصابي.

أتواطأ مع الأحلام لأبقى يقظاً.

أتواطأ مع الحقائق، ومع الأوهام أيضاً.

"أنّا لا نعبرُ النهرَ مرتين" !

أتواطأ مع الضفاف لأعبرَ مرّتين،

تنطبقُ على بعضها، كما في القبلة،

تغورُ المياه في لحظة،

ثم تفيضُ في الوديان.

أتواطأ مع المدن،

أستبيح ساحاتها.

 

أتواطأ مع الشعر،

مع الشعراء أجدادي،

التقيهم في تقاطع الطرق أحياناً،

أتعلّمُ منهم الكذب لأجنيَ الحقائق،

أتعلّقُ بسبّابة أعمارهم الأخيرة،

أعبثُ بلحاهم المنقرضة،

أتعلمُ كيف أعيشُ مخاتلاً الموت،

تعلمتُ من جدّي والت وايتمان:

كيف أدقّ بابَ المكتبات،

وأكنسُ من على رفوفها الكتبَ المغبرّة.

من أبي النؤاسات،

كيف أخمّرُ القصيدة وأشربها تندلقُ على صدري.

يبدو أنّي أطلتُ البقاء،

همسَ الراهب الأغريقيّ في أذني:

"في تقاطع الطرق... ما أضيقَ المكان، وما أقصرَ الزمان".

غادرتُ بلا وداع.

أتواطأ مع نفسي،

وأحرمُ قريني من التواطئ مع غيري.

 

 

شاعر ورسام عراقي، النرويج

alsheikhyahya@gmail.com

   


التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads