الرئيسية » » المعزوفة القياسية للمتسكع الغريب | ياسر عبد اللطيف

المعزوفة القياسية للمتسكع الغريب | ياسر عبد اللطيف

Written By غير معرف on الأربعاء، 15 مايو 2013 | مايو 15, 2013



خرج من باب بيته لا يلوي على شيء. فقط يروم المشي في شمس الربيع الدافئة بعد اعتكاف إجباري طوال الشتاء القارس الذي قضاه يترجم كتاباً سخيفاً دفعته إليه الحاجة المادية. كان يرتدي قميصاً بكمين طويلين وقد تركه خارج بنطاله الجينز، واعتمر قبعةً رياضية اتقاءً للشمس التي تصيبه بالحساسية، ووضع يديه في جيبي الجينز، وانطلق..
لم يكن قد نسى أن يأخذ معه ديواناً من الشعر الأفريقي اشتراه مؤخراً. شعر بدائي لقبائل "الواتوسي"من غرب القارة السمراء، من مرحلة ما قبل الاستعمار والتحديث. جمعه لاحقاً عالم انثربولوجي فرنسي وترجمه وعلق عليه. قال سيهب ذهنه عند أي توقف للانسياب مع تلك المعاني البسيطة. حيث للطبيعة حضورها الحي، وللأجداد أرواح تحلق في فضاء العشيرة والحيونات تمرح بشخصيات مستقلة في الأبيات القلائل، التي كانت تُغنى عادةً، أوتستخدم لطرد الأرواح الشريرة..
 كان أول ما فكر به هو أن يذهب إلى المقهى القريب، فيشرب قهوةً قويةً مع قطعة كيك. لكنه عَدَلَ عن الفكرة بعد أن تذكّر النُدل مُنعدمي الشخصية لذلك المقهى، وابتساماتهم المزيفة، والمشروبات المُزينة التي يفخرون بتقديمها، تلك المشروبات التي تتمسح في قاعدة ضئيلة من القهوة الثقيلة، لتغرق في كميات من دهون الحليب المخفوق والقشدة السميكة. أعرض عن فكرة المقهى غير نادم.
مشى بضع عشرات من الأمتار وتوقف يفحص أسفل حذائه، لتوّهم انتابه أنّ حصاةً قد اخترقت النعل. لكن ذلك لم يكن صحيحاً.. واصل السير مُقلّباً في رأسه عن أغنية ينضبط عليها إيقاع المسيرة في تلك اللحظة؛ فتذكر واحدةً قديمةً للمطرب عبد الغني السيد تقول :"إيييه فكر..الحلو بيا.. باعت بيسأل عليا" لحن راقص ومدهش للملحن السكندري محمود الشريف؛ الزوج الأول للسيدة أم كلثوم والذي لم يُلحِّن لها أبداً.. أسراب من الإوز تحلق فوق رأسه، هي ربما قادمة من جنوب الولايات المتحدة بعد أن اشتدت عليها الحرارة هناك. هي إوزة كندا ذات العنق الأخضر، تقف على حافة البحيرة بشموخ فتزداد لديه الرغبة في الاقتراب منها، وركل صدرها المنتفخ، لكنه بالطبع لا يفعل.
يجلس على دكةٍ تشرف من منصة حجرية على البحيرة. السماء صافية الزرقة تتخللها سحابات ذات لون أبيض دُخاني تدفعها الريح فتمرق خِفافاً سراعاُ، وقد شَطَف الهواء قواعدها السُفلى فتبدو، جميعها، مستوية الأضلاع من أسفل فيما تتشكل أجسادها كجبال من القطن عشوائياً في الأعالي. تشيع في الجو رائحة عصارة النباتات، وإن لم تنم أزهار الربيع الصفراء بعد.
يفتح ديوان الشعر الأفريقي ويحاول أن يقرأ، فيعاوده صوت عبد الغني السيد "واللي انتهى راح زمانه.. والحلو ليه دمعه خانه.. باعت بيسأل عليا". ويتذكر وجه المطرب قادماً من الأربعينيات بوجه حليق وشعر مرجل بالفازلين. يأخذ حجرأ من على الأرض، ويوتر به سطح البحيرة في دوائرتتسع.
هو المتوحد الجالس على دكة أمام بحيرة عادية، بلا أي جمال خاص، تتوسط حيّاً سكنياً للطبقة المتوسطة في مدينة بغرب كندا الأوسط. الحي مليء بالمهاجرين الطموحين، من الهند والفلبين وفيتنام. مهنيين تركوا بلادهم النامية والنائمة بحثاً عن حياة الرفاه والتأمين الاجتماعي الممتد.
عندما يمتد به ملل الأيام المتشابهة، خاصة في الشتاء الأبيض المتجمد، يأخذ نفسه لتناول كأسين أوثلاثة في بار الحي القريب. وعلى الرغم من التنويعة العرقية لسكان الحي، إلا إن البار لا يرتاده سوى البيض أبناء "الرقاب الحمراء" وأحفاد رعاة البقر. ينظرون باندهاش للغريب الجالس مع نفسه يكتب في دفتر، ولسان حالهم يقول: أيقصف المهاجرون مثلنا؟
 يكتب في دفتره عن شخصيات عرفها في زمن المراهقة والحماقة العظيمة. يستحضر أماكن وزوايا من "ملاعب الصبا والشباب":المعادي في الثمانينيات والتسعينيات، باب اللوق في امتدادها عبر حياته. حوض من الذكريات في سهوب جليدية بلا تاريخ.. لم يعد يعرف أهو المتسكع النهاري يحمل ديوان الشعر الأفريقي، وتطن برأسه أغنية راقصة من زمن الأربعينيات، أم هو نديم نفسه في حانة الحي الغربي.
أمام البحيرة. لم لا يجرِّب تمرينات التأمل التي يقولون عنها؟ يتنفس بعمق، كمن يحاول أن يحتوي في صدره المكان بأسره، لا رائحته فقط. يغمض عينيه ويبحث داخل نفسه عمّا هو أعمق من لحن محمود الشريف، لحن ربما هو عصب اللحظة في إحداثيتها الكونية.. ينتظر أن يسمع في أذنيه موسيقى السماء! هراء، فهو لم يؤمن في حياته سوى بالكيمياء.
يأخذ بعضه ويقوم. العودة إلى البيت بالشباك خاوية.. إلا من هذا الكلام.


نُشر في ملحق شُرفات الثلاثاء 14 مايو 2013

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads