الرئيسية » , » بين الصورة الحقيقية والصورة الخارجية | المفارقة والبناء الدلالي في "ضد رغبتي" | بقلم: فتحي عبد السميع

بين الصورة الحقيقية والصورة الخارجية | المفارقة والبناء الدلالي في "ضد رغبتي" | بقلم: فتحي عبد السميع

Written By Unknown on الأحد، 2 يوليو 2017 | يوليو 02, 2017

بين الصورة الحقيقية والصورة الخارجية
المفارقة والبناء الدلالي في "ضد رغبتي"

بقلم: فتحي عبد السميع

؛
الابتسامة التي فرضها المصور
علي وجهي في العام الماضي
أفسدت الصورة التي رسمها الله لي منذ
ثلاثين عاما.
بهذا النص القصير يبدأ أحمد المريخي مجموعته الشعرية (ضد رغبتي) الصادرة حديثا في سلسلة إبداعات عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، وفور قراءة المجموعة للمرة الأولي والعودة من جديد لتأملها يبدو هذا النص كما لو كان القطرة التي تدل علي المحيط , فهو يحتوي علي أبرز ملامح الشاعر فنيا ودلاليا, وكأن الشاعر باختياره لتك الكلمات ليبدأ بها لقائه بالقارئ, يقدم لنا مفتاحا لعالمه وطبيعة تجربته .
في البداية سوف نري في قصر هذا النص ما يشير إلي كتابة اختزالية, تهتم بالدفقة, ولا تميل إلي المطولات, وهذا الأمر نراه بوضوح في القسم الأول, (الانبلاجات) والذي يأتي بالكامل في صورة مقاطع صغيرة بعضها يستغرق  سطرا واحدا, وأغلبها لا يتجاوز الأربعة أسطر, وعنوان القسم يحمل دلالة الومضة الكاشفة, فلسنا هنا أم ليل طويل ينتهي بانبلاج صباح وينتهي الأمر, بل بليال وانبلاجات, أي حالات متعددة ومعتمة هي من التعقيد والتشابك بحيث تسعي الكتابة إلي كشفها عبر ضربات متنوعة, ومن نافلة القول أن النصوص القصيرة تشكل الآن واحدة من أبرز ظواهر الشعرية المعاصرة, وأقربها لطبيعة دور الشاعر مع سقوط الأوهام الكبيرة, والذوات المتورمة.  
ولو تأملنا النص سوف نجده يشكل جزءا من مشهد  لشخص يتأمل صورة تم التقاطها له العام الماضي, وهذا المشهد حذفه الشاعر ولم يذكر لنا أية تفاصيل عنه,  بل يكتفي بذكر التعليق علي الصورة وهو ما يؤكد طبيعة نسجه الذي يهتم بالحذف كتقنية من التقنيات المفضلة .
وتعمل الشعرية هنا علي المقارنة بين الصورة الحقيقية, والصورة الخارجية, ورغم كون الصورة  فوتوغرافية إلا إنها تحمل من أثر الخارج ما يحقق تباينا بينها وبين الأصل يذهب بها حد الفساد, وهذا الأثر يأتي من المصور الذي يطلب ابتسامة لتنجح الصورة, لا يطلبها بل يفرضها لتنجح لقطته هو, وهذه الابتسامة التي تحمل كل ما هو مفروض وضد رغبة المتكلم, تؤدي إلي فساد الصورة الحقيقية ولنا أن نلاحظ هنا استسلام الذات لرغبة الآخر, أو عدم وقوفها علي أثره إلا بعد عام, أو من خلال ومضة ظهرت أثناء التأمل ومراجعة ماضيه ليري ما صار عليه الآن, واعتماد الشعرية علي المقارنة يشكل سمة أيضا من سمات المريخي الذي يتحرك كثيرا بين متناقضين فتظهر المقارنة بين هزيمة وانتصار, بين الجاني بخلوده والمجني عليه بنصيبه من التجاهل والنسيان, بين الجوارح والنمور من ناحية والبلطجي الذي يصنع بلطته من خوف ضحاياه, بين المعارك الكبيرة الزائفة والمعارك الصغيرة, بين النهار بشقائه ومحصوله الأليم والليل بأحلامه, وفي ظل تلك المقارنات تتولد المفارقات, وتنبلج الرؤى, ويسعي الشاعر إلي الشعرية المقطرة.
 وإذا كان النص يشير  ببساطة إلي مفاهيم من قبيل الأنا والآخر, الداخل والخارج, الحقيقي والفاسد إلا أنه يقدم ذلك ببساطة شديدة, ولغة متقشفة بلا زخارف أو تركيبات مما كان يعد مقياسا لمهارة الشاعر, وتلك اللغة سوف نطالعها بامتداد المجموعة لكن ليس بمثل هذا التقشف دائما, كما أننا سوف نري الشاعر وهو يعتمد علي المجاز والتركيبات في مناطق كثيرة, وأيضا سوف نري نوعا من المزواجة بين الاستخدامين, كما سيواجهنا أحيانا البناء الذي يعتمد علي رمزية الكلمات, كرمزية الرمل والزهرة في نص (زهرة تل حزن), والتي يقوم بناؤها علي حكاية رمزية وتوالي الأفعال المضارعة ثم الانتقال إلي أكثر من زمن (ذات ليل) و(ذات صباح) وكأنه يقدم سيرة ولا يقتنص ومضة كما رأيناه في مقاطع أخري أي أن شعرية المريخي تحتوي علي قدر من التنوع والتنقل بين أساليب مختلفة.
 وسوف نري احتضان معجمه لمفردات لها حضورها الحي في الواقع, وأخري تنتمي للطبيعة ببكارتها وسموها علي الفساد, وكأنه بتلك المفردات يستحضر حلمه دائما, وهكذا نطالع كثيرا الدجاجة فوق سطح البيت, والحمام في السماء, الجوارح وبقايا الصيد, النمور والغزلان، الغوريلا والقرد, الرمل والصحراء, الغابة والكهف, النهر والمطر والسحاب,  كل هذه العناصر تتوالي في الديوان لتكشف ميل الشاعر للطبيعة واختيار عناصرها لعقد مقارنات أو صنع رموز منها ليعبر عن راهنه.
وتهتم شعرية المريخي بالمفارقة لا تلك التي يمكن نسجها عن طريق اللغة بل تلك التي يمكن اصطيادها من خلال الأحداث الواقعية وغرائب الواقع, يقدمها الشاعر ببساطة شديدة ولغة متقشفة بلا زخارف, تكتسب أهميتها من العلاقة غير المتوقعة بين فعلين أو بعد المسافة بين مقدمة ونتيجة.
 وشعرية المريخي مشغولة بالمناخ بشكل عام, بالظرف الخارجي الذي تتفتح فيه الذات أو تلقي فيه حتفها, وهو وإن كان يستخدم في الغالب ضمير المفرد المتكلم, إلا إنه يطالعنا أحيانا باسم جيله الذي يعيش هزيمة حقيقية, ويطالعنا أحيانا متكلما عن الوطن بشكل صريح, أو الناس بشكل عام مرتديا قناع الرسول كما في نص ( تخطيط ) والذي يدعو الناس  فيه إلي الحركة باتجاه السماء ومحاولة لمسها بالأصابع, وينهاهم عن تأجيل جرأتهم ليربحوا إدراكا جديدا, ويأمرهم بالتجرد من الحياد والدخول في الحوار لتزداد معارفهم, ويحذرهم من السكون وسخرية القادمين, إنها وصايا إنسانية من أجل حياة حقيقية وفعالة قوامها الوعي العميق وحدودها السماء اللانهائية، وهو إذ يدلي بوصاياه يستخدم حيلة فنية لافتة, فنسمع تلك الوصايا لا علي لسانه هو بل علي لسان رسول آخر, يردد كلمات تشبه كلماته و في حياة أخري تشبه هذه الحياة وتأتي بعد قيامة قادمة, وكأنه بذلك يعبر عن يأسه من بلوغ الرسالة مبلغها وصمم الآذان التي تسمع, وكأنه لا مفر من قيامة تكتسح كل شيء, لتبدأ دورة جديدة, تدور دورتها ثم يصيبها ما يحتاج إلي رسل آخرين يقولون نفس الكلام، لكن صوت الشاعر الرسول هذا يظهر في حيز ضيق, ولا يطغي علي صوت الإنسان البسيط المشغول بمعارك صغيرة, الذي يدخل السجن لا لكونه مناضلا سياسيا, بل لأنه يغازل فتاة في الطريق, الكائن الضعيف والمهزوم الذي يرفضه الموت ولا تقبله الحياة,

من الشارع إلي البيت


ورغم انشغال الذات بالمناخ الخارجي إلا إنها تتحرك, وتتقدم من الخارج إلي الداخل, من الوطن إلي الحي, ومن الحي إلي البيت, ومن البيت إلي الجسد, يقول في مقطع بعنوان النور:
في الحي بيتي
في البيت جسدي
في الجسد سوقي وأغصاني وأوراقي
ولي رب أحاسبه
كم ورقة جفت من شجري الباقي!

هكذا بخفة وبساطة شديدة ينتقل من الخارج إلي الداخل انتقالا متدرجا حتي يستقر في الجسد باعتباره عالم الذات الوحيد وبكل ما تحمله تلك الكلمة من دلالات يختزلها الخطاب في كلمة السوق بفضائها التجاري والمدني, وكلمة الأغصان بفضائها الزراعي والريفي, وتأتي هذه الحركة هنا كردة فعل تجاه الخارج ومحاولة حفظ ما تبقي من شجر ذابل وأوراق جافة، وإذا كان البيت يقدم لنا مرحلة من مراحل الطريق, فإنه لا يعني مجرد ترك الخارج والدخول في بيت بالمعني المعروف للبيت, بل لهذا البيت صورة جديرة بالتأمل يقدمها الشاعر في قصيدة (تذكار سعادة) ولنا أن نلاحظ في البدية ارتباطه بالسعادة تلك الضالة المفقودة, والتي حاول المصور إبرازها بفرض ابتسامة علي الوجه في أسطر الديوان الأولي .
عدني أن تقرأني في البيت
فرسالات الأحبة أكبر من أن تقرأ هكذا..
في غابة
وإن لم يكن لديك منزل
ابحث عنه
في مرآةٍ عانسٍ تتأمل جدرانها
في استراحةِ عاهرةٍ تستجمعُ الحرية
في ابتسامة غوريلا تفلي فروة قرد في الكهف
وربما تجده هناك
في شجرة تسمح للعصافير
بالنوم دون سؤال عن هوية.

في هذا النص نحن أمام دعوة لقراءة رسالة المحبوبة, وهي دعوة مشروطة بعدم قراءتها إلا في البيت, إنه المكان الأنسب لتواصل المحبين حتي لو كان التواصل عبر رسالة لا عبر لقاء مباشر يبرر التستر بالجدران, وهو إذ يسميه البيت إلا أنه أبعد ما يكون عن الشكل الثابت والجدران الصلبة, أنه علي النقيض, هو منزل كمنازل الصوفية, يحتاج إلي مجاهدة لبلوغه وتطهير دائم للأعماق، هو فضاء المحبة الذي يقوم علي عناصر أخري يقدمها لنا النص متفرقة عبر مجموعة من الصور المتباعدة وغير المترابطة, وتجسد الوحدة (صورة العانس)، والحرية (صورة العاهرة)، والفطرة (صورة الغوريلا), كما يقدمها مجتمعة في صورة الشجرة ذلك البيت الذي لا يتسلط علي العصافير ويحتضنها بغض النظر عن هويتها, لا يجبرها علي السكني, ويقدم الدفء لبيضها كما يقول في نص آخر, وتلك العناصر يمكن رصدها في مناطق كثيرة وعلي النحو الذي تشكل معه محور تجربته.
والبيت هنا هو المناخ المناسب للتواصل والفضاء الجدير بتحقق الحب بمفهومه الواسع كقيمة جوهرية من قيم الإنسانية, كفيلة بأن تستعيد السعادة وتحقق الفردوس الأرضي, الذي يبدو بعيدا عن أرض الواقع, ولا يتحقق, إلا من خلال الفن خاصة الرسم يقول الشاعر:
ورسمتُ شجرةً
علِّقتُ فيها الربيعَ
ولما جاء الخريف استدارت
مرت علي مرفقي ّ وقالت :
سلاما !!

الشجرة هنا رمز للحياة وهو من الرموز الأثيرة للشاعر, ويتكرر كثيرا في الديوان والصراع هنا صراع مناخ, صراع الربيع والخريف, الربيع لا يأتي إلا من خلال رسمه, والخريف يأتي بغتة ليحطم اللعبة ويستدير الرسم, وهو ما تكشفه أكثر صورة أخري لرسام في نص بعنوان (المستحيل):

يمسك الريشة
فيتعانق الخلق
وينسحب الرب في حبور ويقول؛
هذه جنتكم التي كنتم توعدون.

الشاعر يلخص أزمة العالم ويردها إلي فعل واحد وهو غياب العناق بين الخلق, العناق الذي يلغي المسافات, ويصنع التواصل الحميم, والألفة الدافئة, والتكاتف الإنساني, وهذا العناق الغائب يعد مجالا أساسيا لشعرية المريخي, يظهر منذ تصديره في البداية والذي يلتف حول فكرة العائلة الواحدة وإمكانية تحققها إلا إننا نفكر في ذلك علي انفراد, و تتبدي مظاهر حضوره وتتنوع, ومن أبرزها عناق الحبيبة الذي يتحول إلي انفصال حاد ومدمر, يحدث هكذا بلا منطق يبرره:

خلعت آخر سيجارة جسدها في دمي
وحبيبتي تحمل حقائبها
وتوصد الباب جيدا
والمسافة ـ لما فتحتُ الباب ـ شاهقة
لكنني
تساقطت كرماد
وروحي في حقائبها.

ها هي المسافة تمتد إذن, و تأخذ طابع الجبال الشاهقة, وتلك هي النتيجة كومة من الرماد, وروح في حقائب بعيدة, ونلاحظ هنا أن الحبيبة هي التي تذهب, وكأنها تهرب من مناخ فاسد, كما نلاحظ سكون الذات وسلبيتها وانشغالها فقط بتدخين السيجارة, وكأنها تتواطأ مع انفصال يبدو طبيعيا وإن كان ضد رغبتها فلا تتحرك إلا بعد غلق الباب, بعد فوات الأوان, ونلاحظ هنا النسج المجازي لفعل التدخين, وكأنه يمنح ذلك الفعل هالة ليست له في الواقع, يعطيه أهمية من خلال اللغة, فبدلا من أن يقول دخنت آخر سيجارة, يلجأ إلي النسج المجازي فيقدم لنا السيجارة في صورة أنثي, ويحول فعل خلع من ارتباطه الشائع بالملابس إلي ارتباط بالجسد, وهذا النسج المجازي يغيب عند تناول الحبيبة وهي تحمل الحقائب وتوصد الباب, ويعود ثانية ليترك لنا المتكلم كومة من الرماد, وكأن البناء هنا يقدم لنا أوصافا إضافية, يترك انطباعا ببساطة الحبيبة وانطلاقها الذي يتحقق في الفعل والمبادرة من ناحية, وتركيبية المتكلم وتعقيداته وما يترتب عليها من سكون ورد فعل بلا معني.
إنه مظهر من مظاهر غياب العناق / الاتصال, والذي لا يسد فراغه إلا تفشي القسوة في كل الأشياء  حتى صار الواقع مفتوحا علي سؤال الموت لا سؤال الحياة, سؤال الجحيم لا الجنة, وفي هذا الواقع تعيش الذات وتتحرك ضد رغبتها, حياة أقرب إلي الموت, وحركة تشبه الجمود, بل تتجاوزه لتصبح ضدا مع الأضداد وهو ما يذكرنا بعنوان المجموعة الذي يجسد موقفا من تلك الحياة, يدينها ويتنصل منها ويبرر تورطه فيها لكنه في نفس الوقت يقر بدوره سواء بسلبيته وهو يترك المصور يفرض عليه ابتسامة زائفة مثلا, أو علي نحو صريح كما يقول في هذا المقطع الصغير:
تحركت ضدي
فقابلت ضدي
وصرنا ضدين ..
ضدي !!

ولنا أن نلاحظ هنا كيف يركز علي مفردة ضدي في محاولة لغوية لحشد التركيز عليها, وكأنه يشير  لجوهر رسالته ونبع معاناته في كبسولة من ثلاثة أحرف, وهذا يشير إلي اهتمام الشاعر بالكلمة المفردة, وحرصه علي أن تقول وتشير وتوحي وتختزل الكثير من الدلالات وفي نفس الوقت يتم التعامل معها بحساب حتى لا تجمح في الغموض.
 وعلي هذا النحو يمضي  ليرسم المريخي ظلال خطواته في الواقع فيقدم المرارة بعينها, حيث الوجه الضائع في الكذب اليومي, والقسوة, وخلود الجناة ومن يبيعون الوطن, وحيث لا نهاية لمن يدوسون في بهجة الروح, أو يكومون التراب فوق الجسد العابر, كأنه جثة لا بد من دفنها, وحيث ـ رغم كل شيء ـ حرصه علي أن يكون حقيقيا, حتى لو سقطت ثلاثون عاما من جسده, وصار كل ما بوسعه هو انتظار الموت بعينين معاتبتين, أو السهر مع أحلامه وتحسسها كأرملة تتحسس أطفالها.


الكتابة في الكتابة

في كل قسم من أقسام المجموعة يقدم لنا الشاعر إشارة حول طبيعة الكتابة, فالقسم الأول ينتهي بسطر مستقل, كأنه نص قصير, يقول فيه (كنت أكتب لأني مندهش) وهنا يربط الكتابة بالدهشة باعتبارها مبررا ودافعا, كما ارتبطت بامتداد القسم بالنور كما يتضح من العنوان، لكن هذه الكتابة وفق مبدأ الدهشة تعبر عن مرحلة كانت, ولعلها غابت لغياب الدهشة, فلم يعد في الواقع ما يدهش, وقد امتلأت الذات بانكسارات, وزاد وعيها ببشاعة المناخ , فانتقلت إلي منزل آخر تقوم فيه الكتابة علي دعامة أخري, يقول في القسم الثاني في السطر الأخير لنص بعنوان القيء (حتى الكتابة التي أظن اسمها : الإحساس الدائم بالقيء) لقد غابت تجليات الدهشة, وصارت الكتابة فعلا لمواجهة الواقع المقزز, الذي لا تكف هراواته عن البطش حتى بعد التخلي عن الأحلام الكبيرة, حتى بعد أن صار الفعل مشغولا بأمور بسيطة وعابرة, إنه المناخ الذي لا يسمح بممارسة أبسط الأمور, يقول في بداية ذلك النص:

العظام التي تختل من وخز الشتاء
والقلب الذي أنهكه البرش
لم أكن مسجونا سياسيا ـ ربما تحترمونني ـ
لكنني
غازلت بنتا في طريق جانبي
أراد الشرطي أن يظهر في عينيها فأدخلني أسوأ شتاءات.

وفي القسم الثالث يتحول الشاعر من الكتابة إلي القراءة, قراءة ما تكتبه الحبيبة القروية الغائبة يقول علي لسانها:


"تهرب القرويات من الكلام
اعتدن أن يقرأن القلوب
لهذا أيضا يلجأن إلي الكتابة"
وأيضا:
"امنحني لأصدقائك
لعلهم يعيشون في جسدي"

الكتابة هنا تصبح بديلا للكلام, ومنبعها قراءة القلوب لا الوجوه, الداخل لا الخارج, إنها وسيلة لردم هوة وتعويض انفصال, بيت يأوي, مناخ آخر يصلح للعيش فيه, وهكذا يتنوع مفهوم الكتابة ربما ليجسد رحلة الشاعر عبر مراحل مختلفة, أو يبرر انشغاله جماليا ودلاليا بعناصر تبدو متباينة  في ظل حركة شعرية شهدت عبر سنوات كتابة المجموعة  ـ والتي تجاوزت العشر سنوات ـ  الكثير من الخروج والتمرد, وقد حملت المجموعة العديد من ملامحها, إلا إنها وقفت متمسكة بالتعامل الدقيق مع الكلمة المفردة, وتوظيفها بحيث توحي بدلالات كثيرة, دون أن يدخل في تركيبات معقدة, وفي نص بعنوان (البرهان) رأيناه يلعب بكلمة (يعيش) فيكررها أربع مرات متتالية, ويجري تحريفات علي حرف الشين, لتصبح يعيس, ويعيث, سخرية أو استخفافا, أو استسلاما لمفردة يعيش وقد صارت صفة لمن يبيع الوطن,
كما اهتمت المجموعة بتماسك البناء, وقيادته بعناية, واحتفظت بقدر من الحذر والتحفظ في التعامل مع التفاصيل وسعت إلي توظيفها بدلا من الركض خلفها .    
فتحي عبد السميع


نُشرت في مجلة الثقافة الجديدة العدد 224 مايو 2009

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads