الرئيسية » , , » آخر سكان دمشق: القصيدة ـ الحياة | سعيد يقطين

آخر سكان دمشق: القصيدة ـ الحياة | سعيد يقطين

Written By هشام الصباحي on السبت، 8 أبريل 2017 | أبريل 08, 2017


"تقديم الدكتور سعيد يقطين لمجموعة "آخر سكان دمشق آخر سكان دمشق: القصيدة ـ الحياة
سعيد يقطين

مر علي زمان طويل لم أقرأ فيها شعرا مما ينشر في الجرائد والمجلات على قلته. أحاول أحيانا الشروع في قراءة قصيدة، فإذا بالمقاطع الأولى تدفعك إلى النفور، وتحثك على التوقف. وكنت كلما احتجت إلى تنويع قراءاتي أعود إلى الديوان العربي الكلاسيكي القديم والحديث، فأستمتع بالكلمة، والإيقاع والصورة والبناء، فضلا عن المعاني المبتكرة والإيحاءات اللطيفة. لكنني عندما تسلمت ديوان "آخر سكان دمشق" للشاعرة بسمة شيخو، وجدتني أواصل القراءة باهتمام وانتباه وحرص، متأملاً، ومتألماً، وأنتهي إلى التساؤل: من قال إن زمن الشعر انتهى؟ ما ينتهي في أي زمن هو الرداءة. أما العمل الجيد فإنه حيٌّ أبداً، ويفرض نفسه على القارئ مهما كان موقفه من الجنس أو النوع الأدبي الذي يقرأ؟ وإقبالنا على العمل الجيد رفض لرداءة الخطابات التي تواجهنا، في كل حين، في الأخبار والتحليلات الصفيقة والمصالح المتضاربة، والحروب القذرة. ومن إحدى خصوصيات ديوان بسمة، هي أنه وهو يتصدى للرداءة، ينبري للحرب موجها إليها الكلمة المتمسكة بالحياة. ذكرني ديوان بسمة بلحظات كان الشعر العربي فيها ما يزال متألقاً، فكنا نتبادل الدواوين، وندوّن المقاطع التي نراها جديرة بالتأمل والحفظ. ولقد دفعني هذا إلى التساؤل: هل يمكن أن يخرج من قذارة ما يجري على تراب دمشق هذا التبر الخالص؟ وهل يمكن للشعر أن يولد من بين نفايات القاذفات، ودموع الثكالى، وأنين المصابين؟ ولم يكن جوابي وأنا أقرأ قصائد "آخر سكان دمشق"، وأعيد قراءتها بأن الشعر الحقيقي يمكن أن يخرج من بين الأنقاض، وأن يولد من الرماد نورا يضيء حلكة الظلام الذي نشروه في كل البقاع، فإذا هو يعلو على كل الأصوات التي أخرستها الصواريخ وقاذفاتها، وتحليلات المنافقين والمتزلفين. إنه الصوت الذي يعلو صوت المعركة، لأنه يبين أن الإنسان سيظل باقيا رغم كل آليات الدمار التي تسعى للقضاء عليه وإزالته من الوجود. قصائد ديوان بسمة حياة ضد الموت. وهي المفارقة الكبرى التي يتميز بها الديوان. ارتبط شعر الحرب في التراث العربي إما بحماسة الذكر (عمرو بن كلثوم) أو رثاء الأنثى (الخنساء)، وكانت فجائع آثار الحرب لا تسلم إلا إلى البكاء، سواء تعلق الأمر برثاء الممالك، (أبو البقاء الرندي) أو الأشخاص. لكن قصائد بسمة تمارس الابتسام والضحك. صحيح نحس بالمرارة وعمق الفجيعة، لكن الشاعرة تنبري لها برؤية مختلفة، فإذا هي تقوم على تنافر الأضداد الذي يقدم لنا الشيء على نقيض ما هو عليه، فإذا الموت حياة، وإذا آثار الحرب، على خلاف ما نجده في العادة. بدا لي هذا في كون قصائد الديوان مثل لوحة فنية كلما أعدنا النظر فيها، بدت لنا مختلفة عن النظرة السابقة، تبعا لحركة الضوء المتغير الذي يطرأ على اللوحة. وعلاوة على ذلك نجد تلك اللوحة تتشكل من قصائد، أو قطع، لكل منها شكلها الخاص، لكن لا يمكن أن نفهمها إلا في علاقتها بغيرها من القطع. نجمت عن التآلف بين القصائد لتشكيل
قصيدة واحدة متكاملة ومترابطة الأجزاء والعناصر عدة سمات نجملها فيما يلي :

1
البناء النصي

يبدو لنا الديوان، وإن اتسع لقصائد عديدة، وكأنه قصيدة واحدة، من خلال ترتيب قصائده وفق الزمن. تتابع القصائد زمنيا على مدى عام كامل يمتد من أغسطس 2014 إلى ديسمبر 2015، باعتماد التواريخ التي ذيلت بها بعض القصائد، مع معاينة أن بعض الأزمنة متقاربة، مما يدل على كون النفس الشعري الذي كتبت به القصائد واحد، وإن اختلف الزمان. ولعل قراءة متأنية للقصيدة ـ اللوحة، تكشف لنا البعد الترابطي الذي يسمها، وإن تعددت قطعها، وتنوعت عوالمها.
2
البعد السردي

يتأكد لنا البناء النصي القائم على ترابط القصائد وتوحدها لتشكيل لوحة الحياة التي أشرنا إليها، من خلال البعد السردي الذي تنهض عليه كل القصائد، وإن بصور متفاوتة. فالشاعرة ـ الراوية، هي التي تضطلع بمهمة إرسال الخطاب، لتجسد لنا رؤيتها لقصة مدينة أخلت سكانها منها، ولم يبق سوى صوت الشاعرة الراوية الذي يصلنا من خلال الطابق الثالث. فإذا هو الصوت الوحيد الذي يخاطب الآخر، ويتحدث إليه، وعنه، سواء كان هو الأب، أو العاشق. فتبرز لنا ذاتية هذا الصوت الذي يحاول لملمة مختلف العلامات والصور التي تتسارع نتيجة الدمار الذي يلحق بالمدينة من خلال رؤية ذاتية وموضوعية في آن. إنها تصور وتسرد، كل ما تلاحظه، من خلال إيماءة، أو إشارة لطيفة، أو تخبر، من خلال كشف ما لم يعد يراه القتيل أو الغائب أو المهاجر. فتعبر عن كل ذلك من خلال لغة شعرية رهيفة وشفافة، وفي الوقت نفسه، عبر صور تقوم على تنافر العوالم وتناقضها. وتبدو لنا هنا خصوصية التركيب الشعري الذي نجحت الشاعرة في تشكيله عبر توليد المعاني، واللعب بالألفاظ بكيفية لا تمحل فيها ولا تكلف. فالعشق مستحيل، والخروج إلى عالم آخر غير ممكن، ومعانقة الحياة بالصور التي ألفتها المدينة غير قابل للافتراض. ومع ذلك فآخر سكان دمشق يعبر عن واقعها ومآلها وأحلامها وآلامها، فإذا الديوان بكامله مختزل في مطلعه الجامع بين لام الأمل وميم الألم والألف الذي يؤالف بينهما. يتضافر بناء النص وسرديته ليقدمان لنا تجربة شعرية صادقة وأمينة ودقيقة وعميقة عن عالم الحرب وما يختزنه من فظاعات فإذا الشاعرة ـ الراوية تنبري له لتقول إن الحياة باقية، وأن الشعر الحقيقي لا يمكن إلا أن يعانق الحياة. تجربة تقدم لنا من خلالها بسمة شيخو دمشق الأخرى، من خلال خطاب آخر يختلف عن كل الخطابات التي تتحدث عن دمشق المحروقة. فإذا تنهض شامخة من خلال خطاب شعري جديد فيه ملامح عديدة، تبين لنا أن للشعر مكانا، وأن زمانه هو زمان الإبداع الحقيقي الذي يحارب الرداءة. وتلك طبيعة الإبداع الحقيقي ووظيفته.
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads