الرئيسية » , » الشعر الفرنسي في "سيادته" الموحشة | شربل داغر

الشعر الفرنسي في "سيادته" الموحشة | شربل داغر

Written By تروس on الأحد، 17 يوليو 2016 | يوليو 17, 2016












الشعر الفرنسي في "سيادته" الموحشة

 

كثيرون من النقاد جعلوا من "أغنية رولان" "أول" الشعر الفرنسي، بل "أول" اللغة الفرنسية القديمة في صيغتها الأولى المتحدرة من اللاتينية، ومن فرنسوا فيون (من مواليد 1431) "أول" شاعر "محترف"، ومن فيكتور هيغو الشاعر "الأول" في حساب الفرنسيين، إلا أن هذه التقديرات والحسابات وغيرها أشبه بـ "ما قبل التاريخ" الشعري، أو بعتبته، التي تؤدي، على الرغم من طولها وعرضها، إلى المرحلة التي تأكدَ فيها مقترح فرنسي للشعر، والبعض يراه عالمياً، أي واسع النفوذ والتأثير خارج حدوده. وهو "مقترح" أجمعَ عليه غير مؤرخ وناقد ودارس، وعيَّنَه في منتصف شعر بودلير نفسه: هو "مقترح الحداثة" من دون تردد، أو "قطعاً" مثلما قال رامبو بعده بقليل. واللافت في شعر رولان هو أن الفرنسيين جعلوا من مواجهة رجل لرجل، بخلاف الأساطير المؤسسة عند شعوب أخرى (مواجهة البشر لجبابرة أو للقدر وغيرهم)، أسطورة مؤسسة لهم، وهي أسطورة تحمل أغراضاً للشعر لا نتوانى عن الوقوف عليها في راهن الشعر الفرنسي كما في ماضيه البعيد والقريب. واللافت أيضاً في هذا النسق هو أن شاعراً مثل بيار سيغرز في "كتابه الذهبي" عن الشعر الفرنسي جعل من فيون المذكور بداية "الحداثة" هذه: "معه تنتهي القرون الوسطى وتبدأ "الحداثة" الشعرية: حداثة الإنسان المنفرد الذي يواجه الآخرين، والحب، والزمن، والموت".
إن الشعر الفرنسي يجتمع، منذ بودلير، في نسق راجح، مهما اختلف النقاد في شأنه، ومهما تنوعت تجاربه، وهو نسق له غير صلة بصراعات الإنسان، وله هيئة متعددة الصور: "الهامشي"، "المتمرد"، "الطليعي"، وغيرها. وهي الصور التي تتخذ من سيرة بودلير، من سلوكه الشخصي، من معركته المعلنة منذ كتابه "أزهار الشر"، نموذج الشاعر الحديث: المشّاء، المنفرد، الملعون، صاحب الرؤيا...، وهو الذي يجبه المؤسسات القائمة، من مؤسسات التكريس إلى مؤسسات الذوق. إلا أن هذه الهيئة الحديثة عنت، بخلاف ما ظنّه البعض، تأكيد سيطرة الشاعر على غيره، والرفعَ من شروط التنافس ضمن حقل الممارسات الأدبية، إذ بات التنافس أو حدود التمايز تنتقل بين "الشعبي" و"الطليعي"، بين "التقليدي" و"الابتكاري" وغيرها من التمايزات. وهي تمايزات كان للشاعر فيها، خصوصاً بودلير في دوره الشعري والتنظيري (شعرياً وتشكيلياً)، الدور الأبرز إذ كان العنصر الأكثر تطرفاً وإسهاماً في تعيين هذه التمايزات وتحديدها والتعريف بها والنضال من أجلها، لفرضها وجعلها حدود الإبداع الجديدة. لهذا قد لا ينتبه البعض إلى طلب السلطة الجديد والأكيد، الذي نادت به "الحداثة" لنفسها ولفاعليها، الطلب القابع خلف صفات العبقرية والتفرد والحساسية الفردية وغيرها من الصفات المنزهة التي روّجتها الحداثة لنفسها.
وبأثر من كفاح الحداثة هذا، توصلت هذه الحركات إلى تكوين ما أسماه بيار بورديو "بنية الحقل الأدبي"، أي خضوع الأنشطة والأدباء الفاعلين لمقتضيات واقعة في الحقل نفسه، بتأثير من المجتمع نفسه، ولمقتضيات أخرى بات الشاعر (والطليعي عموماً) قوّاماً عليها، لما يتمتع به من "استقلالية نسبية"، هي ناتجُ كفاح الحداثة واستمرارها في آن. قيل الكثير طبعاً في الأدبيات عن "تفرد" العبقرية، وقوة المخيلة، وتحرر القول، وهي كلها مظاهر جمالية متطرفة في تأكيد قوة الإنسان، التي لا تعدو كونها إشعاراً بسلطته الخاصة: فما نجده من صور عن الهامشي، عن المنشق، عن المتمرد، عن الطليعي، عن الحديث، لا تعدو كونها صوراً عن السيادة التي يطلبها الشاعر لنفسه في تعيين ما يراه وبطلبه، على أنه هو الآمر الناهي – وهو ما يظهر في قوته الأجلى، في قرار رامبو بالصمت النهائي. الحداثة في هذا المعنى سباق، خصام، دفعٌ في اتجاه تأكيد سلطة الشاعر، وإن أتى مفعولها انفصالاً عن صيغة وضعية تقليدية – تقليدية عند الشاعر كما عند الجماعة، أي خضوعهما معاً لقواعد، هي القواعد الذوقية المفروضة: هكذا يكون العدمي طالبَ سلطة بدوره، بل محتكرها بهذا المعنى.
إلا أن ما اجترحه الشعر الفرنسي لنفسه من مسار ودور حاملٌ، إلى مقام السيادة هذا، لمخاطر وتهديدات أكيدة، ليس أقلها انفصال الشاعر التام عن الجماعة، وانصرافه إلى غرفة الكتابة بدلاً عن جلبة المجتمع. وهذا يدعونا إلى التساؤل: أكلفة الشعر، كلفة وجوده السيادي، هي خروجه من التداول؟ أم كلفة الشعر هي دخوله في وحشة ظاهرية لكنها تعين حقيقته الداخلية؟
ذلك أنه في هذا القدر المتمادي من الانفصال، من اللامبالاة، من السعي إلى تعيين الشعر في تجارب خصوصية، من دون علامات استدلال وإحالة، يخلص الشاعر إلى ما يجعله لصيقاً بمادته التكوينية، إلى ما يبقيه وفياً لذاته، محمياً بما يلتقيه بعيداً عن الدفء الاصطناعي، الخارجي.
ما عاد الشاعر يحتمل تعييناً له، في مواضعات، في تقاليد، مستقرة، في أنماط، ومنه خروج الشعر الفرنسي النهائي من العروض، من صيغه كلها، غير آبه بالقواعد، متنصتاً وحسب إلى سيل الكلام في تدافعه، كما لو أنه يجبل ما يشاء، كيفما اتفق له، من دون قواعد سابقة أو ضمنية، هي الصيغ الإجتماعية المتعاهَد عليها والمتعارف عليها. يريد الشاعر أن يكون من دون شرطي، من دون قاض، من دون أكاديمية؛ هو وحده ضامناً للشعر، وحريصاً عليه في آن. وبقدر ما حاز الشعر مثل هذه "السيادة" على فعله نفسه، وحرره بالتالي من تقييدات "الخارج" عليه، بات الدخول إلى جمهورية الشعر دخولاً فردياً، فعلاً طوعياً، اختيارياً، على ما فيه من استنساب وتقطع. وهو ما جعل شاعراً، مثل جاك دوبين، يكتب في 1989: "لا يحتاج الشعر أبداً – فيما لو كان موجوداً، أو وُجد ذات يوم – إلى الخروج من سردابه السفلي، ولا الابتعاد عن مساره المتقطع. ولا أن يكون ظاهراً أو معروضاً. أنتم تعرفون ذلك، أنتم الذين تقرؤون، أنتم الذين تنسون القراءة، الذين تتسارعون لنسيان ما لم تقرؤوه – الشعر هو على هذه الصورة، زائغٌ، فالتٌ من أي لوحة عريضة أدبية، من نظام النشر، من محاكم التفتيش في وسائل الإعلام، ومن الفضولية الساهرة عند أناس قلقين على "غيابه" ".
غير أن "وقفة العز" هذه – على سخريتها – عند دوبين، غير الآبه بالسؤال عن "غياب" الشعر، لا تُغيِّب وجوب العلاقات، بل حصولها بين الشعر وما يحيط به. فالمتتبع لـ"تموجات" الشعر وتغيراته، منذ بودلير، يتحقق من تأثره الدائم، وإن في صيغ خافتة أحياناً، بالجلبة الخارجية: هذا يصح في ارتباط الشعر بالموجات "المستقبلية" أو الإيديولوجية، سواء الهامشية أو الجذرية، حتى الماركسية والتروتسكية، في صيغها السوريالية، أو في الشعر "الوطني"، ولا سيما في فترة ما بين الحربين العالميتين، وصولاً إلى انفصال الشعر عن الموجات المستقبلية كلها هذه انفصالاً يبدو أكيداً حتى أيامنا هذه - وهو انفصال نلقاه متأثراً بتراجع وخفوت الإيديولوجيات بدورها.
وما يمكن قوله، في هذا السياق، هو أن الشعر دخل، منذ بودلير، في مقترحات، في صياغات، أدت، على عنفيتها المحرِّرة، إلى ربط الشعر بمشروعات، برؤى، "غريبة" حسبما قال بودلير، وذات جمالية مضادة مثلما فعل لوتريامون، إلا أنها مكنت كذلك من دخول الإيديولوجيات من بابها الفني، مع السوريالية، ثم من بابها الأوسع مع الأيديولوجيات الماركسية وخلافها في مدى مرحلة ما بين الحربين.
لهذا يبدو المشهد الشعري منذ منتصف الخمسينيات مختلفاً عما كان عليه منذ بودلير: احتضرت السوريالية وتحولت إلى تراث مكتسَب، موزَّع فنياً في التجارب الشعرية المختلفة، كما خفت الشعر "النضالي" (الذي راج في فترة المقاومة ضد النازية، أو في مرحلة "الحرب الباردة") الذي عرف بعض الرواج.
ولهذا يمكننا القول إن الشعر الفرنسي دخل، منذ هذا العهد، في عهد التفرق بعد طول اجتماع تحت يافطات المشروعات الرؤيوية الكبرى، كما انصرف الشعر كذلك إلى عهد الصوت الخافت. وهو ما نلقاه في العديد من التموجات الشعرية، لا الموجات، التي باتت تفترق أو تتلاحق من دون أن تجد أو تدعي سبباً لذلك. لا بل يمكننا القول إن الشعر يقتات من "الحداثة"، من تراثها الحي، ولكن من دون أن يتعالق معها تعالقَ الموجة التي تلي الموجة، تكملة لها أو تحويلاً لها: كما لو أننا أمام جُزر شعرية، لكل واحدة منها "سيادتها" ووحشتها في آن، من دون أن تكون الأسباب بينها منقطعة أو ظاهرة. هكذا تتعايش من دون حروب معلنة، بل خافتة، لا يخيفها امتناع الشعراء والنقاد عن أسباب الصراع حول هويات الشعر أو أغراضه.
فقد الشعر بعض دعواه لنفسه، ولدوره، مكتفياً بظهوره المتهيب وحسب.
يمكننا ضمن هذا السياق الحديث عن تموجات عديدة: من تجريب اللغة تجريبات مبرحة كادت تودي بالشعر إلى جفافه التام، ونتبين في هذه التجارب تأثيرات النظريات اللسانية على حياة الشعر، حيث أن الحديث عن الشعر، أو جعل اللغة نفسها موضوع الشعر، بات مطلوباً أكثر من الشعر نفسه، وهو الشعر الذي وجد في دوني روش أعلى تجلياته وتجريباته، وفي المجموعة التي تحلقت حول مجلة جماعة "تَلْ كَلْ" مختبرها الأقوى. وفي ذلك نستطيع الحديث عن تجارب لافتة، مثل أندريه دو بوشيه، الذي عمل من أجل قصيدة "تشكيلية"، "بيضاء"، حسبما سماها البعض، وهي قصيدة استعادت هوس مالارميه وطلبه للقصيدة ذات المعمار الصافي (كما في رائعته "ضربة نرد واحدة...")، التي أتت عند دو بوشيه قصيدة تعلو على الفراغات، سواء البيضاء غرافيكياً، أو الفراغات الواقعة في تراكيب الجمل، التي تجعل القراءة حاصلة بين منصوص الكلام والوارد منه وبين موحياته وقابلياته الممكنة.
إلا أن هذا الولع بصفاء الشعر، وبكونه تصفيةً للتجربة الإنسانية والتاريخية وترقية لها، أدى إلى حبس، بل إلى خنق صوت الغناء في هذا الشعر. وهو ما اتخذ في تجارب بعض الشعراء مناحي مختلفة ومتباينة: منها العود إلى السرد الشعري (إثر "أحداث" 1968 الطالبية، وبتأثر من تجارب أميركية، مع ألين جينسبرغ، أو روسية مع يوفتوشنكو)، وإلى قول شعري يتخذ منبعه في الكلام اليومي، في سرد وقائع صغيرة أو تالفة وغيرها. ومنها العود أيضاً إلى غنائية خافتة، وإن كانت لا تصرح عن وجهها الأكيد، وتعني التعويل على الانفعال بدل تجريب الفكرة واحتمالات التراكيب اللغوية غير المحسوبة والمرغوبة في آن. وهو ما دعا الناقد برنار دلفايل إلى القول: "باتوا قادرين من جديد على استعمال لفظ "وردة" (في أشعارهم)"، مثل رونسار وهيغو وآراغون.
هكذا نقرأ في "البيان الكهربائي"، أحد آخر البيانات الشعرية في فرنسا (في العام 1971)، رغبة عدد من الشعراء الشبان في مبادرة الكتابة "مثلما نقتل، مثلما نقضي على وعينا وعلى اسمنا، لاستباق كتابة مقبلة، تظهر لنا، في انبثاقات عاجلة، في ثنايا اللغة المدمرة، المقتولة": إعلان أخير، لا يخفي، رغم علو نبرته ودعواه لنفسه، انصرافه إلى لعبة شعرية أقل إدعاء مما مضى: مضى زمن المبشرين الملعونين...
جبهة الشعر خافتة، لا دعاوى قوية فيها، ولا تطلعات لفرض توجهات هذه "الجماعة" أو تلك على غيرها. وفق هذا المعنى يمكننا القول إن الشعر انقطع عما كان يكون عليه فعلاً منذ بودلير حتى طروحات السوريالية الأخيرة. وما بدا مثل دعاوى شعرية عديدة، متعاقبة، وضاجة أحياناً، لا يخفي أبداً انفصال الشعر عن الدعاوى الكبرى، والقضايا الكبرى، والتطلعات المثلى. شعر خافت، متجاور مع غيره (هي ديمقراطية السياسة، ولكن هل يحتمل الشعر الديمقراطية؟)، وهو التعايش بأي صيغة كانت مع منطق "السوق"، لا طلباً لتغييره على أي حال. ذلك أن خلوص الشعر إلى مواجهات أشد حميمية مع العالم الباطني، ومع التجارب الداخلية - وهو الشاغل الذي يدعيه العديد من الشعراء – لا يخفي أبداً خروج الشعر من المواجهات الحادة والصدمات العنيفة، صوب أصوات أكثر اتزاناً وأقل اصطراعاً. أحفاد رامبو يتعقلون، وينصرفون إلى مواجهات يبدو فيها الانهماك باللغة أشد وأوقع من إلحاحات العصب والجسد.
إن الحديث عن تموجات الشعر الفرنسي يظهر لنا كذلك، في حركة موازية، تأثر العديد من التجارب العربية بهذه التجارب (من بودلير حتى الأخيرة منها، ولا سيما في بيروت، ومن بيروت إلى غير مدينة وتجربة عربية)، وهو ما يعزز اعتقادنا بأن الشعر الفرنسي، منذ بودلير، لم يكن "مقترحاً" شعرياً وحسب، وإنما طرح "نموذجاً" جديداً يتعدى خصوصيته مثل حدوده، وجعل الشعر في مواجهة قضاياه: أهو سيد نفسه إلى هذا الحد، وبأي كلفة؟
(بيروت، 1997).

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads