الرئيسية » , » فانتازيا القتل | غادة الأغزاوي

فانتازيا القتل | غادة الأغزاوي

Written By هشام الصباحي on الأربعاء، 18 مايو 2016 | مايو 18, 2016

فانتازيا القتل: (إلى عُلَيَّة الإدريسي البوزيدي. (مَعكِ ثُمَّ إلَيكِ ثُمَّ ... إلى الأبَد.


.... في القَبوِ كُنّا نجْلسُ، لا أدري ماذا كُنَّا نَنْتظرُ تَحْديداً. عِنْدَما أمْعَنتُ النَّظرَ جَيِّداً، ألفْتُ المَكانَ. كانَ قَبوَ بَيتِ جَدِّي، سِلاحُ الصَّيدِ، ذو الطَّلقَة الواحِدةِ لا يَزالُ مُعَلّقاً. خَرجْنا مِنَ القَبوِ إلى الحَيِّ القَديمِ.. الحَيّ الذي لمْ تَطَأهُ قَدمايَ مُنذُ سِنين. تَمشَّيْنا بِهدوءٍ حَتى وَصَلنا إلى السّوقِ الصّغيرِ. في الحَقيقةِ، لمْ يَكُن، يَوْماً، سوقاً حَقيقِيّاً: خَضّارٌ عَجوزٌ، محلٌّ للزيتونِ وآخر للمُكَسَّرات، جَزارٌ مُتغطْرِسٌ يُحاوِلُ تلقينَ الصّنعةِ لابْنهِ، هَذا الأخير حينَ تأتي إليْه نسْوة الحَيِّ يَطلبنَ حاجاتِهنَّ بكلامٍ مَليءٍ بالإيحاءاتِ الجِنسيَّة، يقْطعُ لَهنَّ اللَّحمَ وَهوَ يَقولُ: هذا ما تُريدين؟ هلْ هذِهِ هيَ القِطْعةُ التي تُريدين؟ فَتمْتدُّ يَدهُ داخلَ سِرْوالهِ. كُنتُ قًصيرةً، لم أعْرفْ أبداً إلى أين كانَتْ تَصلُ تِلكَ اليَدُ. المرأةُ كانَتْ تُطْلقُ ضَحَكات، بها أيضاً إيحاءاتٌ جِنسيَّة. أشُكُّ في أنّكِ تُريدينَ هَذهِ القِطْعةَ. يُردِّدُ الإبنُ. أَنا لا آكلُ لَحمَ الثُّعبانِ، قَطِّعهُ وكُلهُ أنْتَ. تَلتقِطُ المَرأةُ، بَعْدَ ذلك، طَلبَها المُغَلَّف في الوَرقِ ثُمَّ تَنصرفُ دونَ أنْ تدْفعَ. تَجاوَزْنا الخَضّارَ العَجوزَ مشيا ثم الجَزّارَ وابْنَه. كُنّا شَارِدَتينِ عِندَما وَقَفْنا أمامَ بقالةِ الزّيتونِ والمُحمَّضات. تِلالٌ صغيرةٌ وَمُلوَّنةٌ منَ الزّيتونِ. قُلتُ لكِ: إنِّي أحبُّ زيْتونَ البلادِ، وعِندما كُنتُ حُبلى لمْ أكنْ أتَشَهّى شَيْئاً عدا الزَّيْتون. خَطَفْنا بَعضَ الحَبَّاتِ على عَجلٍ ومَضَيْنا. تَوالتِ الأيَّامُ، لأنَّنا كَبُرنا قليلاً. لكِنَّنا، هُناك، داخِلَ رأسي ما زلنا نَتَرحّلُ يدًا في يد ولمْ نُحِسَّ بالزّمنِ. يَبدو هذا الحُبُّ نَزيهاً! هلْ يَبدو لكِ كَذلك؟ أنا لا أرى الأمرَ هَكَذا ولا أثِقُ في الحُبِّ. ما جَدوى الحُبّ؟ أنْ أخْرجَ قَلبي، كَبِدي، أمْعائي، أحْشائِي المُلطّخَةِ بالدّمِ.. أنْ أرَتِّبَها فوقَ طاوِلةٍ عَريضَة، وأقولَ لكُلِّ مْنْ يَقفُ أمَامي: هَذهِ أشياءٌ مُتَعفِّنةٌ، مُرّوا عَليْها، مُرّوا سَريعاً ولا تَلمَسوها أرْجوكُم. ألا يَحْدثُ الأمرُ هكذا؟ الحُبُّ "كَلبٌ" منْ سُوقِ حَيٍّ شَعبْيٍّ، كَلبٌ أجْربُ ابنُ كَلبْة جَرباء، لمْ يَتربَّ على الخَيْرِ ولا على النّبيذِ. لا أصَدِّقُ الحُبَّ في بِدايَته، أجُرّهُ مثلَ الفَضيحةِ. بَعدَ ثلاثينَ عاماً، مازِلتُ لا أعْرفُ التّمْييزَ بَينَ كلبٍ وكَلبٍ! في هذا الحَيِّ الصامتِ جِدّا، كانَتْ تَعيشُ صَديقتي، ماتَتْ وهيَ صَغيرَة ولا أعْرفُ السببَ حتّى الآن. في البَدءِ قَطَعوا أصْبعَ قَدَمها الكَبيرِ، ثمَّ قَطَعوا قَدمَها، أظنُّ أنَّهم بعدَ ذلكَ قَطَعوا ساقَها. وَفي الصَّباحِ، قَبلَ أنْ أذهَبَ إلى المَدرسةِ قالوا لي بأنَّها ماتَتْ. صديقتي لمْ تأكلْ كَثيرا منْ هَذهِ الحَياةِ، المرضُ كانَ أشْبهَ بثُعبانِ اِبنِ الجَزّار، أكَلَ مِنْ قِطعِ لحْمِها. تَسَلَّلنا إلى الحَيِّ. ثُمَّ فَجأةً رأَينا رجُلاً يُصوِّبُ مُسَدَّسهُ نحوَ شَخْص ٍيُقرْفصُ أمامَهُ مَحْنيَّ الظّهرِ. دائماً أفكِّرُ في أنْ أجَرِّبَ القتلَ، أنْ تكونَ الجَريمةُ پيرفِكْتْ لأنّني أخطِّطُ جَيِّدا. لقدْ فكَّرتُ مراراً في قتلِ جميعِ الرّجال الذينَ أحْببْتُهم بطُرقٍ عَجيبةٍ. ما يَحدثُ أمامَ أعْينِنا جَريمَةُ قَتلٍ عاديَّة، هادئة وسَريعَة. لم أحْزنْ ولمْ أخَف، لكِنكِ ارتبَكتِ عندَ رُؤْيةِ الدّم المُتدفّقِ منْ جُمجُمةِ ذلكَ الشّخص. أمْسكْتُ بذراعكِ وبَدأْنا نَرْكض. نَركضُ والقاتِلُ خلفنا يركضُ. هلْ هَذا هُوَ؟ هلْ هَذا هوَ الحُبُّ؟ أنْ نركُضَ مثلَ الجُبناءِ خَوفاً منْ طَلقةِ رصاصٍ؟ اركُضي، اركُضي.. ثُمَّ رَكَضْتِ. كنتِ أسْرع مِنِّي وهذا شَيءٌ جَيدٌ. كنْتُ أراكِ تَبتَعدينَ عَنِ الموتِ. في آخرِ الشّارعِ كنْتِ في انتِظاري. ماذا سَنفْعلُ الانَ؟ سَنأخذُ هذهِ العَبّارةَ ونعبُرُ نهرَ السّين!!! كيفَ وصَلَ السّين إلى هنا؟ لا أدري.. لا تطْلبي منّي تفسيرَ أيِّ شَيءٍ. اركَبي، سَأُريكِ المَكتبةَ حَيثُ كنْتُ أعملُ. ثمَّ ركِبْنا. ثمَّ نَزلْنا. هذا كلُّ شَيء. هلْ هَذا هوَ الحُبُّ؟ ما إنْ وَضعْنا أقدامَنا على الضِّفةِ الأخرى، حتى اختفى نَهرُ السّين. لنجدَ السّوقَ أمامَنا، مُجدّداً. بعدَ ثَلاثينَ عاماً، مَازالتِ الرصاصَةُ تُلاحِقُنا. ضَربتُ رَأْسيَ بِيدَيَّ وبَدأتُ أبْكي. سَتموتينَ بسَببي. ستَموتينَ لأنَّكِ مَعي. اركُضي، اركُضي.. ثُمَّ رَكَضْتِ. مَسافةٌ طَويلةٌ بَينَ بائعِ الزّيتونِ والجَزّار. لمْ تكنْ هَكذا في الحَقيقةِ. لكنْ أينَ هي الحقيقة؟ بائعُ الخُضَر العَجوز، لمْ يعد ذاك الرّجلَ الطّيبَ البَشوش، صار واحِداً مِن الذين فكّرتُ سابِقا في قَتلِهم. كانَ يجلس أمامَ المَحلِّ علىَ كُرْسيّهِ، يَضَعُ قبالتَهُ صُندوقاً خَشَبيّاً مَقلوباً. مِنْ مِذياعِه الصّغيرِ مَيّزْنا أغْنيَّةً، قُلتِ لي هَذهِ أغنيّةٌ ريفيّةٌ. لا يَهُمُّني.. لا يهُمُّني.. ثُمَّ قَفزتُ عَالياً. أسقطتُ بساقَيَّ الطَويلتينِ صُندوقَهُ الخَشَبيَّ، كأسَ الشايّ بالنعناع، السجائر الرديئة والمِذياعَ القَديم. لمْ أصَدِّق أنّني منْ فَعلَ ذلكَ! أَهَذا هوَ الحُبُّ؟ نعمْ، الحُبُّ هوَ الجريُ هرَباً منَ الوحوشِ ورَكلُ أيّ شَيءٍ يحاولُ الإلتِصاقَ. لا تَتوقَّفي، اركُضي، اركُضي.. ثُمَّ رَكَضْتِ. كنتِ أسْرع مِنِّي وهذا شَيءٌ جَيدٌ. الحبُّ يحْتاجُ إلى السّرعةِ لكيْ نَنْجوَ. صَدّقيني؟ رَبّاهْ، إلى هَذا الحَدِّ لَمْ أشْعُر بالألَمِ؟ أصِبتُ برَصاصَةٍ في ساعِدي. ثُمَّ اخْتفَى ساعِدي مِنْ جَسَدي. صِرتُ شَيئاً مُشَوَّها. شَيْئاً يُشْبهُ ذيْلَ الكلبِ. حاوَلتُ الزّحفَ إليكِ، العوْدةَ إلى قَبوِ بيْتِ جَدِّي، لكِنَّني لمْ أسْتطعْ. مُنذُ ذلكَ الوَقتِ، قَبل ثلاثينَ عاماً، ما زالَ الذّيلُ يَرقصُ وَحيداً في الشّارعِ وهُمْ يمُرُّونَ منْ دون أنْ يَلمَسوا شَيْئاً.
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads