هاري بنغهام: ما هو الأسلوب؟ | ترجمة: علي سيف الرواحي

Written By تروس on الخميس، 11 فبراير 2016 | فبراير 11, 2016


هاري بنغهام: ما هو الأسلوب؟
ترجمة: علي سيف الرواحي

عليك أن تفكك كتابتك لكي تبنيها من جديد.

لم يعد بالإمكان الكشف عن الأفخاخ التي تترصدك كلما حاولت كتابة جملة كاملة وواضحة.

ولكنك قد تتساءل في نفسك “إذا حذفت كل الزوائد اللفظية التي تنشر الفوضى في النص، وإذا عرَّيتُ الجملة الواحدة حتى النخاع، هل سيبقى شيئا يعبر عنّي في النهاية؟” بالطبع هذا تساؤل مشروع، وقد تبدو البساطة إذا أُخذت إلى حدودها القصوى أبلغ من بعض التعابير والجمل المتداولة.

سأشير إلى مهنة النجارة للإجابة عن التساؤل السابق. بعد ذلك سأتطرق إلى المسألة الكبرى، ألا وهي تحديد من هو الكاتب وكيف يحافظ على هويته.

القلة من الناس تدرك مدى سوء مستواهم في الكتابة. ولا يوجد من ينبههم إلى الغلوِّ والمبالغة وأحيانا قلة الحيوية التي تتسلل إلى أسلوبهم في الكتابة وتعيقهم عن التعبير عن أنفسهم. عندما تعطيني مقالة من ثماني صفحات وأطلب منك أن تختصرها إلى أربع، ستصرخ حينها بأن ذلك غير ممكن. لكنك ستعود إلى البيت وتقوم بعملٍ أفضل من السابق. بعد ذلك تأتي المهمة الأصعب،  وهي اختصار المقالة إلى ثلاث صفحات.

النقطة الجوهرية هنا هي أنَّ عليك أن تفكك كتابتك لكي تبنيها من جديد. عليك أن تعرف الأدوات الأساسية ووظائفها. واستدراكا لمثال النجارة، من المهم أن تقطع الخشب بصورة أنيقة وتطرق المسامير جيدًا. بعدها بإمكانك أن تعدل الجوانب والزوايا وتضيف لمستك الإبداعية. لكن لا تنسى أن عليك اتباع معايير ومبادئ هذه الحرفة. فإذا كانت المسامير مهلهلة، سوف يتداعى منزلك. وإذا كانت أفعالك ضعيفة وكلماتك غير مترابطة، ستكون جملك آيلة للسقوط.

هنالك كتّابٌ واقعيّون مثل (توم وولف) و(نورمان ميلر) ممن قاموا ببناء منازل شامخة. لكن هولاء تعلموا حرفتهم على امتداد أعوام عدّة. تراهم يقومون برفع أبراجهم البهية وحدائقهم المعلقة، ولا نملك نحن إلا أن نؤخذ بتلك الأعمال الرائعة التي لم نحلم بالقيام بها، بينما اتقنوا هم صنعتهم بحرفية واقتدار. وبالطبع فإن ذلك لا يتحقق بين ليلة وضحاها.

في البداية قم بتثبيت المسامير. وحين يرتفع بناءك شامخًا ويغدو جاهزًا لأداء مهامه، بإمكانك أن تفخر بقوّته وثباته. لكنك ستكون متلهفا لتجد أسلوبك الخاص، ولا تطيق صبّرًا حتى تزين كلماتك، كي يصب ذلك في هويتك المميزة التي يتعرف عليك القراء من خلالها. سوف تلجأ للتشبيهات المبهرجة والأوصاف المزخرفة، ظنا منك بأن “الأسلوب” هو حيلة تخرجها جاهزةً من كيس الألاعيب السحرية وتلبس كلماته كألوان الزينة الباهرة. لا يوجد كيس سحري  للأساليب، الأسلوب هو جزء عضوي في الكاتب،  حاله كحال الشَّعر. فإذا كان الكاتب أصلعا، كان فاقدا للأسلوب. وإضافة الأسلوب في العمل يشبه لبس الشعر المستعار. قد يبدو الرجل الأصلع للوهلة الأولى شابا ووسيما. ولكن النظرة الثانية تكشف عن وجود خلل ما. قد لا يكون العيب من الشعر المستعار نفسه، وهو الذي يعطي الرَّجل مظهر أنيقا والذي يدفعنا للإعجاب من العمل المتقن في صناعة الشعر المستعار. ولكن الخلل يكمن في أن هنالك شيئا مصطنعا في شكل الرجل.

وهذه هي مشكلة الكتاب الذي يسعون متعمدين إلى زخرفة كتاباتهم. حينها يُفقَد الشيء الذي يجعل من عملك مميزا. ضع في اعتبارك أن القارئ حذق، بإمكانه الشعور إذا كان الكاتب متكلفا أو مصطنعا. ولذا يحبذ القراء أن يكون المتحدِّث إليهم صادقا وعلى سليقته. ولهذا من الشروط الرئيسية للكتابة هي أن تكون على طبيعتك. وهذا شرط صعب لأنه يتطلب من الكاتب أن يقوم بشيئين ضد الفطرة البشرية للإنسان وهما، أن يكون الكاتب مسترخيًا تماما، وأن يتحلى بالثقة في النفس.

 وعندما تطلب من الكاتب أن يسترخي، فكأنك تطلب من رجل أن يظل هادئا بينما يتم تشخيص مرض الفتاق لديه. وتسأله التحلي بالثقة بينما يجلس متشنّجا ومحدقا في الشاشة بانتظار أن تظهر الكلمات.  لاحظ كم مرة يقوم الكاتب ليأكل أو يشرب شيئا ما. في العادة ينشغل الكاتب بأي شيء ليتجنب الكتابة. ولي شاهد على ذلك من أيام عملي للصحافة، حيث يضيع معظم الصحفيين وقتا كبيرا في الذهاب نحو براد الماء.

ماذا يمكننا أن نفعل كي نجنب الكاتب هذه المآسي؟ مع الأسف، لا شيء. العزاء الوحيد هو أنك لست وحيدا في معاناتك. في بعض الأيام يكون عطاؤك أكثر من أيام أخرى. وفي بعض الأوقات ستجد نفسك تكتب بصورة سيئة حتى يصيبك اليأس من الكتابة مجددًا. لقد مر كل كاتب بتلك الأيام، التي لا تبدو أنها ستختفي.

مع ذلك، من الجيد تقليل عدد تلك الأيام السيئة، وهنا تظهر مسألة محاولة الاسترخاء مرة أخرى.

فلنفترض بأنك كاتب تتهيأ للكتابة. قد تعتقد أن المقالة يجب أن تكون بطول معين لتكتسب أهميتها. وتتخيل كم ستبدو رائعة حين تراها مطبوعة. وتفكر كذلك في الناس الذين سيقرأون المقالة. وتفكر في أنها يجب أن تكون رصينة وعميقة المعنى ومؤثرة. وكل ذلك يتأتى، في اعتقادك، عن طريق التميّز في الاسلوب. لا عجب أن تكون في كامل تركيزك في أداء مسؤوليتك الجسيمة في كتابة تلك المقالة الرائعة التي، حتى اللحظة، تظل مستعصية عليك. مع ذلك فإنك تتعهد بتحمل تلك المسؤولية، وتعمل كل ما في مقدروك لكي تصطاد تلك العبارات الفخمة التي لم تكن لتخطر لك لولا الجهد العظيم التي تبذله لتصبح أفضل من نفسك.

كل ما يمكن أن تقوله عن الفقرة الأولى هو أنها كارثة. نسيج من التعميمات المعلبة، لا يمكن لأي كان أن يكتبها. والفقرة الثانية لا تبشّر بالخير كذلك. لكن مع الفقرة الثالثة يتولد شيءٌ قابلٌ للاستهلاك البشري، ومع الفقرة الرابعة تبدأ معالم بصمتك الشخصية في الاتضاح. وإنه لمن العجيب كيف أن بعض المحررين يلقون بالفقرات الثلاث  الأولى أو حتى الصفحات الأولى من المقالة ويبدأون من المكان الذي تظهر فيه شخصية الكاتب. ليس فقط لأن تلك الأجزاء أو الفقرات مصطنعة ولا صلة شخصية لها بالكاتب فحسب، بل لأنها لا تقول شيئا حقيقيا كذلك. هي مجرد محاولة واعية لكتابة مقدمة مزوقة. كمحرر، كل ما ابحث عنه هو جملة تبدأ هكذا “لن انسى اليوم الذي كنت..” حينها أقول في نفسي “ها هو انسانٌ يتحدث إلي”.

يكون الكتّاب على سجيتهم حينما يكتبون بصيغة المتكلم. الكتابة هي عملية حميمية بين شخصين، تحدث على الورق، وهي على استعداد لأن تذهب لأبعد مدى كي تحافظ على طبيعتها البشرية. من أجل ذلك أحث الناس أن يكتبوا بصيغة ضمير المتكلم (أنا، نحن..)

“من أنا لأقول رأيي أو أعبر عن مشاعري؟”  يتساءل بعضهم.

“وماذا ينقصك لتعبر عما يجول في خاطرك؟” أرد عليهم. “كل واحد منا مميز وفريد. ولا يوجد اثنان يتشابهان في الشعور أو طريقة التفكير”.

“لكن لا أحد يهتم بماذا أفكر أو أشعر” يأتيني الرد “قد يجعلني ذلك كأنني أبحث عن الاهتمام بصورة فاضحة”

وأرد على ذلك بقولي “سيبدون اهتماما حقيقيا إذا أخبرتهم شيئا مشوقا، شرط أن تفعل ذلك بكلماتك الخاصة”

ومع ذلك فإن عملية اقناع الكتاب باستخدام صيغة المتكلم ليست سهلة. يعتقدون بأن عليهم اكتساب الحق في التعبيّر عن خوالجهم وأفكارهم. وقد يتحججون بأن استخدام الأنا في التكلم يدل على الذاتية. ويشعرون أحيانا أن ذلك يفقدهم الوقار والمصداقية على غرار ما يحدث في الكتابة الأكاديمية. الكثير منهم يهرب إلى استخدام صيغ مختلفة كي يخرجوا أنفسهم من المعادلة. وأنت عندما لا تكلمني مباشرة، أشعر بالملل. عليك أنت تخاطبني بلسانك لأشعر بشغفك نحو الشيء الذي تخبرني عنه.


من الشروط الرئيسية للكتابة أن تكون على طبيعتك.

هنالك مجالات عديدة لا يسمح فيها باستخدام صيغة المتكلم. الصحف لا تريد استخدامها في قصصهم الإخبارية، وبعض المجلات لا تحبذها في مقالاتهم، ومراكز الأعمال والمعاهد تنبذها من تقاريرهم التي يوزعونها بكثرة. وهكذا الحال لدى الجامعات، تكره رؤية صيغة المتكلم في الأوراق البحثية والأطروحات الاكاديمية. قد يستثني أساتذة اللغة ضمير “نحن” التي تستخدم للتعظيم والتفخيم. وهي كلها اعتراضات مبرّرة. فالصحف تنقل الأخبار وهي يجب أن تكون موضوعية ومحايدة. وقد أتعاطف مع المعلّمين الذين يمنعون طلابهم من استخدام صيغة المتكلم، “أعتقد أن هامليت غبي”، قبل أن يتأكدوا من أن ذلك الطالب يمتلك الأدوات الأساسية لتقييم وتحليل النصوص ويجيد استخدام المصادر الخارجية. وبسبب الرغبة في عدم الإفراط في الذاتية والهروب من المسؤولية الأكاديمية، يأتي الامتناع.

مازلنا نعيش في مجتمعات تخشّى الإفصاح عن نفسها. المنشورات التي ترسلها المؤسسات طالبة عوننا جميعها متشابهة، رغم أن هذه المؤسسات من مستشفيات ومدارس ومكتبات ومتاحف وحدائق حيوانات قد أسّست، وما زالت تقوم، على أناس ذوي رؤى وأحلام متباينة. أين هم هؤلاء الأشخاص؟ من الصعب رؤية البعد البشري في تلك المنشورات المحمّلة بتعابير آلية من قبيل ” تم أخذ زمام المبادرة” أو “لقد حددت الأولويات”.

حتى في المواقف التي لا يسمح فيها باستخدام صيغة المتكلم، هنالك طرق لإضفاء لمسة شخصية على الكلام. كاتب العمود السياسي (جيمس رستون) لا يستخدم صيغة المتكلم في مقالاته، ومع هذا استطعت أن أستشف شخصيته من خلال كلماته. وهنالك العديد من الكتاب والصحفيين ممن ينطبق عليهم هذا الأمر. الكتاب الجيدون يظهرون بجلاء من وراء كلماتهم.  وحتى ولو لم يكن مسموح لك أن تستخدم “أنا”، فكر بصورة شخصية، أو اكتب المسودة الأولى باستخدام ضمير المتكلم ثم أحذف “الأنا” بعد ذلك. سيعلمك ذلك كيف تستعد للكتابة غير الشخصية.

يرتبط الأسلوب ارتباطا وثيقا بالحالة النفسية للكاتب، شأنه شأن الكتابة التي تغوص عميقًا في أغوار النفس الإنسانية. الأسباب التي تدفعنا للتعبير عن أنفسنا أو الفشل في ذلك بسبب “حبسة الكاتب”، مدفونة عميقا، ولو بجزء منها، في العقل الباطن. هنالك أنواع عدة من حبسة الكاتب مثلما أن هناك كتّاب مختلفون، وليس في نيّتي هنا أن أحللهم. هذا المقال قصير وأنا لست (سيغموند فرويد).

ولكنني اكتشفت سببًا جديدا وراء تجنب الكتّاب لاستخدام صيغة المتكلم، فالناس في الغالب لا يرغبون في خوض المخاطر بحيث يجدون أنفسهم وحيدين دون مساعدة. أخبرنا قادتنا من الجيل السابق عن مواقفهم التي يؤمنون بها بكل وضوح وثقة. أما في وقتنا الراهن فإن القادة يهربون من التعبير عن مواقفهم بالحديث الفضفاض عن مآثرهم ومزاياهم. ويظهر ذلك في المقابلات التلفزيونية حيث بإمكانك أن ترى كيف يلتفّون حول الموضوع من غير الإفصاح المباشر. أتذكر حين خاطب الرئيس فورد مجموعة من رجال الأعمال الأجانب مطمئنا إياهم بأن سياساته المالية ستحقق النجاح المطلوب.  حيث قال “كل ما نراه هو صعود السحب عاليا في كل شهر”. وقد فهمت قوله ذاك بأن السحب داكنة بعض الشيء. وجملة الرئيس فورد تلك من الغموض بحيث لم تقل شيئا ولكنها  جاءت مطمئنة لناخبيه في الوقت نفسه.

ولم تكن الحكومات التالية بأحسن حالا. ففي تصريح لوزير الدفاع (كاسبر ويبنبرغر) مقيما الأزمة البولندية في عام 1984 قال فيه”هنالك دافع قوي للقلق والمسألة تظل عالقة. وكلما طال أمد الأزمة، زاد قلقنا بشأنها”. وحينما سُئل الرئيس بوش الأب عن موقفه من الأسلحة النارية أجاب “هنالك مجموعات مختلفة تنادي بمنع هذا النوع من الأسلحة. أنا لست مع هذا التوجه. أنا في حالة قلق شديد”.

لكن البطل الحقيقي للتعليقات الغامضة هو (ايليوت ريتشاردسون) الذي تقلد أربعة مناصب مرموقة في إدارة الخزانة الأمريكية في السبعينات من القرن العشرين. يحار المرء من أين يبدأ استخراج التعليقات والتصريحات المريبة من مخزون هذا الشخص، ولكن خذ هذا “مع ذلك، لتحري الدقة، فإن قانون المساواة، كما أعتقد، حقق نجاحا مقنعا”. لن تجد جملة أشد غموضا من هذه الجملة المكونة من العديد من الكلمات المطاطة، مع أن هنالك جملة للشخص عينه تنافس تلك، حين قدم تحليلا حول سبب شعور العمّال بالملل في خط الانتاج “وهكذا، أخيرا، توصلت لقناعة قوية، وقد ذكرتها في بداية حديثي، وهي أن هذا الموضوع حديث جدا كي أبدي رأيي القاطع فيه”.

وهل هذا رأيٌ يعتدُّ به؟ إن القادة الذين يترنّحون في الكلام كأنهم ملاكمون طاعنون في السن لا يوحون بالثقة ولا يستحقونها. وهذا يسري على الكتّاب أيضا. أظهر نفسك بجرأة، وسيتألق نصّك مهما كان الموضوع. ثق في هويتك وآرائك. الكتابة هي عمل ينبع من الذات، لا تخش أن تفصح عن ذاتك بفخر. واستلهم من عملك الطاقة كي تستمر في المضي قدما.

* من كتاب How to Write لـ Harry Bingham. ​

المصدر| تكوين 

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads