الرئيسية » » رواية سرير الرمان (٨) | أسامة حبشى

رواية سرير الرمان (٨) | أسامة حبشى

Written By تروس on الثلاثاء، 22 ديسمبر 2015 | ديسمبر 22, 2015


(8)
بدأت الفصول الأربعة فى التبدل كثيراً، ومرت سنوات، وبدوت كالناسك بين الجبال والصخور والرمال والمياه. أتحرك بخفة، أحببت جسدى، وأحببت رائحة الأيام، وأحببت استحمامى بجانب البئر، وأحببت البحر كثيراً. كنت متحداً مع اللحظة كحالى فى الأيام الخوالى التى لم أذكرها بعد، ولم يعد يقلقنى عدم تذكرى مجددا،كنت بعيدا عن الرمان أو فى مراحل الرمان الآخر الذى لم اكتشفه فى النساء بعد ، يعود التذكر قليلاً مرة أخرى لدق شعيرات رأسى . كنت أتوقف أياماً أمام صخرة أو حفنة من الرمال. كم من المرات صرت كالراهب يعبد مايراه، ويدرك قدرة الخالق، كنت أرى حشرة تحفر لنفسها نفقا وأتابع اتحادها بالرمال ، والصراع بينهما . وكم من المرات رأيت قدوم الأمواج وكأن السحر يأتى معها متحداً. صرت قليل الكلام، أحمل هموم قدمى عندما أنتوى السير ، وأرى رغبة كفى عندما تنتوى لمس شىء لم تلتفت لها عينى، أنا الغرائز مجتمعة. كانت أعضاء جسدى بالنسبة لى هى أصدقائى الجدد بجانب البدوى، وكم هو رائع أن تصاحب أعضاءك .
هنا تتحق أولى نبوءات السيدة العجوز عندما قالت(ستعيش بغرائزك) ياإلهى هذا الجمال الداخلى والخارجى هو الكتاب الكونى الذى لن يمحى، كتاب الطبيعة السرمدى يا"ساراماجو"، فالضوء يتلون كل ثانية عندما يتحد مع مايسقط عليه، والسماء تكتسى بالأبيض والأزرق والأحمر والرمادى ، الأرض كالإسفنجة تمتص كل الألوان، الجبال تتزاوج كما يقول البدوى والصخور تضحك وتبكى، وأنا هنا بين كل هذا.
من العجيب أن تتذكر -عم سعد- وأن تعيد ماتعرفه عنه للبدوى، وعم سعد هو شخص أعرفه وأحترمه وهو ينتمى للمثقفين الذين يجبرونك على احترامهم بسبب اطلاعه وموهبته فى الكتابة، ولكن عم سعد شخص غريب الأطوار،وشخص قد تزوج وحدته وألمه، تذكرت تحديدا جملته لى مرة:
- ليس من العدل أو من الطبيعى أو من المنطق أن أموت دون لمس جسد إمرأة واحدة..هل يعقل ذلك؟
الجملة لم تكن سوى صرخة ممزوجة بالبكاء والحسرة والحسد والإحباط، وإلى الآن لم استطع الفهم لما قاله عم سعد ،هل يعقل أن يعيش فردا لمدة تفوق الستون عاما دون لمس إمرأة أو دون الخوض فى فلسفة الرمان؟ كنت أقفص قصته على البدوى الذى علق بعكس ماتوقعته،فقد كنت أتوقع منه التعاطف مع عم سعد ولكنها قلب الوضوع رأسا على عقب من حسرة لميزة وافتخارا وقال البدوى:
- إذا قدر ورأيته مرة أخرى هذا الرجل قل له يجب أن تدرك عظمة مافيك وأن تمضى قدما هكذا ليوم الوفاة، فأنت تجسد اسطورة الخلق بشكل آخر، فالمعروف عن حواء أنها أصل لعنتنا وأنت هكذا تعاقبها من خلال عدم لمس نسلها على مدار عمرك.
عقبتُ:
- لكنه لم يكن محض اختيار منه بقدر ماكان عجزا؟
أضاف البدوى:
- ياولدى لو قلت له هذا لتحملت أنت سبب انتحاره، افتح له بابا جديدا يبرر له حياته واتركه ينعم بفلسفة خاصة تساعدة فى قضاء الأيام الباقية له دون ألم.
افحمنى البدوى بطريقته فى تغيير مجرى الأمور وصمتنا معا برغم الإبتسامة التى لم تفارق وجنتيه.
أيها القارىء مع البدوى بدأت تنبت لدىّ فكرة صنع مركب ، وخلال أسابيع جمعنا بعضاً من أجزاء النخل والغاب والمسامير والأربطة ، ونجحنا فى صنع مركب، ليس بالمعنى الحرفى للمركب، وإنما أشبه بسجادة خشبية تطفو على الماء ولها جانبان مرتفعان بمسافة عشرة سنتيمترات فقط ، أطلقنا على مركبنا
اسم " سرير الرمان" نستلقى فيه ونترك أجسادنا تستمتع بطعم ورائحة الماء، مركب تسير أينما شاءت، دون توجيه إلا فى حالة الرجوع. هل تصدق أن "سرير الرمان"  يعشق الماء، وأن الماء عندما يحن للحديث ينتظر مركبنا؟.
   بالطبع كانت السنارة هى وسيلتى فى العيش ،بجانب الصيد البرى الذى علمنى إياه البدوى، وكان البدوى يجلب دائماً على فترات منتظمة السكر والشاى، عندما يذهب إلى زيارة أولاده بحى الكهرباء- القرية السياحية- الذى لايبعد عنى كثيرا، ولكننى لم أفكر مطلقاً فى زيارة هذه القرية .
 ​كنت سعيدا بأن مكانى مهجور وبعيد عن رحلات السياح فى الجبال، وكان البدوى مثلى لايحب الغرباء، مع مرور السنوات عرفت كل صغيرة وكبيرة عن البدوى وعن أولاده وعن مشروعاتهم وعملهم هناك بالقرية السياحية المجاورة .
البدوى رجل عادى بذاكرة فليسوف وله حلم صغير، فقد كان يحلم بزيارة مدينة ماء الورد، وهى مدينة "كاشان"التى تقع غرب صحراء إقليم "أصفهان" ب"إيران". أخبرنى البدوى أنه حلم بها ذات يوم منذ ثلاثين عاما ، ووصفها قائلا:
- مدينة الرمال والبيوت الخشبية.
البدوى حكى لى أنه قبل مقابلتى بخمسة أعوام تقابل مع سائح إيرانى يتكلم العربية من مدينة "كاشان" وأخبره البدوى عن الحلم والمدينة، وأخبره السائح أنه من هناك، وأن مايقوله من وصف للمدينة ، إنما هو وصف لمدينته التى تدعى كاشان، والغريب أن البدوى حفظ كل حرف قاله السائح عن "كاشان" ومن ثم أعاد كل كلمة لى، قائلا:
-"كاشان " سميت هكذا كما قال السائح لأسباب كثيرة منها ، أنها مركز لصناعة أفضل أنواع الآجُر والبلاط والموزاييك الملوّن، يُسمى بالفارسية (كاشي)، وتعريبه قاشاني ، لذا سُمّيت المدينة بـ (كاشيان) ، وأيضاً لأنها كلمة تطلق على البيوت الصيفية المبنية من الخشب و تطلق على المعبد أو مكان إقامة محافل أو طقوس العبادة، والمدينة تعرضت لهزات الزالزل منذ القدم ثم لهجوم المغول، وعادت للإزدهار فى العصر الصفوى، وهى تشتهر بأسواق السجاد الكاشانى.
 ​كنت أعرف أن ".كاشان"  مدينة  السجاد الحريرية ب "إيران"، وأنها من مدن التراث العالمى، و تشتهر أيضاً بالعمارة الفريدة، وهى مدينة صحراوية، ذلك فقط ماأعرفه ولكن لماذا زارت البدوى فى الحلم مدينة هناك بعيدة عن هنا ؟ولماذا هو أحبها كل هذا الحب؟ولماذا قابل السائح الإيرانى؟ولماذا يتحدث عنها كمعجم يذكرك بها فى نبذة تاريخية مطولة؟ قد يكون ذلك مرجعه رغبة البدوى فى الاتحاد بصحراء أخرى فى مكان آخر.

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads