الرئيسية » » المنتحرون | وديع سعادة

المنتحرون | وديع سعادة

Written By هشام الصباحي on الاثنين، 1 يوليو 2019 | يوليو 01, 2019

المنتحرون

مقتحمو الحواجز والمخاوف والمحرمات، فاتحو عتمة النفق ببرق عبورهم، المنتحرون، قديسونا.
الذين لم تسعهم الحياة، ففتحوا فسحة في الموت.
لم يملكوا حياة، فملكوا موتًا.
تعالَوا عن هبة، عن ضيافة حدثت بالصدفة، عن مائدة كانوا هم طبقها، وصفقوا الباب وراءهم و غادروا.
تركوا المقاعد و ثرثرات الوعود، وذهبوا إلى صمتهم.
أذابوا ملح الروح ودفعوه إلى الشلال، رموا خبز الخلاص للأسماك، أسكتوا الحفيف الشرس للدماغ، وسكنوا.
هناك خبل ما، قالوا، جاء بنا إلى هنا، وخبل سيأخذنا، فلنذهب بأنفسنا، لنكن نحن الخبل.
وعلى أطراف عبورهم كانت تُرى فراشات سوداء، كان يُرى خبل البقاء.
تركوا للفَعَلَة أن يرثوا ويورثوا، وذهبوا إلى الخواء. الخواء الواقف في الأعلى، فوق كل إرث و كل مُلك.
الخواء المظلم المخيف، الذي أضاءه عبورهم وجعله صديقًا.
للمنتحرين زاوية، مقعد يستريحون عليه، في الفراغ.
ولهم بيت هناك، وشجر، وأرض لا يعرفها أحد.
لهم سُطيحة في العدم، لا يستطيع الجلوس عليها غير الموتى. وياسمينة عالية أمام بيتهم، لا يمكنهم شمَّ زهرها إلا إذا صاروا هواء.
للمنتحرين غنمٌ ضلَّ، ويذهبون ليرعوه.
وهناك يحتفلون بعرسهم، بلا عروس ولا عريس ولا أبناء. يحتفلون باستحالة التزاوج، بغروب النسل، بالأرض المنقرضة.
وكلما سقط واحد منهم في الماء ولدت موجة، وكلما هوى واحد في فضاء هبَّت نسمة. المنتحرون يبتكرون بحارًا ورياحًا جديدة.
ومن الحبل إذ يتدلون، يملأون المسافة الفارغة بين السقف والبلاط. يضعون شيئًا في العدم.
والجثة حين يحملها الحاملون، يجدون ما اعتقدوه وراءهم يمشي أمامهم. يجدون الجثة الميتة تسبق الجسد الحي، والماضي يمشي بعد المستقبل، والموت يتقدم على الحياة. يجدون الحياة في الجثة لا في الجسد.
لا ينتحر غير من طفح بالحياة. من طفحت فيه الحياة فاندلقت.
ولا ينتحر غير من يعلو على الموت. من يسوده.
المنتحر يهب الموت معنى. ويدحره.
من ينتحر يترك لطختين، واحدة على وجه الحياة وأخرى على وجه الموت. يترك آثار سيادة.
وهل هناك سيادة غير هذه؟
لكن السيادة ليست مطلب المنتحرين. المحو مطلبهم. محو سيادة الحياة وسيادة الموت. سيادة من جاء بهم وسيادة من يذهب بهم. سيادة الآخر وسيادة الذات.
المحو الذي هو سيادة وجود، فعل حريّة.
المنتحرون قدّيسونا، سادة المحو، سادة الخواء.
وإذ يسلّمون روحهم للخواء لا  يكونون يسلّمون حياة بل إدانة. ولا جثة بل اسم قاتل. ولا خلاصًا بل هباء.
إذ يسلّمون أنفاسهم يسلمون الفراغ.
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads