الرئيسية » » أرملة الوقت | عائشة المؤدب/ تونس

أرملة الوقت | عائشة المؤدب/ تونس

Written By هشام الصباحي on الأربعاء، 27 أبريل 2016 | أبريل 27, 2016

أرملة الوقت

قَبْلَ الشّروعِ في رَصْفِ نهارٍ جديدٍ، كانت كلَّ صباحٍ تُراقِبُ الكلِماتِ وهي تَقفِزُ من فنجَانِ الْقهوةِ كَغربَانٍ جائعَةٍ، تُعارِكُ شاعِرَهَا الْمنفِيَّ في دمِها حوْل مصْروفِها الْعاطفِيِّ الزّهيدِ، تُجادِلُ النّافذةَ الْمُعلّقةَ على الْجِدارِ في حزمة ضوءٍ محجوزةٍ خلف السّتارةِ النّاعسة...
عند الظّهيرةِ تَمنَحُ نفْسَها لصوْتٍ ترَنّح بيْنَ غفْوَةٍ وغبْطةٍ تائهةٍ، امرأةٌ تُروِّضُ في مُخيِّلتِها صورةَ الْبابِ الْمعتّقةِ بالصّمْتِ، تُعِدُّ طعامًا مالحًا لطفلٍ تعوّد أنْ يَشْربَ حليبَ الْمعاني، تَرْتِقُ عباءَةَ الوقْتِ بصَمْتِها، تُوَشِّحُ ذَيْلَ خَيْبَتِها بِعَقيقٍ لاَ مُبَالٍ.
كُلَّ مَسَاءٍ، تُجَمِّلُ الْمَكانَ في ذَاكِرَتِهَا بِوَابِلٍ مِنْ هَمْهَمَاتٍ نَائِحَةٍ، تُجَدِّدُ رَصِيدَ الطَّيْشِ لِشاعِرٍ يُرَاوِدُهُ الْمَوْتُ كَفِكْرَةٍ رَائِعَةٍ، كُلَّ مَسَاءٍ أَيْضًا، تَمْتَطِي صُورَةً شَرَعَتْ عَنَاكِبُ الْغُرْفَةِ الأَلِيفَةِ فِي رَسْمِهَا، تُوقِظُ كَائِنَاتِ الْفَرَاغِ الْمُترَبةِ تُسامِرُهَا وتَذْرُو مَزِيدًا مِنَ الرَّمادِ، تعود من وهمِهَا قبْل الليلِ بقليلٍ، تُعلّقُ النافذة الخرسَاءَ قبالةَ حلمِها تكدّس خلفها الهواء وتهدمُ رصْفَ النهارِ وترقدُ.
لا رغبةَ للمكان في البكاء اليوم، والوقتُ اللزجُ ينزلقُ على رائحةِ الهواء الباردة، غير أن النافذة شرعت تبسمت وهي تمدّ إصبعا متوهجا وتلعق الغبار السابح في اللاشيء، تبتسم! ... كما لو أنها تبتسم! الصوت الأبكم يرسل إشاراتٍ مرئيةً على مضض: بريق خلف النافذة؟ ... عاصفة من ضوء؟
ينفجر الحلم
يصرخ الشاعر
يعوي الطفل
تضحك الغربان بزغب بزهريّ
يرتجف النفَس ويشرئب
عاصفة من ضوء... بحر من هواء
هي تلهث مثل كلب جالس في ظلّ وهميّ، تُلْقِم وجهها ثقبا تعثّر في الظلام، هستيريا الضّحك تباغتها وهي تفتّت شعاعا سرّبته النافذة بلؤم.
تهرول إلى الباب الموصد ولا تصل، تمسك النّفَس الأخير ، تغرسه في قلبها المشوّه بالحلم: يموت الشاعر المنفيّ في دمها بجرعة زائدة ويهرب الطفل،
تنتف الغربان ريشها الوردي وتملأ الثقب المتدليَ من النافذة الكاذبة
صراخ في أذنيها ... أنين
يصعد النّمل إلى رأسها وهي تلعق بجسدها برودة البلاط
لم تصل يداها اللاّهثتان أبعد من صدغيها
والأنين ينز بلا صوت
هواء... هواء... هواء...
رئتها المثقوبة تفلت منها وتغيب في بالوعة الوعي.
في الخلفيّة عتمة مزمنة كموسيقى تصويرية لفلم سوريالي، لاشيء يتنفس
والهواء المتخثر يبتلع الساعة الشاخصة نحو العدم.
ستجلس في هدوء،
على سدّة ضيّقة
تجفّف الوقت
وتقطر   تقطر   تقطر   ...
وتق... تق... تق... تق...
كحبات سبحة منتظمة في يدها العجوز

كان الإبهام المتحرّك يعدّل تقاطر الحبّات في معبر الوقت يمضغ علكة ويتثاءب
هل كان يعلم أن خيط السبحة الماكر كان يخطّط لأمر طارئ ؟

عائشة المؤدب/ تونس


التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads