شوقي بزيع يسبر العلاقة بين الهجرة والإبداع

Written By تروس on الاثنين، 4 أبريل 2016 | أبريل 04, 2016

شوقي بزيع يسبر العلاقة بين الهجرة والإبداع 
ليس هناك ما يغذي جذوة الشعر والإبداع بوجه عام أكثر من الهجرة

تحرير: مصعب الرويشد

“ليس هناك ما يغذي جذوة الشعر والإبداع بوجه عام أكثر من الهجرة“.

بهذه السطوع يستهل الشاعر اللبناني شوقي بزيع حديثه في (هجرة الكلمات)، والذي يحمل لوناً متفرداً من نثر الشعراء، صاحب (صراخ الأشجار) و (قمصان يوسف) الذي يصفه أنسي الحاج “نثره نساء يستحممن وراء أشجار الذاكرة، حاملات بجمالهن مفاتيح سجونهن، ضاحكات ممن يتلصص عليهن واهماً، كما تضحك الآلهة من مؤمنيها” يلج باب الهجرة باعتباره رحيلاً، سواء كان إلى الخارج أم إلى عالم الداخل، قسريٌّ كان أم طوعي، حيث يقول عنها: 

“إنها تتيح للإنسان فرصة اكتشاف نفسه في ضوء المسافة التي تفصله عن أرضه الأم، بقدر ما يعمل الحنين من جهة ثانية على إضرام النار في غابة اللغة“

هجرة المكان الآمن

وعلى اعتبار أن الكتابة الإبداعية عملية خطرة تواجه المسكوت عنه ببراعة الكلمات، وتتجرأ على فكرة الـ“ما لا يقال” عادةً، فإن الهجرة هنا تصبح جزءاً من هوية العملية الكتابية، فـ :

“أن تهاجر المكان الآمن الذي يوفر لك أسباب الراحة والطمأنينة باعتباره موصولاً بظلمة الرحم ودفء المياه الأصيلة، وأن تواجه عارياً وأعزلاً من كل ظهير ما تهيئه لك المنافي من مفاجآت صادمة أو لُقىً غير منتظرة، يعني ذلك أن تبطل مفعول الهوية الناجزة لتصبح هويتك في مهب التجاذبات بين الأماكن النائمة التي غادرتها والأماكن الرجراجة التي لم تثبت بعد على حال، وفي هذه المسافة الفاصلة بين نقطتي الانطلاق والوصول (المتعذّر بالطبع) يتاح للشعر أن يعثر على ضالته المنشودة“ على حد تعبير بزيع، فقد “ظلت الهجرة على امتداد السنين ترفد الكتابة بأفضل ما تم إنجازه من سير وملاحم وحكايات” ويكفينا إمعان النظر بما تركه جلجامش من حكايا سومرية مليئة بالغناء والحكمة والتأمل، من خلال بحثه عن عشبة الخلود.

يقدم بزيع من خلال حديثه عن الهجرة والكتابة نماذج عربية سطع نجمها في المنافي، واستطاعت كلماتهم أن تصل إلى الأرض الأم وتظل راسخة في عقول وقلوب أجيال متعاقبة لم يستطع الزمن زحزحتها، حيث وصف الأدب المهجري “الذي تبلورت معالمه في مطالع القرن الفائت، بأنه عنواناً آخر من عناوين هذه العلاقة الملتبسة بين الأمكنة والمنافي، فمن خلالها ـ هذه العلاقة – أمكن لكتّاب وشعراء المهجر الكبار أمثال جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبي ماضي وأمين الريحاني وفوزي المعلوف ونسيب عريضة وعشرات غيرهم أن يتحرروا من ربقة الواقع المشرقي المتأسن والمثخن بالاستبداد، وأن يقيموا مملكتهم التعبيرية والإبداعية فوق أرض أكثر رحابة وأقل قسوة على الإنسان، إلا أن تلك الأرض رغم قسوتها ظلت الينبوع الذي يغرفون منه مياه الإلهام والنقطة التي لا بد من العودة إليها في نهاية الطريق” .

القرب حجاب

وكما قال المتصوّفة قديماً (شدة القرب حجاب) حيث أن القرب مماثلٌ للبُعد الشديد، يحجب ملامح الشيء وصفاته، ولا يكون في المستطاع تبيّن أبعاده الحقيقية، فيقول بزيع “كما ينبغي على الانسان لكي يستطيع أن يتبيّن ملامح وجهه في المرآة، أن يبتعد قليلاً عنها، فقد كان بعد هؤلاء (شعراء المهجر) عن أوطانهم الشرط الضروري لرؤيتها بتمعن وللوقوف على عثراتها ومشكلاتها ومواطن تخلفها المزمن، وليس من قبيل الصدفة أن يتبلور مفهوم النهضة والتنوير في ضوء العلاقة بالآخر والتفاعل مع قيمه ومفاهيمه بعد أن كانت الذات العربية عرضة للتحلل والانهدام طيلة عدة قرون”. 

وهو ما فعلته الحركات المشرقية الباطنية من رحلات مغايرة نوعاً ما، حيث كانت إلى الداخل في سبيل اكتشاف الظاهر على حقيقته، ولأنها، كما وصفها بزيع “حركات اعتراض على السائد المهيمن ورفض لبنيته المغلقة والمتحجرة داخل القوالب الجاهزة والاشكال المحنطة، راحت تبحث في ما وراء الشكل في قراءات جديدة للنصوص الدينية المفتوحة التأويل، كأنها تخلق بذلك نصاً موازياً للنص الأصلي أو تعيد انتاجه بما يلائم نزوعها الرفضي أو بحثها الدؤوب عن الإقامة في جسد داخلي مغاير للجسد المكشوف”، حيث ان هذا الجدل بين الظاهر والباطن كان الحاضنة الشعرية الأكثر تألقاً وسطوعاً مما يسمع للشعراء أن يذهبوا بعيداً في افتراع اللغة ومنعها من التكلس والتأسن ـ على جد تعبير بزيع ـ داخل القوالب المبتذلة والمعاني الجاهزة.

ويختتم شوقي بزيع حديثه عن هجرة الكلمات في صورتين لاثنين من كبار شعراء العربية وهما أبي تمام بقوله : “وطول مقام المرء مخلقٌ / لديباجته فاغترب تتجدّد” حيث يحيلنا هذا البيت الى قول الشافعي : ”إني رأيت وقوف الماء يفسده / إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب”

في إشارة إلى فكرة الانتقال والهجرة المكانية لتجاوز التكرار في الأفكار والصور والتساؤلات، وصورة المتنبي الذي قال: “على قلق كأن الريح تحتي / أحركها يميناً أو شمالاً” فكأنها دعوة لركوب الرياح التي تشير مجازاً إلى هجرة بمفهوم داخلي باطني وارتحال الى النفس وعوالمها.



التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads