الرئيسية » , , , , » موديانو: الروائي سائر أثناء النوم، غارق جدًا فيما ينبغي أن يكتبه | ترجمة: إيهاب قريبة

موديانو: الروائي سائر أثناء النوم، غارق جدًا فيما ينبغي أن يكتبه | ترجمة: إيهاب قريبة

Written By تروس on الثلاثاء، 12 أبريل 2016 | أبريل 12, 2016

موديانو: الروائي سائر أثناء النوم، غارق جدًا فيما ينبغي أن يكتبه
ترجمة: إيهاب قريبة

الكتابة نشاط غريب وفردي، وهنالك لحظات من الإحباط والكآبة عند بداية العمل على الصفحات القليلة الأولى من الرواية،

 أود أن أخبركم بكل بساطة كم أنا سعيد بوجودي هنا، وكم تأثرت بالمكانة العظيمة التي وضعتموني فيها بمنحي جائزة نوبل للأدب.

هذه أول مرة يتوجب عليّ فيها التحدث أمام جمهور عريض كهذا، وأشعر ببعض التوتر لذلك، إنه لمن السهل تخيل أن هكذا أمور تتأتى للكُتّاب بشكل عفوي وسهل، ولكن للكُتّاب – حسنًا لنقل للروائيين على الأقل – علاقة غير بسيطة مع الخطب، تتذكرون الدروس المدرسية التي تفرق بين المكتوب والشفاهي، للروائي موهبة فيما هو مكتوب أكثر مما هو شفاهي، إنه معتاد على البقاء صامتًا، وإنه ينخرط مع جمهور الناس إذا ما أراد تًشًرُّب الجو المحيط به، ينصت لأحاديثهم دون أن يُبْدِي ذلك، وإن خطى داخلها فإنه يفعل ذلك ليسأل أسئلة حذرة حصيفة ليزيد من فهمه للنساء والرجال حوله، حديثه متردد لأنه معتاد على شطب كلماته، ففي الحقيقة يصبح أسلوبه كريستالي الوضوح بعد إعادة الصياغة مرات عديدة، ولكن عندما يقف على الأرض فلا معنى لمحاولات التعديل على كلامه المتلعثم.

إني أنتمي أيضًا إلى جيل الأطفال فيه يُرَون ولا يُستمع إليهم إلا في بعض المواقف النادرة، وفقط بعد طلب الإذن لذلك، فلا يستمع أحد إليهم قط، ويتحدث الناس فوقهم عادة، ويفسر ذلك الصعوبة التي يواجهها بعضنا عندما يتحدث، أحيانًا التردد، وأحيانًا التحدث بسرعة كما لو كنا نتوقع أن نُقاطع في أي لحظة، ربما لذلك تملكتني رغبة الكتابة مثل الكثيرين في نهاية الطفولة، آملًا أن البالغين سيقرأون ما تكتب، بتلك الطريقة سينبغي عليهم الاستماع إليك بدون مقاطعة، ومؤكدًا سيعرفون ما بداخل صدرك.

قد تبدى لي اعلان هذه الجائزة غير حقيقي، وتلهفت لمعرفة لماذا اخترتموني، لم أعتقد أبدًا حتى ذلك اليوم أنني واعٍ فعلًا لمدى عمى الروائي عندما يتعلق الأمر بكتبه، وكم أن القراء يعرفون عما كتبه أكثر مما يعرف، لا يمكن أبدًا للروائي أن يكون قارئه الشخصي باستثناء قراءته لمسودته بحثًا عن الأخطاء اللغوية التركيبية والتكرار وأحيانًا قطعة نصية زائدة، لديه فقط انطباع جزئي ومشوش حول كتبه، كرسام يصنع لوحة جصية على السقف، يستلقي على السقالة مشتغًلا على التفاصيل، قريبٌ جدًا بدون أي رؤية لعمله ككل.

الكتابة نشاط غريب وفردي، وهنالك لحظات من الإحباط والكآبة عند بداية العمل على الصفحات القليلة الأولى من الرواية، يتملكك كل يوم ذلك الشعور بأنك تسير في المسار الخاطئ، ويخلق ذلك رغبة ملحة للعودة وراءً وتتبع طريق مختلف. من المهم ألا تستسلم لذلك بل أن تستمر في المضي قدمًا، الأمر أشبه بقيادة سيارة في ليلة شتوية على الثلج مع نطاق رؤية مداه صفر، لا تملك خيارًا، ولا يمكنك القيادة إلى الوراء، ينبغي أن تمضي إلى الأمام بينما تحدث نفسك بأن الأمور ستكون على ما يرام عندما تصبح الطريق مستقرة ويرحل الضباب.

وتشعر عندما تشارف على إنهاء كتابٍ ما كما لو أنه بدأ بالتفتح وتنفس هواء الحرية، كأطفال المدارس في الفصل في اليوم الأخير قبل إجازة الصيف مشتتي الذهن ومشاغبين لا يُلقون بالًا لمعلمهم، وأود أن أذهب أبعد من ذلك وأقول أنه بينما تكتب صفحاتك الأخيرة يُظهر الكتاب شيئًا من العدائية باندفاعه لتحرير نفسه منك، فيتركك بالكاد تملك وقتًا لكتابة كلمتك الأخيرة، ثم ينتهي الأمر، ولا يحتاجك الكتاب أكثر من ذلك، وينساك، فمن الآن وصاعدًا سيكتشف الكتاب نفسه عبر القراء، وعندما يحدث هذا سيتملكك الشعور بفراغ عظيم وبأنك هُجِرت، سيكون هنالك شيء من خيبة الأمل أيضًا، لأن أواصل العلاقة بينك وبين الكتاب انقطعت بينكما بسرعة فائقة، وذلك الشعور بعدم الرضا وأن شيئًا لم ينتهي بعد هو ما يدفعك لكتابة الكتاب التالي في محاولة لاستعادة توازنك، وهو شيء لن يحدث قط، و تتابع الكتب الواحد تلو الآخر بينما تتوالى السنين، ويتحدث القراء عن “مشروع أدبي”، ولكن بالنسبة إليك سيكون هنالك شعور بأن الأمر كان مجرد اندفاعة غير مدروسة نحو الأمام.


تشعر عندما تشارف على إنهاء كتابٍ ما كما لو أنه بدأ بالتفتح وتنفس هواء الحرية،

لذلك نعم، يعرف القراء عن كِتَاب أكثر ما يعرفه الكاتب نفسه، ويحصل بين رواية وقارئها في بعض الأحيان عملية مشابهة لتحضير الصور الفوتوغرافية على الطريقة التي كانت قبل العصر الرقمي، حيث تطبع الصورة في غرفة مظلمة، لتصبح مرئية شيئًا فشيئًا، فعندما تقرأ شاقًا طريقك عبر روايةٍ يحدث نفس التفاعل الكيميائي، ولكن ليحدث هذا التناغم بين الكاتب وقارئه من المهم ألا تُحمّل القارئ فوق طاقته -بنفس المعنى عندما نقول أن مغنيين يحملون أصواتهم فوق طاقتهم- ولكن اكسبه دون أن يعي، دع مساحة كافية للكِتاب ليتغلغل فيه رويدًا رويدًا، بواسطة فن يشبه العلاج بالإبر الصينية، حيث يجب غرز الإبرة في المكان الصحيح بالضبط لتصدر تيارًا في الجهاز العصبي.

أؤمن بأن لدى عالم الموسيقى مرادف لهذه العلاقة الحميمية والتكاملية بين الروائي وقارئه، لطالما اعتقدت أن الكتابة قريبة من الموسيقى، إلا أنها أقل نقاءً، ولطالما حسدت الموسيقيين الذين حسبما أعتقد يمارسون نوعًا من الفن أرقى من الرواية، وكذلك الشعراء الذين هم أقرب للموسيقيين من الروائيين، لقد بدأت كتابة الشعر طفلًا، ومؤكدًا بسبب ذلك رن تعليق قرأته في مكان ما كالوتر بداخلي “يُخلق كُتّاب النثر من الشعراء السيئين”، وبلغة الموسيقى يتعلق الأمر عادة بالنسبة للروائي بأن يستخلص من جميع الناس والمناظر الطبيعة والشوارع التي يستطيع ملاحظتها نوتة موسيقية تحتوي ذات “الوصلات اللحنية” من كتاب إلى آخر، ولكنها ستبدو له غير مثالية، ولذلك سيعتذر الروائي أنه ليس بموسيقي خالص وأنه لم يلحن المقطوعة الحالمة لشوبان.

يفتقد الروائي للوعي بمشروعه الأدبي و”للمسافة الحرجة” منه نتيجة لظاهرة لاحظتها فيّ وفي آخرين كثر: فبمجرد أن يُكتب كتاب جديد، فإنه يمحو الأخير قبله، ويتركني بانطباعٍ أنني نسيته. أعتقد أنني كتبت الكتب الواحد تلو الآخر بطريقة غير مترابطة، نوبات متتابعة من النسيان، ولكن ذات الوجوه وذات الأسماء وذات الأماكن وذات الجمل تستمر عادة في العودة كتابًا تلو كتاب، كأنماط الزخرفة على بساط نسجته وأنت نصف نائم، نصف نائم أو نصف مستغرق في أحلام اليقظة، الروائي عادة سائر أثناء النوم، غارق جدًا فيما ينبغي أن يكتبه، ومن الطبيعي أن تقلق عندما يقطع الشارع خوف أن يُدهس، و على الرغم من ذلك لا تنسى الدقة العالية للسائر نائمًا فوق السطوح دون أن يسقط.

كانت العبارة التي عَنَّت أمامي في البيان الذي أعقب إعلان جائزة نوبل هذه تلميحًا للحرب العالمية الثانية: “كشف حياة الاحتلال”، كنت ككل شخص آخر ولد سنة  1945 طفل الحرب وأكثر لأنني ولدت في باريس، بشكل أكثر دقة طفل مدين بولادته لباريس الاحتلال، وود من عاش في باريس تلك أن ينساها بسرعة كبيرة، أو على الأقل أن يفتكر التفاصيل اليومية، تلك التفاصيل التي تُوهِمُنَا أن كل يوم في الحياة في النهاية لا يختلف كثيرًا عن أي يوم آخر من أيام الحقبات المستقرة، لقد كانت برمتها حلمًا سيئًا مع ندم مبهم بأنك قد كنت بطريقة ما من الناجين، وفيما بعد عندما يسألهم أطفالهم أسئلة حول تلك الحقبة وحول باريس تلك تكون إجاباتهم مراوغة، أو عوضًا عن ذلك يبقون صامتين كما لو كانوا يودون جليَ تلك السنوات المظلمة من ذاكرتهم وإبقاء بعض الأشياء مخفية عنا، وفي مواجهة صمت آبائنا أخذنا في استكشاف تلك الأيام كما لو عشناها بأنفسنا.


الروائي عادة سائر أثناء النوم، غارق جدًا فيما ينبغي أن يكتبه،

كانت باريس الاحتلال مكانًا غريبًا، مضت الحياة على السطح كما كانت قبل ذلك، المسارح وقاعات السينما والموسيقى والمطاعم مفتوحة للتجارة، تصدح الأغاني من الراديو، حضور المسارح والسينما أكثر منهما قبل الحرب كما لو أن تلك الأماكن مآوي يتجمع فيها الناس ويحتشدون بجانب بعضهم البعض للطمأنينة، ولكن بعض التفاصيل الغريبة دلت على أن باريس تلك ليست كالسابق على أي نحو كان، جعلها اختفاء السيارات مدينة صامتة ذلك الصمت الذي كشف حفيف الأشجار وطقطقة حوافر الخيول وهفيف أقدام الناس وهمهمة الأصوات، وفي صمت الشوارع والعتمة المفروضة عند الساعة الخامسة في الشتاء والتي يُعتبر أثناءها أضأل ضوء من النوافذ محظورًا بدت المدينة غائبة عن نفسها، مدينة “بدون عيون” كما كان يقول المحتلون النازيون، ويمكن أن يختفي البالغون والأطفال دون أثر من لحظة إلى أخرى، ولا شيء واضح أبدًا حتى بين الأصدقاء، والمحادثات ليست صريحة قط بسبب ذلك الشعور بالتهديد المعلق في الأجواء.

وفي كابوس باريس تلك -حيث يمكن لأي أحد أن يُتهم أو يُعتقل في تجمع على مخرج محطة ميترو- يحدث أن يتلاقى أناس لا يمكن لدروبهم أن تتقاطع في أوقات السلام، وفي وحشة حظر التجول تُولد علاقات حب سريعة دون أي يقين بلقاء في الأيام التالية، ويُولَد الأطفال كنتيجة لتلك اللقاءات القصيرة غالبًا المبتذلة أحيانًا، ولذلك فإن باريس الاحتلال كانت دائمًا بالنسبة لي نوع من الغيهب السحيق، لم أكن لأُولد بدونها قط، ولم تتوقف باريس تلك أبدًا عن ملاحقتي، وكتبي عن الانغمار في ضوئها المحجوب.

وفي هذا دليل على أن الكاتب يُعرف دومًا بتاريخ ميلاده وزمانه، حتى ولو لم يكن مرتبطًا بشكل صريح بحراك سياسي، أو حتى لو ترك انطباعًا أنه منعزل منغلق بعيدًا فيما يسميه الناس “برجه العاجي”، فبما أنه يكتب قصائدًا، فإنهن سيعكسن الزمن الذي يعيش فيه، ويُستحال أن يُكتبن في زمان آخر.

وهذا صحيح على نحو خاص في قصيدة للشاعر الإيرلندي العظيم ييتس “البجعات البريات في كول”، ودائمًا ما أجدها مؤثرة بعمق، فقد رأى ييتس بجعات ينزلقن فوق الماء في الحديقة العامة:

قد أتى عليّ الخريف التاسع عشر

منذ بدأت عَدِّي لأول مرة

رأيتهن جميعهن -قبل أن أنتهى تمامًا-

علون فجأة

وتفرقن أسرابًا في حلقات متكسرة عظيمة

على أجنحتهن الصاخبة.

ولكنهن الآن يندفعن نحو الماء الساكن

غامضات، جميلات،

خلال الاندفاعات التي يحدثنها،

بماذا تُبهج حافة البحيرة أو المسبح

عينيّ المرء عندما أستيقظ يومًا

لأجدهن قد طرن بعيدًا؟

تظهر البجعات عادةً في شعر القرن التاسع عشر، شعر بودلير ومالارميه، ولكن هذه القصيدة لييتس لا يمكن أن تكون قد كُتبت في القرن التاسع عشر، إذ أن لديها إيقاعها الخاص وسوداويتها الميلانخولية التي تضعها في القرن العشرين، بل حتى تضعها في السنة التي كُتبت فيها.

يشعر كاتب القرن العشرين في بعض الأحيان أنه مسجون من قبل زمانه أيضًا، وربما تجلب إليه القراءة لروائيي القرن التاسع عشر العظام مثل بلزاك وديكنز وتولستوي ودوستويفسكي شيئًا من النوستالجيا والتوق إلى الماضي، فالوقت في تلك الأيام أبطأ من اليوم، ويناسب ذلك البطء عمل الروائي إذ يسمح له بحشد طاقته وتركيزه، ويتسارع الوقت منذ ذلك الزمان ويمضي نحو الأمام في اندفاعات وانطلاقات شارحًا الفرق بين الصرح الأدبي الشاهق في الماضي ببنائه الشبيه بالكاتدرائيات وبين الأعمال المفككة والمتشظية اليوم. ومن وجهة النظر هذه فإن جيلي هو جيل انتقالي، وكم أنا فضولي لمعرفة كيف ستُعبر الأجيال القادمة -التي ولدت مع الإنترنت والهواتف المحمولة والإيميلات والتويتات- من خلال الأدب في عالم الجميع فيه متصل بشكل دائم والشبكات الاجتماعية تلتهم ذلك الجزء من حميميتنا وخصوصيتنا التي بقيت حتى مدة قريبة جدًا ملكية خاصة لنا، تلك الخصوصية التي منحت العمق للأشخاص، واستطاعت أن تصبح ثيمة رئيسية في الرواية، ولكنني سأبقى مثاليًا بخصوص مستقبل الأدب، وإنني على قناعة بأن كُتاب المستقبل سيحمون الإرث المتعاقب تمامًا كما فعل كل جيل منذ هوميروس.

وعلاوة على ذلك فإن الكاتب دائمًا ما يسعى للتعبير في أعماله عن شيء متجاوز لحدود الزمن حتى لو كان -كأي فنان آخر- مرتبط بزمانه إلى درجة عجزه عن الهروب منه، وكان الهواء الوحيد الذي يتنفسه هو هواء عصره وروحه، ففي إنتاجات راسين أو شكسبير نادرًا ما يهم إن ارتدت الشخصيات أزياء الحقبة أو أن المخرج أراد أن يُلبسها الجينز والجاكيتات الجلدية، فتلك تفاصيل غير مهمة، فتشعر أثناء القراءة لتولستوي –بعد قرن ونصف- أن أنا كارينينا قريبة جدًا منا إلى درجة أننا ننسى أنها ترتدي أزياء من سنة 1870، وهنالك بعض الكتاب مثل إدغار ألين بو أو ملفيل أو ستندال تم بعد قرنين من وفاتهم فهمهم بشكل أفضل مما فعل معاصرينهم.


الكاتب دائمًا ما يسعى للتعبير في أعماله عن شيء متجاوز لحدود الزمن.

في النهاية، ما المسافة التي يقف عندها الروائي بالضبط؟ على أطراف الحياة لكي يصفها، فلو انغمست فيها وفي أحداثها فإن الصورة التي تصلك ستتشوش، بينما لا تُحد تلك المسافة البسيطة قدرة الكاتب على الارتباط النفسي مع شخصياته والأشخاص الذين يلهمونه في الحياة الحقيقة، قال فلوبير “مدام بوفاري هي أنا”، وارتبط تولستوي فورًا بامرأة رآها ترمي نفسها تحت القطار في إحدى الليالي في محطة في روسيا، وتمضي هبة الارتباط أكثر من ذلك، إلى أن تمزج تولستوي بالسماء والأرض التي يصفها، وتسحبه كاملًا حتى أصغر رفرفة غزلية لرموش أنا كارنينا، وتتضاد تلك الحالة مع النرجسية لأنها تقتضي مزيجًا متلازمًا من نسيان الذات مع تركيز فائق حتى درجة لا تنسى معها أصغر تفصيلة، كما أنها تقتضي العزلة أيضًا، ولا يعني ذلك الالتفات إلى الداخل، بل السماح لك بتحقيق درجة من الانتباه والشفافية الفائقة أثناء مراقبة العالم الخارجي حتى تستطيع نقله إلى الرواية بعد ذلك.

لطالما اعتقدت أنَّ الشعراء والروائيين يستطيعون نقل الغموض للأشخاص الذين يظهرون مسحوبين في الحياة اليومية والنشاطات التي تبدو ظاهريًا عادية، والسبب في كونهم يقدرون على ذلك هو أنهم يراقبونهم مرة تلو الأخرى بتركيز متواصل، تقريبًا كالمُنَوَّم مغناطيسي، فتنتهي الحياة اليومية تحت ناظرهم مغلفة بالغموض، وتكتسب طبيعة تشبه الزينة الفسفورية التي لا تبصرها من النظرة الأولى، فهي مخبأة عميقًا جدًا، وإن دور الشاعر والروائي وأيضًا الرسام أن يكشف هذا الغموض والزينة الفسفورية الموجودَين في أعماق كل شخص، يخطر على بالي قريبي البعيد الرسام أميديو موديجلياني، ففي مجموعة من أكثر لوحاته إثارة اختار مجموعة من الأشخاص المجهولين كموديلز -أطفال وفتيات شوارع وخادمات ومزارعون صغار وحرفيون شباب-، رسمهم بضربات حادة لفرشاته حافلًا بذكريات تقليد توسكاني العظيم -بوتيتشيلي ورسامي مدرسة سينايسي من تيار كواتروسينتو-، ومنحهم أيضًا أو بالأحرى كشف الطهارة والنبل الموجودين بداخلهم وراء مظهرهم الذليل. يجب أن يرتحل عمل الروائي في نفس الاتجاه، يجب على مخيلته أن تنفذ إلى عمق الواقع بعيدًا عن الواقع المشوه، أن تكشف الواقع لنفسه مستخدمة قوة الأشعة تحت الحمراء وفوق البنفسجية لكشف ما هو مخبأ تحت المظهر، أؤمن أن الروائي في أفضل أحواله شخص مستبصر وحالم، وهو كجهاز قياس الزلازل أيضًا، متأهب لالتقاط الحركات التي بالكاد تُدرك.

دائمًا ما أفكر مرتين قبل أن أقرأ سيرة كاتبٍ أُقَدِّره، تُغرق السير الذاتية في بعض الأحيان في التفاصيل الصغيرة وقصص شهود عيان غير موثوقين، وتظهر السمات الشخصية مُحيرة أو محبطة، كل ذلك يشبه صوت الوش الذي يخالط ارسال الراديو جاعلًا الموسيقى والأصوات غير قابلة للسماع، فقط بالقراءة الفعلية لكتب الكاتب يمكننا أن نكسب علاقة حميمية معه، فحينها يكون في أفضل أحواله ويتكلم إلينا بصوت خافت بدون أي توقف.


أؤمن أن الروائي في أفضل أحواله شخص مستبصر وحالم، وهو كجهاز قياس الزلازل أيضًا، متأهب لالتقاط الحركات التي بالكاد تُدرك.

ومع ذلك ستكتشف أحيانًا أثناء قراءة سيرة كاتب ما حدثًا من الطفولة جدير بالملاحظة فهو البذرة التي ستشكل جسد مشروعه الأدبي المستقبلي، والذي ليس له دائمًا وعي واضح به، وهذا الحدث الجدير بالملاحظة يأتي في عدة هيئات ليسكن كتبه، وهذا يذكرني بألفريد هيتشكوك، إنه ليس بكاتب، ولكنه شخص لأفلامه قوة وتماسك الرواية، فعندما كان طفلًا بعمر الخمس سنوات أخبره والده أن يأخذ رسالة لضابط شرطة صديق له، فأوصلها، ليقوم الضابط بحبسه في غرفة الملاحظة في قسم الشرطة والتي تستخدم كزنزانة لحبس جميع أصناف المجرمين أثناء الليل، وبقي الطفل المرعوب هناك لمدة ساعة قبل أن يطلق الضابط سراحه شارحًا “إنك تعلم الآن ماذا يحدث عندما تتصرف بشكل سيئ في الحياة”. لابد أن ذلك الضابط وأفكاره الغريبة إلى حد ما حول تربية الأطفال من يقف خلف أجواء القلق والتوتر الموجودة في جميع أفلام ألفريد هيتشكوك.

لن أزعجكم بقصتي الشخصية، ولكنني أعتقد أن بعض حلقات طفولتي غرست بذرةً ستصبح كتبي فيما بعد، لطالما كنت بعيدًا عن والديّ، مقيمًا مع أصدقاء لا أعرف عنهم شيئًا تقريبًا في سلسلة متعاقبة من المنازل والأماكن، لا شيء يُبهر الطفل في ذلك الوقت، حتى المواقف الغريبة تبدو طبيعية جدًا، وفي وقت لاحق عصفت بي طفولتي كلغز مبهم وحاولت أن أعرف أكثر حول الأناس المختلفين الذين تركني والداي معهم وتلك الأماكن التي استمرت في التغير، ولكنني لم أستطع أن أتعرف على معظم أولئك الأشخاص ولا أن أحدد موقع جميع تلك الأماكن والبيوت الماضية بدقة طبوغرافية، ودفعني ذلك لأن أحاول حل اللغز بدون نجاح حقيقي، ومنحتني محاولة كشف الغموض الرغبة في الكتابة، كما لو أن الكتابة والخيال سيسستطيعان أخيرًا مساعدتي على ربط كل تلك النهايات المهلهلة.

وبما أننا نتحدث عن الألغاز والغموض وبسبب تلك الأفكار يقفز إلى ذهني عنوان رواية فرنسية من القرن التاسع عشر “أسرار باريس”، ترتبط المدينة –التي صدف أن تكون باريس مدينة ميلادي- بانطباعات طفولتي المبكرة، وكانت تلك الانطباعات من القوة أنني باستمرار أستكشف “أسرار باريس” منذ ذلك الوقت، فعندما كنت بعمر التسع أو عشر سنين حدث أن تمشيت لوحدي، وبالرغم من أنني كنت مرعوبًا من  أن أضيع إلا أنني استمريت بالمضي أكثر فأكثر في أحياء لا أعرفها على الضفة الشرقية لنهر السين، كان ذلك في النهار مما طمأنني، وعند بداية المراهقة عملت بجد للتغلب على خوفي فأخرج ليلًا بعيدًا جدًا بالميترو. بهذه الطريقة يمكنك أن تتعرف على المدينة، لقد كنت أتتبع نماذج الروائيين الذين أقدرهم من القرن التاسع عشر والذين كانت المدينة –سمها باريس أو لندن أو سانت بطرسبيرج أو ستوكهولم- خلفية كتبهم أو أحد ثيماتها الرئيسية.

في قصته القصيرة “رجل الجمهور” كان إدجار ألان بو من بين أوائل الذين استحضروا الأمواج البشرية التي راقبها خارج نافذة المقهى تمشي على الأرصفة في سلسلة لا منتهية، إلتقط رجلًا عجوزًا بمظهر غير إعتيادي وتتبعه طوال الليل إلى أماكن مختلفة في لندن لكي يعرف الكثير عنه، ولكن الرجل المجهول هو “رجل الجمهور”، وإنه لا معنى لتتبعه لأنه سيبقى دائمًا مجهولًا، ومن المستحيل أن تعرف أي شيء عنه، فلا وجود ذاتي له، هو ببساطة مجرد جزء من جمهور المشاة السائرين في صفوف متعاقبة أو المتزاحمين في الطرقات وفاقدي أنفسهم فيها.

أذكر أيضًا شيئًا حصل للشاعر توماس دي كوينسي عندما كان شابًا، وترك فيه أثرًا لبقية حياته، ففي لندن في زحمة شارع أوكسفورد كون صداقة مع فتاة، واحدة من لقاءات الصدفة تلك التي تحدث في المدن، وقد قضى في رفقتها عدة أيام قبل أن يضطر لمغادرة لندن لأيام قليلة، واتفقا أن تنتظره بعد أسبوع كل ليلة في نفس الوقت في زاوية شارع جرايت تيتشفيلد، ولكنهما لما يشاهدا بعضهما قط مرة أخرى.

“لو كانت حية فبالتأكيد وبدون شك سيصدف أن نبحث عن بعضنا البعض عبر متاهات لندن المهولة في وقت ما في نفس الوقت تقريبًا، وربما على بعد أقدام قليلة من بعضنا البعض، وغالبًا حائل ليس أعرض من شارع من شوارع لندن سيعادل في النهاية فراقًا أبديًا.”

وبمرور السنوات يثير كل حي وكل شارع في المدينة ذكرى ولقاء وندم ولحظة سعادة لأولئك الذين ولدوا هنا وعاشوا هنا، فعادة يرتبط الشارع الواحد بسيل من الذكريات إلى حد أن تصبح طوبوغرافية المدينة حياتك كلها، وأيضًا حياة آلاف وآلاف من البشر الآخرين المجهولين الذين يعبرون أرصفة الشوارع أو الميترو في ساعة الذروة، ويستدعيها العقل في طبقات متوالية كما لو أنك تفك شفرة كتابات متراكبة على مخطوطة أثرية جلدية تم غسلها والكتابة عليها عدة مرات منذ القدم.

ولذلك فإني في شبابي حاولت لمساعدتي على الكتابة أن أجد دليل هاتف باريسي قديم، وتحديدًا أحد تلك الأدلة التي تسرد الأسماء بالشارع ورقم البناية، وقد شعرت أثناء تقليبي لصفحات الدليل أنني أنظر إلى إكس راي المدينة، مدينة غارقة مثل أطلانطيس، وأنني أتنفس شذا الزمان، وبسبب مرور السنوات كان الأثر الوحيد الذي تركه هؤلاء الآلاف المؤلفة من الأشخاص المجهولين هو أسماؤهم وعناوينهم وأرقام تيليفوناتهم، ويختفي اسم في بعض الأحيان من عام إلى العام الذي يليه، إن هنالك شيء مزعج في تصفح كتب الهاتف القديمة والتفكير بأن الاتصال بأحد تلك الأرقام ربما لن يُجاب الآن ولا فيما بعد، ولقد اكتشفت في وقت لاحق مقاطع شعرية من قصيدة لأوسيب مانديلستام:

عدت إلى مدينتي رفيقة الدمع،

إلى أوردتي ولوزتَيّ سنوات الطفولة،

بطرسبيرج (…)

حافَظْتِ على أرقام تيليفوناتي حية طوال ذلك الوقت.

بطرسبيرج لا زالت العناوين في حوزة اليد،

تلك التي سأستخدمها لأستعيد صوت الموت.

ولذلك يبدو لي أن الرغبة لكتابة كتبي الأولى أتتني وأنا أنظر في كتب التليفونات الباريسية القديمة، وكل ما توجب عليّ فعله هو أن أضع خطًا بالقلم الرصاص تحت الاسم والعنوان ورقم الهاتف لبعض الأشخاص المجهولين من بين المئات والمئات من آلاف الأسماء، وأن أتخيل كيف كانت حياته أو حياتها.


أؤمن أن الروائي في أفضل أحواله شخص مستبصر وحالم، وهو كجهاز قياس الزلازل أيضًا، متأهب لالتقاط الحركات التي بالكاد تُدرك.

يمكنك أن تفقد نفسك وتختفي في مدينة كبيرة، بإمكانك حتى أن تغير هويتك وتحيا حياة جديدة، و يمكنك الانخراط في تحقيق طويل جدًا للبحث عن أثر لسبق الإصرار والترصد ابتداءً بعنوان أو عنوانين في حي معزول، ولطالما فتنتني الملحوظة القصيرة التي تظهر في محاضر البحث: “آخر عنوان معروف”. ترتبط ثيمات الاختفاء والهوية ومرور الوقت ارتباطًا وثيقًا بطوبغرافية المدن، ولذلك كانت المدن منذ القرن التاسع عشر أقاليم ومناطق للروائيين، وبعض الكتاب ارتبط بمدينة واحدة فقط، بلزاك وباريس، ديكنز ولندن، ودوستويفسكي وسانت بطرسبرج، طوكيو وناجاي كافو، ستوكهولم وهيلمار سودربرغ.

إنني من الجيل الذي تأثر بهؤلاء الكتاب، والذي أراد بدوره استكشاف ما سماه بودلير “الطيات المتعرجة للعواصم القديمة”، بالطبع تتغير المدن منذ خمسين سنة، بعبارة أخرى منذ خَبِرَ مراهقي جيلي أحاسيس قوية باستكشاف مدنهم، بعض المدن في أمريكا وما يسميه الناس عالمًا ثالثًا أصبحت مدنًا ضخمة (ميجا سيتيز)، وبلغت أبعادًا متعبة للأعصاب، وتوزع غالبية سكانها في أحياء مهمشة ليعيشوا في أجواء من الصراع الطبقي، وتتزايد أحياء الفقراء عددًا، وتتمدد دائمًا أكثر فأكثر. في القرن العشرين حافظ الروائيون على نظرة رومانسية إلى المدينة أكثر أو أقل، ولا تختلف كثيرًا عنها عند ديكنز أو بودلير، وذلك سبب توقي لمعرفة كيف سيستحضر روائيو المستقبل هذه التجمعات المدنية الضخمة في أعمال متخيلة.

باعتبار كتبي لقد كنتم كرماء حينما أشرتم قائلين “فن الذاكرة الذي استطاع به استحضار مصائر البشر العصية على الإحاطة”، لكن هذا التعليق أكثر من أن يكون عني فقط، إنه عن نوع مميز من الذاكرة الذي يحاول جمع القطع والأجزاء من الماضي وبعض الآثار التي تركت على الأرض من المجهولين وغير المعروفين، وذلك مرتبط أيضًا بتاريخ مولدي سنة 1945، أن أكون مولودًا في 1945 بعد أن هُدِّمت تلك المدن واختفت قطاعات من السكان عن بكرة أبيها، لابد أنه جعلني مثل الكثيرين في عمري أكثر حساسية لثيمات الذاكرة والنسيان.

لسوء الحظ لا أعتقد أن تذكر الأشياء يمكن أن يحدث بقوة مارسيل بروست وصراحته، فالمجتمع الذي وصفه كان مستقرًا، مجتمع القرن التاسع عشر، جعلت ذاكرة بروست مجتمع الماضي يعاود الظهور بكل تفاصيله كصورة حية، واليوم لدي شعور بأن الذاكرة أقل ثقة بنفسها ومنخرطة في صراع مستمر الضد النسيان والفقدان، تلك الطبقة من النسيان وذلك المقدار منه الذي يمحو كل شيء، والذي يعني أننا نستطيع فقط أن نلتقط شظايا الماضي والأدلة المنفصلة والمصائر الإنسانية المنسلة والعصية على الالتقاط.

مع ذلك ينبغي أن تكون مهمة الروائي عندما يواجه صفحة النسيان الفارغة أن يجعل القليل من الكلمات المختفية مرئية مرة أخرى كجبل جليدي ضائع يهيم على سطح المحيط.

      * محاضرة باتريك موديانو على هامش نيله لجائزة نوبل للآداب 2014.




التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads