الرئيسية » , , » ستيفن كوتش: كيف تشكّل قصّتك؟ | ترجمة: نهى الرومي

ستيفن كوتش: كيف تشكّل قصّتك؟ | ترجمة: نهى الرومي

Written By هشام الصباحي on الاثنين، 9 نوفمبر 2015 | نوفمبر 09, 2015

ستيفن كوتش: كيف تشكّل قصّتك؟
ترجمة: نهى الرومي

الكُتاب لا يختلقون القصص، بل يجدونها، يكشفونها، يكتشفونها.

يحاط الروائيون في بداياتهم بشتى أنواع الارْتياع، وأرى من خبرتي أن الخوف الأوحد الأكثر ضراوة هو الخوف من رواية القصة نفسها. شهدت هذا الخوف يهاجم ويحطّم ثقة كتّابٍ يانعين مئة مرة، حتى -بل وأحيانا على وجه الخصوص- أصحاب المواهب الفذة.

كتابٌ يافعون، كانوا يحلقون عاليا على فكرة جديدة حين رأيتهم آخر مرة، متحمِّسين وملهَمين ومنهمكين في العمل، يأتون مكتبي مرارًا شاحبين، يوصدون الباب وراءهم، ويجلسون متسمرين للبوحِ بسرهم المصون، أن شيئا ما يُفتقد من بقجة موهبتهم الأدبية: لم يقدروا على صنع قصة. مجرد الكلمة “قصة” تشلّهم كما تشلّ مصابيح السيارة العلوية الغزال، الكلمة المهيبة أحادية المقطع في الانجليزية Plot /الحبكة، تؤثر فيهم كما يفعل الكريپتونايت، ما إن يلمحوها حتى يتقهقروا عاجزين.

بدا اعترافهم مغلفًا بالخزي، أكانوا يخدعون أنفسهم؟ روائي لا يقدر على ابتداع رواية إنما هو أضحوكة، كسبّاحٍ لا يعرف الغطس، أو موسيقي لا يستطيع مواكبة لحن.

وأكاد أجزم أنني أحيانا أخرى ألمح التماعة إباء في أعينهم، ما الضير إن كانوا يواجهون صعوبة في الحبكة؟ ألا تحمل رواية القصص طابعًا دونيّا على أية حال؟ أليس للنثر ذي الحبكة المسيّرة سمعة -لنقل- دعائية؟ لربما كان ذلك القصور في رواية القصة دليلٌ على حسن ذائقتهم. وفي نهاية المطاف، ألم يصف هنري جيمس شخصيا الحبكات بالابتذال؟ قد لا يهمهم حقًّا تحويل مشروعهم إلى رواية.

كنت في سنوات تدريسي الأولى، وبعدما شهدت تكرر هذا الخوف المدمِّر وتسويغه قرابة خمسين أو ستين مرة، أدركت أن الأمر لا يتعلق بخللٍ افتراضي في كل هؤلاء الموهوبين الشبان، بقدر ما يتعلق بمشكلة مشتركة أكبر، معضلة محيرة في الفن بحد ذاته.

هنا، حيث منظومة من مختلف الروائيين اليافعين، الموهوبين، يحزنون لنفس المصاب. لم أستطع أن أصدق أن جميعهم يعانون من عجزٍ فطريٍّ كرواة، رغم أنهم ما انفكوا يرددون: “لا أقدر على الحبكة”، فلم يكن ذلك إلا نبوءة ذاتية التحقّق.

إلا أن الأمور كانت تسير على نحو سيء، فظلوا يطوفون حول موقف ما، أو شخصية، أو صورة، أو هاجس لاح لهم بقصة، لكنهم لم يستطيعوا الشروع فيها قدما مهما حاولوا. كان دخانا، كلما طالوه اختفى، حتى شتتهم.

أغلب أولئك الناشئين، يعتقدون أنَّ الروائيين الحقيقيين -القلة السعيدة- يؤلفون القصص بطريقة سحرية تستعصي على البشر ضعاف الشأن أمثالهم، وأن القصص توحى “للروائيين الحقيقين” -تلك النخبة الغامضة- كاملة ومثالية وبليغة من وهلة الإلهام الاولى فصاعدًا.

ما عليهم إلا أن يتمنوا قصة، وستطير بهم هبتهم “الحقيقية” على أجنحة البصيرة الأسطورية نحو رواية بديعة. لا ينتهي بهم الأمر أبدا في مكتب ما، قابضين على كومة من الورق دون قصة، وفوضى لا تثبت سوى انهم ليسوا روائيين “حقيقيين” على الإطلاق.

أحسَّ طلابي بالخيانة، كادوا يكونون “حقيقيين”، قريبين بلا جدوى، بكيفية ما، سقطت تلك الهبة المصيرية سهوًا من تكوينهم الجيني، افتقروا الى أحوج ما يحتاجون.

ودائما ما لا يكون هذا إلا هترًا، لم يعاني هؤلاء الكتّاب من أي دغل في موهبتهم، ولم يعانوا حتى من غياب القصة، بل من الحضور المغيظ والمُجن لقصة عجزوا عن إمساكها في قبضتهم. إنهم يعذّبون بدنوّ رواية لم يستطيعوا صياغتها او تعريفها إلا في أكثر الأشكال إبهامًا. إن يكادوا ليملكوا قصة غير متاحة لهم، حتى اللحظة.

لقد بدأوا بداية جيدة، استثار خيالهم موقف أو شخصية أو مكان ما، أحسو أنه قد يحمل في ثناياه قصة، وانهمكوا فيه. وأخذت الأشياء الجيِّدة في الحدوث، ظهرت شخصيات وتجمعت صفحات، وكان النثر مثيرا للإعجاب حقًا، لحظات قوية، وسطور متينة، ولا شيء يذكر من قصة بعد.

بدأ عمل كل يوم ببعض من قصة، وانتهى كئيبًا دون زيادة تذكر. وبمُضي عددٍ كافٍ من أيام كهذه، يبدأ الإلهام بالتداعي ثم يختلج ليصير خوفًا. يخبرون أصدقاءهم أنهم يكتبون شيئًا، ويسألهم أصدقاؤهم عما يكتبون، ولم يعرفوا تمامًا ما يقولون: “إنها قصة عن.. عن..”، ويتلعثمون. يتصاعد عذر واهٍ الى شفاههم. يحدِّقون في وجوه حائرة. كان مخزيًا، لم يستطيعوا حتى ان يأتوا بسطر عنها. كان يقودهم للجنون، ويُلبس إلهامهم القيّم حُلّة الهُراء.

هلع القصة، قنوط القصة! الذي دفعهم لزيارتي. في الفصل الأول اوضحنا ان الاصل اللاتيني لكلمة Invent ( أي: يستحدث / يخترع)، هو Discover أي: يكتشف. الكُتاب لا يختلقون القصص، بل يجدونها، يكشفونها، يكتشفونها. يجدونها أحيانا في العالم الواقعي، وأحيانا أخرى في غوْر خيالاتهم. وفي كلتا الحالتين يؤلفون القصص بإيجادها، والعكس صحيح، يجدون تلك القصص ذاتها بتأليفها، ما الذي يأتي أولا؟ هنا مكمن الحيرة، التأثير المتبادل بين اختلاق القصة والتنقيب عنها.  ولن يفرق خيالك دومًا بينهما.

أخفق زائرو مكتبي في استيعاب ذلك أو تذكّره، قد نسوا في ذعرهم أن صناعة القصة هي تحرًّ، وعوَضا عن ذلك حاولوا صناعتها من السراب. ولم يجدوا في السراب قصة تنتظرهم؛ وحيث أنهم لم يبحثوا في المكان الصحيح، كان من الطبيعي أن لا يجدوا شيئا مطلقًا.

البحث عن قصة مسألة مسايرة تمهيدية متأنية وهادئة وحذرة، لمجموعة من العناصر: شخصيات أو أماكن أو مشاهد أو آمال أو مخاوف، احتمالات الدراما الخفية المخبأة في طيات ما نعرف. ما إن يُحفَّز خيالك، حتى تعرف أو تشعر بحضور تلك العناصر التي تتكتّل حول ما تعرفه حدسيّا بطريقة مستترة وخرساء ساكتة. تحتاج كل واحدة أن تخرج وتصاغ بروية وعناية.

إنها مسيرة استكشافية وقلّما تحدُث بسرعة وسهولة. وغالبا ما تكون المرحلة الأبطأ والأطول والأدق في عملية الكتابة كلها. لم يعرف طلابي الوجلون حتى مرحلة متأخرة، أن الكُتّاب “الحقيقيين” على الأرجح ما زالوا ينقّبون عن العناصر الأساسية في قصة مراوغة ومبهمة. يضيفون لمسات حاسمة وحتى تغييرات جذرية في لحظات العمل الأخيرة. يواجه الفُصَحاء صعوبة بالغة في تحمل عجزهم عن التعبير أمام ما يثيرهم. والجالسون في مكتبي فصحاء مُخرسون أمام قصة لم يتمكنوا من صياغتها، بعد؛ لكنهم لم يعلموا أن سرد الرواية -كل الرواية- يبدأ تحديدًا من هذام الوجوم.

المصدر : تكوين

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads