الرئيسية » , , , , , , , , » ستيفن كينغ: أيمكن للروائي أن يكون غزير الإنتاج؟ | ترجمة: أحمد عادل محمد

ستيفن كينغ: أيمكن للروائي أن يكون غزير الإنتاج؟ | ترجمة: أحمد عادل محمد

Written By هشام الصباحي on السبت، 26 سبتمبر 2015 | سبتمبر 26, 2015


هناك العديد من الأطروحات المسكوت عنها في النقد الأدبي، إحداها هي أنه كلما كتب المرء، كلما قلت أهمية عمله. جويس كارول أوتس، كاتبة أكثر من 50 رواية (دون ذكر الـ11 المكتوبين تحت أسماء مستعارة: روسمند سميث و لورين كيلي)، تفهم تمامًا قلة فائدة النقاد لهؤلاء الكتاب الغزيرين. في أحد يومياتها كتبت أنها راحت تصنع “المزيد، بالطبع، أكثر مما يسمح به العالم الأدبي للكاتب (الجاد)”..

ومثل العديد من الأطروحات التي تتطرق إلى المفاهيم غير الموضوعية، فكرة أن الكتابة الغزيرة تعادل الكتابة السيئة يجب أن تعامل بحذر. غالبًا، ما تكون حقيقية. بالتأكيد لن يضع أحدٌ روائيَّ الغموض جون كريسـي ، كاتب أكثر من ٥٦٤ رواية تحت ٢١ اسمًا مستعارًا مختلفًا، في قاعة أبطال الأدب؛ هو وأعماله (المتهندم، المفتش روجر ويست، سيكستون بيلاك، إلخ.) صاروا منسيين.

ينطبق الشيء نفسه على الروائية البريطانية أورسولا بلووم (أكثر من ٥٠٠ عمل منشور تحت العديد من الأسماء المستعارة)، وأيضًا الروائية باربرا كارتلاند (أكثر من ٧٠٠ عمل) وحشد من الآخرين. يذكُر الواحد مقولة ترومان كابوتي الشهيرة عن الروائي والشاعر جاك كيرواك :“هذه ليست بكتابة، هذا ضرب على الآلة الكاتبة”.

لكن بعض الكتاب الغزيرين دمغوا انطباعًا عميقًا في الوعي العام. خذ عندك أجاثا كريستي، يمكن القول بأنها كاتبة القرن العشرين الأكثر شعبية، التي لا تزال أعمالها الكاملة تطبع. كتبت ٩١ كتابًا، ٨٢ باسمها وتسعة آخرين تحت أسماء قلمية- ماري ويسماكوت- أو اسم زواجها، أجاثا كريستي مالوان.

قد لا تكون هذه الروايات أدبية، لكنها أبعد ما يكون عن العصيدة التي صنعها جون كريسـي بكتابته، وبعضها جيد لدرجة تلفت الأنظار. أعطتنا كريستـي الشخصيتين -الآنسة ماربل وهرقل بوارو- اللذين حققا نوعًا من الخلود. أضف إلى ذلك الوحدة الأسلوبية والموضوعية لروايات كريستي (الدفء الوثير للأماكن والصور النـمطية البريطانية، الموضوعة في سياقها المدهش الذي يحتفي بالطينة الإنسانية في هدوء). ويجب على المرء الاطلاع على هذه الكتب في أوقات مختلفة.

ونفس الشيء يمكن أن يقال عن الكاتب غزير الإنتاج، بمنتصف القرن العشرين جون دي ماكدونالد. الآن تبدو روايات (شخصية) ترافيس ماكجي عتيقة بشكل محرج، والعديد من رواياته الأربعين القائمة بذاتها مزيج لا يهضم من إرنست هيمنغواي وجون أوهارا، لكن عندما نسـي ماكدونالد أبطاله الروائيين وكتب لنفسه بالأخص، قام بأعمال أخاذة. أفضل رواياته “نهاية الليل” و”آخر من بقى”، ترقى لمنزلة الوحش متغير البنية الذي نطلق عليه الأدب الأمريكي.

لا أحد في عقله المتزن يستطيع أن يجادل أن الكم يضمن الجودة، لكن أن يُقترح أن الكم لا يؤدي أبدًا إلى الجودة يبدو لي قولًا مغرورًا، تافهًا وغير صحيحٍ بالمرّة.

إذا فلتنظر للطرف الآخر من المعضلة. دونا تارت، واحدة من أفضل الروائيين الأمريكيين الذين ظهروا في آخر خمسين عام، نشـرت ثلاثة روايات فقط منذ عام ١٩٩٢. جوناثان فرانزين، الروائي الأمريكي الوحيد الذي يقف لها على قدم المساواة، نشر خمسة روايات (آخرها، “النقاء”، التي ستظهر يوم الثلاثاء).

ومن السهل أن ننظر إلى هذه الحفنة من الكتب، كلها تفوق العادة في جودتها، ونستنتج أن الأقل أفضل. ربما: فـ فيليب روث الذي تقاعد مؤخرًا كتب أضعاف ما كتب الاثنان مجتمعين، و رغم ذلك رواية “عصابتنا” التي كتبها كانت فظيعة للغاية. ولكن بعد ذلك، تبدو لي رواية “الريفي الأمريكي” أحسن بكثير من رواية السيدة دونا تارت “الحسون”[i] أو رواية “حرية” للسيد فرانزن.

أنا سكير مُتعاف، لم أشرب تقريبا لـ ٢٧ عامًا، وفي هذه الأيام نادرًا ما تراودتني فكرة الشـرب. سوى أنه عندما أفكر في تلك الروايات الثمانية للسيدة تارت و السيد فرانزين – التي لا تكفي لملء حتى ربع رف لمكتبة – أتذكر على الفور غداءً تناولتُه مع زوجتي بعد أن تعافيتُ بوقت ليس بطويل.

كانت هناك سيدتان كبيرتان في السن على طاولة قريبة. كانتا تتحدثان بحماسة شديدة عن وجبتيهما، في حين ظل كأساهما نصف ممتلئين بالنبـيذ الأبيض في وسط الطاولة منسيين. شعرت برغبة قوية للقيام من مكاني والتحدث إليهما. سوى أن ذلك لم يكن صحيحًا. شعرت برغبة في التنـمرّ عليهما. أن أقول، “لم لا تشـربان نبيذكما؟ إنه موجود هنا، بحق المسيح. لا يستطيع بعضنا شـرب النبيذ، ليس لدينا هذه المزية، ولكن أنتما تستطيعان، فلم بحق الجحيم لا تشربان؟”

ومثل ذلك، تجعلني الانقطاعات الطويلة من هؤلاء الكتاب الموهوبين، أجنّ، بين كل كتاب وآخر. أتفهم أن كل واحد منا يعمل بسرعة متفاوتة عن الآخر، وله طريقة مختلفة قليلًا. أتفهم أن هؤلاء الكُتاب مثابرون، يريدون كل جملـة – كل كلمة – أن تحمل ثقلًا (أو، إذا استعرنا عنوان واحدة من أروع روايات جوناثان فرانزن، أن تحمل إيماءة جبارة). أعلم أن الكسل ليس السبب في ذلك، لكنه احترام العمل ذاته، ومن شُغلي أفهم تمامًا أن في العجلة الندامة.

ولكني أيضًا أعرف أن الحياة قصيرة، وأنه في نهاية المطاف، لا أحد منا يعدُ غزيرًا في إنتاجه. إن شرارة الإبداع تخفت، ومن ثم يطفؤها الموت. ويليام شكسبير، على سبيل المثال، لم ينتج مسرحية جديدة منذ ٤٠٠ سنة. هذه، يا أصدقائي، نوبة جفاف.

هذه ليست طريقة ملتوية لتبرير غزارة إنتاجي. نعم، لقد نشرت أكثر من ٥٥ رواية. نعم، لقد استخدمت اسمًا مستعارًا (ريتشارد باكمان). نعم، لقد نشـرت مرة أربعة كتب في سنة واحدة (مثل الكاتب جيـمس باترسون.. إلا أن كتبي كانت أطول، وكتبت دون مشاركة أحد)[ii]. ونعم، لقد كتبت رواية “الهارب” في أُسبوع واحد. لكني أستطيع القول، بصدق تام، أن الخيار لم يكن على الإطلاق بيدي.

لما كنت شابًا، رأسي كان أشبه بصالة سينما مزدحمة وفيها صاح أحدهم:”حريق!” فاندفع الجميع نحو باب الخروج في نفس الوقت. كانت لدي ألف فكرة ولكن عندي عشرة أصابع فقط وآلة كاتبة واحدة. في بعض الأيام -أنا لا أمزح، أو أبالغ- ظننت أن الأصوات الصاخبة بذهني ستقودني للجنون. في ذاك الوقت، في العشرينيات وأوائل الثلاثين، طالما فكرت في قصيدة جون كيتس التي تبدأ بـ

“عندما تراودني مخاوف أني سأموت

قبل أن يلتقط قلمي احتشاد رأسي”.[iii]

أتصور أن الأمر كان على هذا النحو مع فريدريك شيلر فاوست، المعروف باسم ماكس براند (والمشهور بأنه خالق شخصية د.كيلدار). كتب ٤٥٠ رواية على الأقل وهو إنجاز يعد أكثر إذهالًا بسبب سوء حالته الصحية ووفاته المبكرة في سن الـواحدة والخمسين. ألكسندر دوما كتب “الكونت دي مونت كريستو” و”الفرسان الثلاثة” – ونحو ٢٥٠ رواية أخرى. وهناك إيزاك إيسموف، الذي باع أول قصة قصيرة له في الـ ١٩ من عمره، وصاغ أكثر من ٥٠٠ كتاب، وأحدث ثورة في الخيال العلمي.

نظريتي هنا بسيطة: إن غزارة الإنتاج أمر لا مفر منه في بعض الأحيان، وله مكانته الخاصة. التعريف المقبول – “إصدار الكثير من الثمار، أو الأوراق، أو العديد من الأبناء” له صدى إيجابي، في أذنيّ على الأقل.

لا يشعر الجميع بذلك. أذكر حفلة ألقى فيها مُحكم للذوق الأدبي (لم يعينه أحد) نكتة، أن جويس كارول أوتس أشبه بامرأة عجوزة عاشت في ضنك، ولديها الكثير من الأطفال لدرجة أنها لا تعرف ماذا تفعل. في الحقيقة، تعرف السيدة أوتس تماما ماذا هي فاعلة، ولماذا تفعل ذلك. “لدي المزيد من القصص لأقولها” تكتب في يومياتها و “المزيد من الروايات”. أما أنا فمسرور لذلك، إذ أنني أود قراءتها كلها.

الهوامش:

[i]  نوع من الطيور. 

[ii]  كاتب أمريكي نشر ما يزيد عن كتاب في عدة سلاسل روائية بعضها تخطى عشرين رواية قصيرة. يوجه له النقاد اتهامًا بأنه يسعى للكسب المادي، دون الالتفات لحرفة الكتابة نفسها، ويستدلون بذلك أنه عادة ما يشترك معه كاتب آخر في أعماله. يحمل تصنيفًا في موسوعة جينيس للأرقام القياسية بسبب كونه أول كاتب يبيع مليون نسخة من كتابه الإلكتروني.

[iii]  أشهر قصائد جون كيتس، يحاكي فيها مخاوفه من أن يموت قبل أن يخط كل
أفكاره على ورق

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

Google ads