لسْتَ جداراً حتّى تبْقَى
أحجارُك في مكانِها
وتبنِيَ مِن إسْمنت القرون زمناً ينادي
هذه فصولٌ ترفَعُ إليكَ شكوى الرّياح
هذه حقولٌ تئِنّ تحْت جِبالِ الغبار
ألْبَسَها الليلُ الطويلُ ثوبَ الغياب
وأنتَ في صمودِكَ لا تقولُ:
صدري بركانٌ في لهيبِ الاحتراق
قلْ يا جدارُ
هلْ تسلّقتَ مخاطرَ النّسيانِ
أثراً دونَ مفاتيحِ العصور
وقدْ عشّشتْ في حناياك بقايا عنكبوت لا تموت
قلْ يا جدارُ هلْ أحببتَ أرْضاً عصِيّةً
تأبى سبْيَ المعاني
ولمْ يكنْ لها شفتان
حتّى تبوح
أنا الحبلى بأحلامك فلِمَ لم تحْمِ سُهادَك
مِنْ فراغ البَيان
يختنقُ بِحبلِ الكلام
مستديراً في سكون الحركات
وكمْ مِنْ ماضٍ عادَ مهزوما كالقربان
قمْ يا جدارُ وسِرْ بين شراييني
فقد كبّلتْ مساربي الرّمالُ
هذه شواهدُ شاهقة تردِسُ طريقي وهو ركام
لا تشهقْ، هذا كفّي يمسحُ على جبهتِكَ آثارَ جُرْحٍ قديم
لا تَتِهْ، لا تمْحُ، حبْري وقدْ جفّتْ خُطاي مِنْ سيْر يتيم
قمْ يا جدارُ وامْشِ في خضمّ تاريخٍ
أثقلَ كابوسُهُ وضحَ النهار
وحُبّي لمْ يكتمِلْ زهْراً
كبُرْعُمٍ نامَ ولمْ أنمْ سهْواً عن ربيعٍ عسير
قمْ يا جدارُ واكتُبْ حروفي على جسَدِ الأحجار
فللوشْمِ احتدامٌ في دفاتر الهَوى
وفي جذوري أشجارٌ و ثمار
منْ علّمَ الصلاة هدر الدّماء
منْ علّمَ الجهل آياتٍ دون أصْلٍ وأصول
اِحمِلْ يا جدارُ فسيْفسائي
فيها أحبّتي يعانقون الشموس والأقمار
كمْ مِنْ صرْحٍ كان كالرّبّان
يتحدّى العواصفَ دون مِجداف
وكنت أبني منَ البحرِ موْجاً عزيزا
أنا الشاطئ الملآن بأصدافك
درّةً في الظلماء
توَلِّدُ نوراً ولا تذوب
لا تكنْ رذاذ زيْفٍ يا جدارُ
لغتكَ سحابُ العابرين وصيفُكَ مسروقٌ مٍنَ الضّياء
كنِ الضّياءْ وسابِقْ ناعورة قلبي في هدير الماء
حلّقْ في السماء
ما أساريرُك إلاّ جداول تصدّ أبواب التجاعيد
وهي تنهار
لا تخْش صدْع الطّين يا جدار
لا تكن سديم حصار
هذه ربوع لمْ تتحصّنْ من توابيت الأحياء
ولِلْعشبِ منَ الدمِ أنهارُ
اَمطِرْ يا جدارُ
فصحرائي ملأتْها القفارُ
قوافلها كأشباح ظلٍّ مُخيف
أنا المختصرُ هضابَ الأسى
أجري دون سهول
احمِلْ حبّي في ثنايا الكِساء
وللجبل قمّة تستاء من تواطؤ الغار
كواسرُه كالزّواحفِ دون حَياء
قلْ يا جدارُ
أأنت مِنْ مواليدِ الصّخور
وأجنحةِ النسور
أم باتت أحجارك أكداساً دون طحن
ترتطم بأحجاري
باريس 2015
* شاعر وأكاديمي تونسي مقيم في باريس. آخر منشوراته : "حنين الورود البّرية"، المنار، باريس، 2014، "شعر من فلسطين"، أنطولوجيا، المنار، 2013، "في ذكرى يونس امرئ" بالعربية والفرنسية، إليزاد، تونس، 2012.
